رفعت إصبعي بحذر وأشرت إلى النافذة.
“ذلك الشيء… صوته مزعج، لكنه لن يؤذينا.”
“أ… أنت بخير؟”
عندها فقط استجاب سيزار لكلامي. كان قد انكمش مرتجفًا، ثم رفع رأسه باتجاهي ببطء. شعرت بارتياح غريب يتسلل إلى صدري.
عيناه، اللتان باتتا أكثر هدوءًا الآن، كانت
تغشاهما رطوبة خفيفة. رمش مرتين ببطء.
في تلك اللحظة، لمع البرق على نحو مفاجئ وقاسٍ. وميض فضي مزّق العتمة وكشف الغرفة بوضوح.
أخيرًا استطعت رؤية سيزار كما هو. خرجت من حلقي همهمة مبهورة دون أن أشعر: “آه…”
ما هذا؟ ماذا رأيت للتو؟
غريزة الخوف والرفض تسللت إلى داخلي.
لكن أكثر ما كان مثيرًا للذعر… يده اليسرى.
أصابعه كانت أطول من الطبيعي بمقدار عقدة، ومفاصلها بارزة بشكل مريب. أظافره سوداء حادة، وعلى ظهر يده قشور سوداء مشوّهة ملتصقة بها.
هذه ليست يد إنسان. لا يمكن أن تكون كذلك. كانت غريبة بشكل مرعب.
دوّى صوت الرعد فجأة، هادرًا كأنه يهز الأرض.
ارتج جسد سيزار بعنف مجددًا، وصرخ بأعلى صوته:
“آآآااه!”
كنت أرغب في الصراخ معه، لكني لم أستطع.
صرخ طويلًا، ثم بدأ يلهث.
ومع صوت فرقعة مفزعة، بدأ جسده يلتوي على نحو غير طبيعي. صدره انتفض وهو يلهث بعنف، وانبعجت عظامه ببطء وكأنها تنكسر.
ظهر على خديه وذراعيه عروق سوداء كثيفة، كأنها شبكة زاحفة خارجة من الداخل.
ثم عاد ليصرخ من جديد.
“آه… آهآآآ!”
مجرد رؤيته كان مؤلمًا، موجعًا، لا يُطاق.
“ه… هدئ من روعك…”
مددت يدي نحوه محاولًا تهدئته، لكن عينيه ما عادت تعرفان الهدوء أو العقل. لم يبقَ فيه سوى وحشية خام.
صدر منه صوت غليظ، كزمجرة وحش قادم من الأعماق.
اجتاحني رعب غريزي من رأسي حتى قدمي.
ارتجفت، واصطكت أسناني ببعضها.
ما كان عليه قبل قليل ليس هو ما هو عليه الآن.
ذلك البريق في عينيه… ليس عاديًا.
قد أموت. ربما سأُقتل الآن. أردت أن أصرخ، أن أطلب النجدة.
لكن لم يكن هناك من يسمع، ولا من سيأتي.
لأنني ببساطة كنتُ قربانًا حيًّا لهذا الوحش الواقف أمامي.
“ألم تسمعي؟ النساء الأربع اللواتي خُطبن لولي العهد الأول كلهن لقين حتفهن!”
“وجدن غارقات في الدماء…!”
أصوات القيل والقال التي دارت في حفل الزفاف عادت ترنّ في أذني.
لم أملك إلا أن أتمسّك بعقلي، أحاول ألا أفقد وعيي.
لم يكن لدي خيار آخر.
ثم فجأة، سكن صوته.
تبع ذلك صوت سقوط ثقيل.
رفعت رأسي لأجده منهارًا على الأرض.
كانت تلك فرصتي. حاولت أن أركض باتجاه الباب.
لكنني لم أركض، بل جررت ساقي المصابة زحفًا.
وصلت إلى الباب بالكاد.
شدَدتُ المقبض بكل قوتي، لكنه لم يتحرك.
