الفصل 51
كان فاتن الجمال، لا يبدو في أقصى تقديره أكبر من أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات من العمر. وكان من الصعب، عند النظر إليه لأول مرة، تحديد إن كانت رجلاً أم امرأة.
كان شعره الفضي الطويل يصل إلى خصره، وقد ربط نصفه، بينما ضُفِّر الطرف الآخر بدقة متناهية، وزُيِّن ببعض الخيوط الملونة والخرز، مما أضفى عليه هالة فريدة.
أما عيناه فكانتا بلون أرجواني يميل إلى الزرقة، تنبعث منهما طاقة غامضة يصعب سبر غورها.
ومن بين الرداء وشعره الفضي، تحركت أذناه قليلاً، كاشفةً عن شكل طويل وحاد بشكل ملحوظ، يختلف تماماً عن آذان البشر.
“…إلف؟”
تمتمت بذلك بينما أحدِّق فيه، ثم سارعت إلى تغطية فمي بكلتا يدي.
هذه الكائنات ذات الآذان الطويلة تُعرف بأسماء مختلفة حسب المنطقة، مثل “ألبرو” أو “ألف” أو “إلف”.
إنهم جنس غامض يعيش غالباً في الغابات الكثيفة، وكلمة “إلف” تعني “الذين وُلدوا من الأشجار”.
يُقال إنهم يتميزون بالجمال بغض النظر عن الجنس أو السن، ولديهم قدرات جسدية فائقة. ونادراً ما يغادرون الغابة التي وُلدوا فيها، لذا فهم قوم غامضون لا يُرون كثيراً في عالم البشر.
أما أنا، فكل معرفتي عنهم كانت من الكتب، وهذه هي المرة الأولى التي أرى أحدهم بعيني.
“بدقة أكثر، دمي ممزوج بنصف بشري، لذا فأنا نصف إلف. اسمي ريشار، من غابة البتولا الفضية.”
أجابني بصوت ناعم عذب، كأنه عزف آلة موسيقية، ساحر ومنسجم حدّ الجمال.
وجدت نفسي أحدّق فيه مجددًا دون وعي، رغم علمي بأن ذلك تصرف غير لائق.
وكانت أذناه الطويلتان تتحركان بمهارة تجذب نظري في كل مرة.
“لقد ألقيت تعويذة الشفاء، هل ما زال هناك ما يزعجك في جسدك؟”
“…عفوا؟”
لم أجد ما أقوله سوى أن أكرر كلماته بغباء. تعويذة شفاء؟ والواقع أنني شعرت فعلاً أن جسدي صار أخف كثيرًا.
جربت قبض يدي وفكّها عدة مرات، ثم وقفت ببطء.
كان هناك الكثير من الناس من حولي. رجال طائفة “القوس الزمردي” أحاطوا بي من كل جانب. وكان من بين الأكثر تجهمًا فرسان “صليب الورد الأبيض”.
هل فقدوا ثقتهم بي بسبب ما حدث سابقًا؟ بدا عليهم توتر شديد.
“حين سمعنا أن سمو الأميرة وقعت في البركة، هرع الفرسان إلى مكان الحادث.”
قالت ديلفينا وهي تزمّ شفتيها وتحدق في الحرس بنظرات لائمة.
أسرعت لتهدئتها.
“لا، لقد خرجت بمفردي هذه المرة…”
“لكن، مولاتي، أليس من مسؤوليتهم منع حدوث مثل هذا؟ كيف سمحوا لك بالقدوم وحدك إلى مكان كهذا؟ وعندما سمعت أنك سقطتِ في الماء، شعرتُ…”
“السبب هو…”
الحقيقة أن السبب كان تلك الرؤيا التي رأيتها.
لقد قادتني رؤياي إلى هذه البركة، وكأن شيئًا ما كان ينتظرني هنا…
“أحدهم دفعني.”
عندها، شهقت ديلفينا بدهشة:
“حقًا؟”
“نعم، أنا واثقة.”
حينها، وقف ريشار مشيرًا إلى امرأة ممددة على الأرض.
