الفصل 50
قالت “جيوفينيتا” بصوت حازم:
“سأتولى تأنيب شقيقتي بنفسي.”
في تلك اللحظة، ابتسمت الإمبراطورة ابتسامة مشرقة، ولسببٍ ما، بدت عيناها دامعتين قليلًا. حين رأتها “جيوفينيتا”، أدركت على الفور أن الإمبراطورة تملك روحًا شبيهة بروحها. مدت الإمبراطورة يدها وأمسكت بيد “جيوفينيتا”، التي بدورها أمسكت بيدها بقوة وثبات.
قالت الإمبراطورة: “هل يمكنك مساعدتي؟”
فأجابت “جيوفينيتا” بابتسامتها الحزينة المعتادة:
“أنا بالفعل من أتباع جلالتكِ.”
بعدها، استمرتا في الحديث في مواضيع شتى. وعندما غادرت “جيوفينيتا” قصر الإمبراطورة كانت الشمس قد بلغت كبد السماء.
قالت لنفسها: “عليّ أن أذهب لرؤية إيرينيا… تلك الفتاة.”
حين استرجعت الإهانات التي تعرضت لها بالأمس، وتذكرت كيف تصرفت “إيرينيا” بوقاحة أمام الإمبراطورة نفسها، شعرت بالرضا لفكرة أنها ستتمكن أخيرًا من تأنيبها بصفتها أختها الكبرى.
وفي تلك اللحظة، لمحت “إيرينيا” من بعيد. أثار فضولها إلى أين كانت تذهب وحدها وهي لا تزال مريضة، فبدأت بملاحقتها خفية. ما لم تتوقعه هو أن الوجهة كانت بركة القصر الإمبراطوري.
“ما الذي يجعلها تأتي وحدها إلى هذا المكان؟”
كان الأمر مريبًا، خاصة أن هالة “إيرينيا” بدت غريبة. كانت تتمايل وكأنها تهيم في الفراغ، وكأنها في حالة يأس شديد، مما جعل “جيوفينيتا” تشعر بالتوتر.
“هل أكلت شيئًا فاسدًا…؟”
قررت أن تراقبها من مسافة آمنة لترى ما ستفعله. وفجأة، حدث ما لم يكن في الحسبان—ظهرت خادمة بثياب رثة من العدم ودَفعت “إيرينيا” من ظهرها لتسقط في البركة.
“يا إلهي…”
كانت “جيوفينيتا” تراقب كل شيء من خلف الأدغال البعيدة. وتلك الخادمة، وكأنها تنوي القتل فعلًا، كانت تدفع رأس “إيرينيا” كلما طفا على سطح الماء، لتغرقها مجددًا بقوة.
استمرت تلك المعركة الوحشية لبعض الوقت، حتى توقفت “إيرينيا” عن المقاومة تمامًا. منظر لم يكن في الحسبان جعل عرقًا باردًا يتصبب من يد “جيوفينيتا”، التي مسحت كفها في طرف تنورتها وهمست:
“يا له من تطور ممتع.”
وفي تلك اللحظة، لم يخطر في بالها سوى أمر واحد: الفستان والقبعة والزهور التي اختارتها مسبقًا لحضور الجنازة… لن تذهب سدى.
ثم سمعت أصوات حشود قادمة من بعيد. وإن بقيت هنا طويلًا، فقد يثير ذلك الشبهات. لذا، انسحبت بهدوء خلف الأشجار.
**************
—رين!
سمعت صوت أحدهم. كان يناديني بيأس. من يكون؟ من الذي يناديني؟
—استيقظي.
كنت أريد فقط أن أرتاح، لكن الصوت الملحّ تحوّل إلى خيط يلتف حول جسدي ويجذبني من الأعماق. وسط نظري الضبابي، لمحت وجهًا كنت أفتقده بشدة.
لكن وعيي لم يكن قد عاد بالكامل بعد. شعرت بهواء يتسلل إلى رئتي، أنفاس دافئة وناعمة تدخل من فمي. كان ذلك لطيفًا جدًا… ودافئًا للغاية.
دبّ في صدري شعور بالحياة مجددًا، وكأن قلبي نال فرصة جديدة للنبض. تنفّست بعمق وخرج الماء المحتبس من فمي مع سعالٍ عنيف.
تقيأت، وتمايل جسدي، ولم يكن وعيي ثابتًا، كنت أفيق وأغيب بالتناوب. ومع كل مرة أفقد فيها وعيي، كانت هناك أنفاس تعيدني إلى الحياة. تلك الأنفاس كانت تمتزج مع أنفاسي، وتذيبني في دفئها.
حاولت فتح عيني، لكن جفوني كانت ثقيلة كالرصاص.
“رين، افتحي عينيكِ.”
سمعت الصوت مجددًا، يهمس لي بلا توقف أن أفيقي. لكن جسدي لم يطاوعني، حتى أني لم أستطع تحريك أصابعي. لكن شيئًا دافئًا، ناعم الملمس، لمس يدي. اخترق دفؤه بين أصابعي، وكان حارًا كحرارة شمسٍ ملتهبة.
كم كان دافئًا هذا الحضن… لم أشعر بمثله في حياتي كلها. لحظةٌ واحدة، وامتلأ صدري بمشاعر كثيرة، حتى فاضت دموعي على وجنتيّ.
فتحت عيني أخيرًا، ورأيت من بين الضباب عينين حمراوين كالنار، تلمعان كجمرٍ حي. لونٌ أحمر دافئ، كأنه يحمل نبض الحياة.