فجأة بدأت أضرب الباب بقبضتي.
كنت أعلم أنهم أغلقوه بعد خروج الحراس.
هذا الباب الخشبي الثقيل… لن يُفتح.
ومع ذلك، لم أستطع الاستسلام.
بدأت أحكّ الباب بأظافري كأنني أستطيع خدشه.
كان كل شيء حولي صامتًا على نحو مريب.
برد حادّ اجتاح ظهري، وكأن دلوا من الماء المثلج سُكب فوق رأسي.
توقف كل شيء بي.
لم يكن عليّ أن ألتفت، لكن جسدي خانني وتحرك دون إذني.
أدرت رأسي ببطء، ولمحت وهجًا أحمر فوق عينين مشعتين.
نظرت مباشرة في عيني “ذلك الشيء”.
“آآآاه!”
صرخت بأعلى صوتي، ولوّحت بالخنجر الذي كان بيدي عشوائيًا كأنه طوق النجاة.
لم أعد أرى شيئًا.
الغريب أن سيزار بدا وكأنه يراقبني بهدوء، ١وكأن ما أفعله لا يعنيه.
“آه!”
حينها شعرت بألم حاد في راحة يدي.
لقد جرحت نفسي بالخنجر أثناء التلويح.
سقط الخنجر على الأرض برنين باهت.
اندفع الدم بغزارة وكأن ماءً مغليًا صبّ على يدي.
قطرات الدم تساقطت على الأرض، ثم تجمعت في بركة صغيرة وانتشرت.
وما زال سيزار يحدّق بي كما لو كان طفلًا يكتشف شيئًا غريبًا.
لم أعد أقدر على الوقوف.
سقطت بجانب الباب، مستندة إليه، أتنفس بصعوبة.
ثم بدأ يتحرك نحوي.
خطوة واحدة، ثم نظرة إلى وجهي، ثم خطوة أخرى.
كما لو كان يراقب حالتي.
اقترب كثيرًا.
“أ-أنت…”
لكن ما لفت انتباهه كان بركة الدم.
انحنى نحوها وأخذ يشمّها بنهم.
كاد صدري ينفجر من شدة التوتر.
“توقف…”
رفع رأسه وكأن كلامي وصله. ثم اقترب أكثر.
صرنا قريبين لدرجة أنفاسنا امتزجت.
كان وجهه قريبًا جدًا.
لم يفعل شيئًا سوى أن يواصل شمّ الدم.
أنفاسه الحارّة صعدت عبر عنقي، وشعرت بحرارتها تلسعني.
“أرجوك… كفى…”
ثم، بدأ يلعق عنقي ببطء.
كان الأمر لزجًا، ساخنًا، غريبًا.
كتمت شهقتي.
أغمضت عيني وأجبرت نفسي على التحمل.
ثم فجأة، شعرت بذلك اللسان نفسه على راحة يدي الجريحة.
فزعت، وفتحت عيني.
كان يلعق الدم من يدي، دون أي تردد.
كان صوت سائل ينساب في حلقه يملأ الغرفة.
اتسعت عيناي، لا من الألم بل من الرعب.
لا يزال يحتضن راحتي، يلعقها بنهم وكأنه في غيبوبة.
بدا كطفل صغير يتغذى، بتلك العجلة والتوسل ذاته.
عندما ضغط على الجرح بلسانه، شعرت بوخز غريب يتسلل داخلي.
“آه…”
كلما لمس الجرح بأسنانه، توترت أكثر.
لم أجد إلا شفتي لأعضّها كي أتحمل.
لا أدري كم من الوقت مر.
شعرت أن الوقت طال وقصر في آن.
ولا يزال هو مشغولًا بلعق دمي، بينما أنا مسحت دموعي باليد الأخرى.
عندها حدث شيء غريب.
بدأت العروق السوداء على خده تتلاشى.
وأطرافه المشوّهة بدأت تعود لطبيعتها.