“هل كانت هذه من دفعتك؟”
“تلك المرأة؟”
تطلعت إلى من كان يشير إليها، فرأيت امرأة ممددة بطريقة غير طبيعية، وكأن الزمن توقف بها وهي في وضعية جري.
وكان وجهها مألوفًا… إنها إيلدا، كبيرة الخدم التي طردتها من قصر الزمرد.
“نعم، لا شك أنها هي.”
فلوّح ريشار بيده في الهواء. عندها بدأت إيلدا ترتعش بعنف، ثم صرخت فجأة:
“آاااه! ما هذا؟! أتركني!”
“صاخبة.”
تجهم ريشار مجددًا ولوّح بيده، فصمتت إيلدا فجأة. لم تخرج من فمها سوى أنين مكتوم، وكأن قوة غير مرئية تسدّ فمها.
ظلت تتلوى وكأنها مربوطة بحبال خفية، غير قادرة على تحريك الجزء العلوي من جسدها.
اقترب منها ريشار بخطى واثقة:
“لا أنوي التدخل في شؤون البشر، لكنني سأطرح سؤالاً. هل أنت من دفعتِ سمو الأميرة إلى البركة؟”
لكن إيلدا لم تُجب. بل لم تستطع حتى إن أرادت. فصوتها مختنق من شيء غير مرئي.
“آه، معذرة.”
رفع ريشار إصبعه، وفك الحاجز عن فمها.
بدت إيلدا مرعوبة، لكنها لم تصرخ مجددًا. فقط راحت ترتجف وتحدق نحونا بغضب.
اقتربت الكونتيسة إلفيرا في تلك اللحظة، وانحنت تحية لريشار.
“مجد الصليب المقدس لك، يا سيد البلاط الملكي. سمعتُ أن مكروهًا أصاب سمو الأميرة.”
“مجد الصليب المقدس لك.”
أجابها ريشار بوجه جامد، ثم شرح لها ما حدث.
“ولأن هناك شخصًا مريبًا كان يتجول في المكان، ألقيت عليه تعويذة التقييد.”
قطّبت الكونتيسة حاجبيها ونظرت إلى إيلدا.
“هل ما قالته الأميرة صحيح؟ هل حقاً دفعتِها إلى الماء؟”
ابتلعت إيلدا ريقها ثم حدّقت بعينيها:
“ما هذا الاتهام الظالم؟ متى فعلتُ شيئًا كهذا؟ هل تملكون دليلاً؟”
صرختُ من شدة الغضب:
“ماذا تقولين؟ أنتِ من دفعتِني، رأيتك!”
لكن يبدو أن إيلدا قررت أن تلعب دور الضحية، وخرج صوتها بنبرة فولاذية:
“مولاتي الأميرة، هذه الادعاءات تصدمني! كنتُ فقط مارّةً بالجوار، وحين رأيت شخصًا في الماء اقتربت للمساعدة. والآن تتهمينني؟”
بدت غاضبة إلى أقصى حد، لدرجة جعلتني أعجز عن الرد، فتقدمت ديلفينا للدفاع عني.
“كاذبة! أنتِ حاقدة لأن سمو الأميرة طردتكِ من القصر!”
قالت ذلك وهي تبكي بحرقة، تحيطني بذراعيها.
لكن إيلدا تمادت في أكاذيبها:
“أنا مجرد خادمة مطرودة، كيف لي أن أعرف أن سمو الأميرة وحدها هنا؟ وكيف أتفادى أنظار الحراس؟”
“يا له من ضجيج. ما الذي يحدث هنا؟”
جاء الصوت من بعيد، وكان مألوفًا.
ظهرت امرأة تمشي نحونا من وسط الحشد، وارتعد جسدي بالكامل…
كانت مرسيدس.
“السيدة أرونتشو…”
تلك المرأة نفسها التي ظهرت في رؤياي، بوجهها المفزع، وقتلت الأميرات المرشحات.
لكنها الآن بدت في غاية اللطف والهدوء وهي تتقدم نحونا.
“كنتُ أراقب من بعيد، ويبدو أن ما حدث خطير بالفعل. سمو الأميرة، مضى وقت طويل.”
بدأ الناس يتهامسون عند ظهورها.
