الفصل 52
كل ما حدث كان سلسلة من المفاجآت المتتالية، حتى شعرت وكأن روحي تهوي إلى وادٍ سحيق لا قرار له.
“…جيوفينيتا؟”
ما الذي تفعله هنا؟ لم أستطع تقبل الموقف، فدارت بي الدنيا حتى بالكاد استطعت أن أفتح عيني.
“أنا أيضًا رأيتها صدفة أثناء مروري بالجوار.”
“…ما الذي تحاولين قوله؟”
هززت رأسي ببطء، فابتسمت جيوفينيتا ابتسامة خبيثة.
“لقد رأيت تلك الخادمة وهي تحاول بكل ما أوتيت من قوة إنقاذ إيرينيا، التي كانت على وشك إلقاء نفسها في البركة.”
اتهمات متتالية لا تُصدق انهمرت عليّ، ولم يكن أمامي سوى أن أرتجف. شعرت بدوار شديد واضطررت للتمايل.
“م-ما الذي تهذين به؟”
ظهور جيوفينيتا المفاجئ صاحبه سيل من الهجوم العنيف نحوي.
“إيرينيا، لا تقولي إنك تظنين أنني أكذب؟”
لكن الكونتيسة إلڤيرا، التي كانت تراقب الموقف، فجأة أظهرت معرفتها بها.
“كنت أتساءل من تكونين، أليست الآنسة جيوفينيتا؟ لقد التقيتِ بجلالة الإمبراطورة هذا الصباح، وها أنت هنا!”
وعندها بدأ الحضور يتهامسون من جديد.
“آنسة تعرف الإمبراطورة شخصيًا؟ لا يمكن لشخص كهذا أن يكذب.”
“الآنسة جيوفينيتا مقربة من جلالة الإمبراطورة.”
وحين ذُكرت الإمبراطورة، أومأ الجميع برؤوسهم. فجيوفينيتا ضيفة مُعترف بها من قبل الإمبراطورة، وكلامها لا بد أن يُؤخذ بجدية.
وحين أدركت جيوفينيتا ذلك، رفعت رأسها بفخر وتباهٍ، وكتفاها يهتزان اعتدادًا.
“نعم، كونتيسة إلڤيرا. بعد أن أنهيت حديثي مع جلالة الإمبراطورة هذا الصباح، كنت في طريقي لقصر الزمرد لأرى أختي إيرينيا…”
ثم خفضت رأسها واهتز جسدها بتأثر. منظرها البائس أثار تعاطف الحضور.
“إيرينيا، لماذا فعلتِ أمرًا أحمق كهذا؟!”
“جيوفينيتا؟ ما الذي تقولينه؟…”
رفعت جيوفينيتا رأسها، وعلى خدّها دموع سميكة تسيل.
“لقد زرت قصر الزمرد بالأمس أيضًا لأطمئن على أختي، لكن بدا أنها في مزاج سيء، ولم تستقبلني بل طردتني، فأقلقني الأمر وعدت اليوم مجددًا.”
قالت وهي تنتحب، مدعية أن ما فعلته كان بدافع القلق على أختها. وكل من حولها أطلقوا تنهيدات حزينة. صوتها المرتجف ودموعها كانا كافيين لطمس الحقيقة تحت ستار كذبها.
رفعت جيوفينيتا رأسها وأخرجت منديلًا لتجفف دموعها.
“كنتِ دائمًا هكذا، إيرينيا. حتى إصابتك في ساقك، رغم أنها كانت بسبب إهمالك وسقوطك، رميتِ باللوم عليّ، ونظرتِ إلى العالم دائمًا بنظرة معوجة. أما فيما يخص هذا الزواج…”
ارتجف جسدي بشدة. لم يكن يمكنني السماح لها ولميرسيدس بمواصلة كذبهما. لكن لم أجد سبيلًا للهروب من هذا الفخ المتقن.