ثم شعرت مجددًا بذلك اللمس الدافئ—شفاهه كانت تلامس شفتي. شفاه “سيزار” فوق شفتيّ. وقبل أن أستوعب ما يحصل، ابتعد قليلًا وابتسم.
“الحمد لله… أنتِ بخير.”
كنت لا أزال في حالة صدمة، فقط رمشت بعينيّ في حيرة، عاجزة عن فهم ما جرى. لاحظت حينها أن شفتيه كانتا أكثر احمرارًا ولمعانًا من المعتاد.
“……رين.”
ناداني مجددًا، لكني كنت أضعف من أن أجيبه. ثم عاد ووضع شفتيه على شفتيّ، ونفخ فيّ حياة جديدة. كنت كأنني أستجيب لتلك الأنفاس بلا وعي. تنفّست، ثم تنفّست مجددًا، وتدريجيًا عاد نَفَسي إلى طبيعته.
شعرت بالاضطراب. ما الذي حدث؟ كنت في طريقي نحو البركة، وفجأة…
“موتي!”
نعم، سُحِبت إلى الماء بيد دفعتني من ظهري. أرادوا قتلي، ولا شك في ذلك. أتذكر بوضوح تلك الكلمات المسمومة التي ترددت في أذني.
ارتجف جسدي من الذكرى. قلبي تسارع نبضه، ودمي تدفق بقوة في أوردتي. كنت أرتعش بشدة، لم يسبق أن حاول أحد قتلي بهذه الوحشية.
وتذكّرت، تلك الملامح… ذلك الوجه الذي رأيته في كوابيسي، وجه “مرسيدس” الشيطاني، هو الذي قتل المرشحات لمنصب ولي العهدة. وها أنا أتذكّر الآن اسم تلك الخادمة التي دفعتني… كانت “إلدا”.
ارتجفت أسناني من الرعب. لقد كدت أموت. لو لم يأتِ “سيزار” لإنقاذي في الوقت المناسب، لكنت الآن…
ثم فجأة، عانقني “سيزار” بشدة.
“سي… سيزار؟”
وجدت نفسي في حضنه، محاطة بذراعيه القويتين دون أن أتمكن من الحركة. كنا قريبين جدًا، حتى إنني سمعت دقات قلبه المتسارعة، وكأنها صدى داخل أذني.
ذلك الصوت… منحني طمأنينة لا توصف. لقد شعر بخطر يهددني وجاء—مثل كل مرة. حينها، انفجرت بالبكاء، عاجزة عن كبح مشاعري.
تذكرت حينها طفولتي. لم تحملني “آناليزا” أبدًا حين كنت أبكي، ولا مرة. لم أخبر أحدًا بذلك، لكن وحدتي كانت تؤلمني دومًا.
“رين، لا بأس…”
لكن الآن، “سيزار” يحتضنني بشدة. يربّت على ظهري بلطف. حضنه دافئ… وصوته مليء بالسكينة. أن أشارك أحدًا هذه الحرارة، هو أمر جميل بحق.
وأنا أفكر في ذلك، أغمضت عيني، وغاص وعيي في ظلامٍ عميق كطينٍ لزج.
********
فتحت عيني مجددًا، فوجدت نفسي تحت جذع شجرةٍ ضخمة. كنت نائمة في حضن “سيزار”، الشمس تتسلل من بين الأغصان، وكانت أشعتها حادة فوقي.
عندما أدرتُ نظري إلى الجانب، وقع بصري على رجل غريب. كان يغطي جسده بالكامل بعباءة سوداء.
كان يمدّ يده نحوي منذ لحظة، وقد انبعث منها ضوء خافت. لسببٍ ما، بدأت أشعر أن القوة تعود تدريجيًا إلى جسدي المتيبّس.
ومن الجهة المقابلة، أبصرتُ ديلفينا وهي على وشك البكاء. فتحتُ فمي ببطء.
“…أين أنا؟”
“سموكِ، هل استعدتِ وعيك؟”
“أه… ن-نعم.”
رمشتُ عدة مرات. كان وعيي أشبه بسفينة غرقت تحت الماء وبدأت تطفو مجددًا. ومعه، تسلّلت إليّ صداع شديد، وأتت يقظة مفاجئة أشبه بإدراكٍ قاطع.
نعم… لا بد أن شيئًا ما قد حدث. شيء عظيم…
“الحمد لله… لقد أقلقتِني كثيرًا لأنكِ لم تستفيقي.”
لكن رأسي لا يزال مشوشًا، وأفكاري مبعثرة.
“ما الذي حصل لي…؟”
بلاإرادة، مررتُ لساني على شفتيّ. وفي تلك اللحظة، ومضة برقٍ ضربت عقلي بإدراكٍ صارخ.
لتُخبرني ديلفينا بهدوء:
“لقد… سقطتِ في البركة.”
“أ-أنا؟!”
شدّت ديلفينا على يدي بقوة، ولم تفلتها. كانت أصابعها ترتجف برقة.
“لو لم ينقذكِ سمو الأمير…!”
“إذًا… أنتِ هي ولية العهد الجديدة، أليس كذلك؟”
نطق الرجل ذو العباءة السوداء مجددًا. بدا صوتُه صوتَ شابٍ يافع،
لكن نبرته كانت خالية من أي مشاعر، لا علوّ فيها ولا انخفاض. وبعد أن حدّق فيّ صامتًا لفترة، رفع يده إلى عباءته وأنزل الغطاء عن رأسه.
في تلك اللحظة، شهقتُ بلا وعي.
التعليقات لهذا الفصل " 50"