نظرت إليهم بهدوء ثم قالت:
“كنت أراقب الموقف طوال الوقت، ويبدو أن حديث سموكِ فيه بعض المبالغة.”
“مبالغة…؟”
“نعم. لم أرغب في قول هذا، لكن… ما سبب وجودكِ في مكان منعزل وخطير كهذا، دون حراسة؟”
شعرت بشوكة في قلبي.
“أنا… أنا فقط…”
لا يمكنني إخبارهم أنني تبعت رؤيا لا يراها أحد سواي.
وبينما التزمتُ الصمت، بدأت مرسيدس في حديث مطوّل:
“أنا أعرف أخلاق إيلدا جيدًا. ورغم أنني لم أخدم سموك طويلاً، إلا أنني كذلك أعرف شخصيتك.”
ثم بدأت تنتقدني فجأة:
“ماذا؟”
“لقد طردتِ الخادمات اللاتي اختارتهن جلالة الملكة، ثم استبعدتِني أنا، أقرب شخص لسمو الأمير. والآن تتهمين الآخرين زورًا؟”
هذا كان غير معقول.
“لكن… إيلدا فعلتها! لقد دفعتني في البركة!”
عندها صرخت إيلدا بعينين متقدتين:
“أين دليلك؟!”
لم تُضِع مرسيدس الفرصة، فرفعت صوتها مجددًا:
“حتى سبب وجودكِ هنا، وحدك، لا تستطيعين شرحه. هل تسمحين لي أن أقوله أنا؟”
توقفت الكلمات في حلقي. كنت أخشى ما قد تنطق به شفتاها بعد ذلك.
ابتسمت ابتسامة جانبية وقالت بنبرة هادئة:
“أليس من الممكن أن صاحبة السمو قد ضاقت ذرعًا بحالها، فأرادت إنهاء حياتها بإرادتها؟”
بدأ الحاضرون يتهامسون عند سماع كلمات ميرسيدس.
“انتحار؟!”
“كيف لها أن تنطق بكلام مشؤوم كهذا…؟”
وحينها، تجرأ أحدهم وقال مترددًا:
“لكن… ألم تُعثر على إحدى مرشحات الزواج الأخرى ميتة في نفس المكان؟ لقد ألقت بنفسها في البركة تمامًا كما حدث الآن.”
“لا شكّ أن هذا المكان ملعون…”
ارتفعت الهمسات وتكاثرت الأصوات، وبدأ الوضع ينقلب ضدي شيئًا فشيئًا تحت وطأة كلمات ميرسيدس.
“كلا!”
صرخت نافية، وأنا أهز رأسي بعنف. ففي الإمبراطورية، كان الانتحار فعلًا شائنًا للغاية، بل يعدّ من أفظع الخطايا.
إيذاء النفس يُعد تجديفًا على المقدّس، وخيانة للرب، وجريمة في حق الجسد الذي وهبه الإله. وقد يُعتبر من أفعال المرتدّين.
وها هم يحاولون إلصاق هذه الوصمة بي!
وما إن تراجعتُ قليلًا في موقفي حتى زاد وجه ميرسيدس إشراقًا بالظفر، فقالت وهي تقاطعني بنبرة أشدّ:
“وإن لم يكن الأمر كما قلت، فلماذا إذًا، يا صاحبة السمو، أتيتِ إلى هذا المكان الموحش دون وصيفاتك أو حرّاسك المعتادين؟ أليس في الأمر ما يثير الريبة؟”
“ذاك… ذاك لأنني…”
لكن، كيف لي أن أقول لهم إنني جئت مدفوعةً برؤية لم يرَها سواي؟ سيكون ذلك ضربًا من الجنون، وربما تهمة بالسحر أو التنجيم… أمرٌ كفيل بأن يُحرقني حيّة بتهمة الشعوذة.
وفي تلك اللحظة، انشقّ العشب البعيد عن شخص ظهر من بينه فجأة.
“أما عن هذا الأمر، فلي أن أشهد بما رأيت.”
كان الصوت غير متوقّع، وصاحبه… لم يكن سوى جيوفينيتا.
التعليقات لهذا الفصل " 51"