“يا سمو الأمير…”
تمسكت بي ديلفينا بذراعها بخوف. هزّت رأسها ناحيتي في إشارة للتوقف.
عضضت شفتي بقوة. لم يكن هناك من شهد أن إلدا هي من دفعتني في البركة. وحتى لو كان هناك، فإن الوضع الحالي ليس في صالحي. كلماتهم الثلاثة كانت تُؤخذ على محمل الجد أكثر من أي شيء أقوله.
وكان من الضروري أن أنفي عن نفسي تهمة محاولة الانتحار. هذا الوصم يجب أن يُمحى بأي ثمن.
“…لقد كنتُ متهورة.”
“ماذا قلتِ؟”
ردّت جيوفينيتا بابتسامة عريضة. كم رغبت في البصق على وجهها، لكنني تماسكت.
“كنت أريد الخروج قليلًا لوحدي، وحين رأيت ضفدعًا قرب البركة اقتربت منه، فانزلقت وسقطت فيها.”
اضطررت للاعتراف أنني سقطت في البركة عن طريق الخطأ، وقلت إن الأرض كانت زلقة ولم أستطع تمييز محيطي.
كان الاعتراف خيارًا لا مفر منه. كان مريرًا، لكنه الحل الوحيد للخروج من المأزق.
************
بعد قليل…
“جيوفينيتا وميرسيدس متواطئتان!”
كلما فكرت بالأمر، لم أجد غير هذا التفسير. عضضت أظافري من شدة التوتر.
لم يكن لدي خيار في تلك اللحظة، لكن التفكير بالأمر مجددًا يجعلني أشتعل غضبًا.
“كيف… كيف يمكن أن يفعلا ذلك؟”
ما أرعبني أكثر هو كذبهما الماكر البارد. لم ترف لهما عين وهما يحشرانني في الزاوية.
“كانتا تحاولان دفعي للهلاك، لا شك في ذلك.”
حينها سُمع صوت طرق على الباب. أبلغتني ديلفينا أن مستشار المملكة، ريشار، جاء لزيارتي، وكان برفقته سيزار.
“هل لي أن أزعجك قليلًا؟”
رغم كل ما حصل، لا يمكن إنكار أن ريشار أنقذني قبل قليل. ولم أكن قد شكرته حتى.
اقتربت منه خطوة واحدة وانحنيت بأدب.
” أهلًا بك في قصر الزمرد يا سيدي.”
” ناديْني ريشار.”
قالها بلطف.
“نعم، ريشار. لقد تصرفتُ بطريقة غير لائقة هذا النهار. لقد ساعدتني كثيرًا ولم أتمكن حتى من شكرك.”
“يكفي أنكِ بخير.”
ثم وجه نظره نحو سيزار. ولا أعلم لماذا، لكن حين ابتسم سيزار، بدا أن نظرة ريشار أصبحت أكثر دفئًا. يبدو أن بينهما علاقة قديمة، فقد كان سيزار يعامله بود ظاهر.
لكنه، رغم قدومه لرؤيتي، بقي صامتًا يحدق بي بتركيز غريب.
عينيه البنفسجيتين أطلقتا نظرة تحليلية جعلتني أشعر بعدم الارتياح.
وبعد فترة من الصمت، اضطررت لفتح فمي.
“هل هناك ما تود قوله؟”
هزّ رأسه وقال:
“هل كنتِ تعلمين أن لعنة الأمير قد أصبحت مستقرة؟”
“لعنة…؟”
اتسعت عيناي، فأومأ بجدية.
“منذ أن ظهرت لعنة الأمير، لم تكن بهذا الاستقرار من قبل.”
“أتعني أن حالة سيزار الآن مستقرة؟”
لكنه، حتى وإن كان ساحرًا، كيف يمكنه الجزم بذلك بنظرة واحدة؟ بل إني لا أعرف حتى ماذا يعني أن تكون اللعنة مستقرة.