“هـه…؟”
كان ذلك مذهلًا لدرجة أنني نسيت الألم.
رفع سيزار رأسه ببطء.
تبادلنا النظرات مجددًا.
لكن تلك النظرة الوحشية اختفت.
حلّ مكانها تعبير راضٍ، كأن وحشًا شبع للتو.
كان فمه ملطخًا بالدم، ومع ذلك ابتسم لي بهدوء.
“هاه…”
شعرت أخيرًا بانفراج التوتر داخلي.
تنفست بعمق، وسرعان ما انسابت دموعي.
عندها بدأ سيزار يحدق بي بتردد، وكأنه يراقب حالتي.
وبصراحة… لم يعد يبدو كوحش هائج، بل كحيوان صغير خائف.
ربما لم يكن يزأر لينقض عليّ، بل فقط لينجو.
لذلك، ناديت عليه مرة أخرى.
“هيه…”
لكنه لم يجب. بل فجأة وضع رأسه على ركبتي، ونظر إليّ من الأسفل.
ثم بدأ يتمدد كأنه يريد وسادة حضن.
دون وعي، مددت يدي، وبدأت أربّت على رأسه.
في البداية ارتجف من لمستي، لكنه سرعان ما استكان لها.
بل راح يحرك ذقنه، كأنه يطلب المزيد.
ذلك أعطاني الشجاعة.
فسرّبت يدي نحو خده ببطء…
بالرغم من أنني كنت قلقة من أن يعاود عضّي، فإن شيئًا آخر كان يثير قلقي أكثر.
رفعت كمّي ومسحت الدم المتلطخ على وجنته. كيف له أن يتلطخ بهذا الشكل، بهذه الفوضوية؟
عندها، لعق سيزار شفتَيه سريعًا، ثم أطلق صوتًا متذمّرًا قبل أن يبتسم فجأة.
آه… حين يبتسم، أدركت الأمر. وجهه في غاية الجمال… وكأن فيه براءة ما، كائن لطيف ضلّ طريقه.
ربّتُّ على رأسه مجددًا. لا أعلم لماذا، لكن قلبي بدأ يهدأ شيئًا فشيئًا.
رغم أنني لم أكن واثقة تمامًا، فإنني لم أعد أشعر بأنه سيؤذيني.
كنت قد أطعمْتُ كلبًا ضالًّا في صغري، سرًّا عن الخدم. لم أكن أربيه حقًا، لكنني قدمت له الطعام.
في البداية كان يزمجر ويحذر، لكنه بعد أن امتلأ بطنه وأدرك أنني لا أنوي إيذاءه، بدأ بالتقرّب مني.
بمجرد أن فتح قلبه لي، أصبح كل شيء أسهل. كان يدفن رأسه في حضني ويتدلل، تمامًا كما يفعل سيزار الآن.
وسط هذا الإحساس الغريب، حيث اختلط الإرهاق بالخوف وبتلك السكينة المؤقتة، مددت يدي بحذر وربّتُّ على رأسه مجددًا.
همست له بهدوء:
«هكذا… جيد… أحسنت يا عزيزي…»
شعرت بدفء شعره الأسود اللامع تحت راحتي، كان أنعم من فرو أي كلب ضال.
حرارة جسده ووزنه فوقي أعاداني إلى الواقع، لكن ما غمر قلبي لم يكن الخوف، بل شعور عجيب بالرضا.
تثاءب فجأة، بكسلٍ شديد. رمشت عيناي بدهشة. أحقًا ينوي النوم الآن؟
فكرت في أن أوقظه، لكنني لم أرغب في كسر هذه اللحظة النادرة من السلام بيدي.
كان المطر قد توقف في الخارج، ولم يبقَ في الغرفة سوى صوت أنفاسه المنتظمة.
حرارته كانت عالية، وملأتني بالدفء. ومع تلاشي التوتر، غلبني النعاس، وأغلقت عيني دون أن أشعر.
التعليقات لهذا الفصل " 5"