“ما هي هذه اللعنة أصلًا؟ وكيف عرفت أنها استقرت؟”
سألته بانفعال، لكنه فقط نظر إلي بصمت، ثم قال فجأة كلامًا أذهلني:
“هل رأيتِ مؤخرًا رؤى غريبة؟ هل سمعتِ أصواتًا أو حلمتِ بأحلام غير طبيعية؟”
اتسعت عيناي من الذهول.
“ك-كيف عرفت؟!”
“…كما توقعت.”
بقي ينظر إليّ بينما لا أزال حائرة. ثم خلع قفازه الجلدي الأسود وأخفاه تحت ذراعه، كاشفًا عن أصابع طويلة بيضاء.
“يدك.”
ترددت، لكنه ساعدني من قبل، ولم أشعر بأنه ينوي أذيتي، فمددت يدي. أمسكها بصمت وأغمض عينيه.
ولم يمر وقت طويل حتى تكلم مجددًا.
“…لديكِ موهبة في السحر.”
“سحر…؟”
حدّقت به بريبة. تسارعت الأحداث اليوم بشكل لا يُصدق، والآن يخبرني أنني أمتلك موهبة سحرية؟
“فلوريس… أنتِ من نسل الحكيم الأكبر كوشيمو، لذا ليس ذلك غريبًا.”
“لكنني لا أجيد استخدام السحر.”
فلو كنت أمتلك موهبة، لكانت ظهرت منذ صغري. فالسحر موهبة فطرية، والشعور بالطاقة السحرية والتحكم بها يُعرف باسم “الاستجابة السحرية”.
وغالبًا ما تظهر هذه الاستجابة في الطفولة، وتُجرى اختبارات لها في العائلات السحرية.
السحرة نادرون جدًا، لذا يُكتشف الأطفال الموهوبون في وقت مبكر ويُعتنى بهم.
وقد خضعت لهذا الاختبار قبل أن أنضم لعائلة فلوريس، ولذلك أعلم تمامًا أنني بلا موهبة سحرية.
“بخصوص هذه السحر… لا، بل هذه حالة خاصة للغاية، يا للغرابة.”
“هل تعني سحرًا من نوع خاص؟”
“وأنْت، كم تعرفين عن اللعنة؟”
أطرقتُ رأسي، أحاول استرجاع ما أعرفه عن تلك اللعنة الغامضة.
“كل ما أعلمه… أن الملك قد لُعن كثمن لقتله التنين المجنون ‘تييغروش’ قبل مئات السنين، لا أكثر.”
“بمعنى آخر، لا تعرفين شيئًا يُذكر.”
في تلك اللحظة، شعرت بغصة في صدري. ومع ذلك، ألم يكن هذا ما أردته؟ أن أعرف أخيرًا الحقيقة عن اللعنة؟ بدا أن الحديث سيطول، لذا اقترحتُ تقديم بعض الضيافة. وسرعان ما أُعدّت مائدة صغيرة في قاعة الاستقبال.
رشفة هادئة من الشاي أخذها ريشار، وضع الكوب بعدها بهدوء، بكل رقي ونُبل.
“رغم أن الفحص الدقيق ما زال ضروريًا، إلا أن حالة سمو الأمير تبدو مستقرة للغاية.”
“وكيف يمكنك تأكيد ذلك؟”
ريشار لم يكن مجرد طبيب، بل الطبيب الملكي الخاص بالأمير سيزار، إذ لم يكن مرض الأمير مما يستطيع طبيبٌ عادي التعامل معه، بل يتطلّب شخصًا ذا مهارات خاصة.
“بالإضافة إلى إتقاني السحر، أملك موهبة نادرة… إحداها هي التخصص في دراسة اللعنات.”
“اللعنات، إذًا…”
وهكذا، بدأ يحدثني عن اللعنة التي يُقال إنها لعنة التنين المجنون، يكشف لي لأول مرة عن حقيقتها التي كانت خلف كل ما يجري.
التعليقات لهذا الفصل " 52"