فصل 49
أصبحت حركتي بطيئة. لم أعد أستطيع التنفس. شعرت ببرودة تتسلل من أطراف أصابعي. يا له من أمر مروّع. آه، إنه ألم مروّع بحق. كم هو مؤلم أن يعيش الإنسان ويتنفس.
أمام الموت، الذي عشته مرارًا في أحلامي، لم أعد أشعر بالخوف، بل بدا لي الأمر مألوفًا. ذلك لأنني أعلم أنه بعد قليل، سأتحرر من هذا الألم وأجد الراحة. لقد جلبت لي تلك الحقيقة نوعًا من الطمأنينة.
تدريجيًا، بدأت الذكريات القديمة تعود. كشريط حياة يمر أمامي. حين خطوت خطواتي الأولى، حين التقت عيناي بعيني “أنّاريزا” وابتسمت، المهرجان الأول الذي شاهدته، الأغاني التي كنا نغنيها سويًا. ظهرها وهي تدير وجهها، دموعها التي سقطت بلا حول، نظراتها التي أوصتني بالبقاء حيًا رغم سعال الدم الذي أضعفها… كلها مشاهد عادت إليّ.
كنت أشعر بالبرد. أردت احتضان جسدي لشدة القشعريرة، لكن لم يكن لدي حتى القدرة على تحريك إصبعي، فلم أستطع.
لم تحتضنني “أنّاريزا” قط. لم تسمح لي حتى بمناداتها بـ”أمي”. كانت دائمًا تخبرني أن أعيش بقوة. أن أقف مجددًا إذا سقطت، وألا أنكسر أبدًا. كانت تقول إن علي أن أعيش بتلك الطريقة.
هذه… ذكرياتي. ذكريات قديمة تلاشت حتى كادت تُنسى. ربما كانت مؤلمة جدًا، باردة جدًا، حتى اضطررت إلى دفنها في أعماق عقلي.
أدركت الآن أن النهاية قد اقتربت حقًا. هذه اللحظة… وصلت أخيرًا إليّ.
ذكرياتي، التي كانت واضحة كالألوان، بدأت تتشوه من الأطراف، كألوان تتلطخ وتتلاشى.
شعرت ببرودة شديدة. الماء البارد يسحب حرارة جسدي. ربما إن استمرّ الأمر هكذا…
“سِجَار… لو…”
كم تمنيت لو أنني استطعت رؤيتك لآخر مرة. لكن وعيي المتلاشي غرق بهدوء في مستنقعٍ أسود، كمن يغط في نوم عميق.
بدأت أغرق ببطء في المياه العميقة…
**************
في قاعة الاستقبال بقصر الزمرد، كان رجل طويل القامة واقفًا بمفرده، دون مرافقة. كان يرتدي رداءً غامقًا بغطاء رأس، مما جعل ظلّه يحجب وجهه تمامًا.
كان هو الزائر الذي أتى باكرًا يبحث عن “سيزار”، ويُدعى “ريشار”، المعلّم الملكي.
كان يحدّق في لوحة معلّقة على الحائط، وهي صورة رسمية للإمبراطور السابق وزوجته.
حينها، سُمع صوت طرق على الباب، ودخل “سيزار” برفقة “دلفينا” إلى القاعة. وما إن رآه “سيزار” حتى قفز فرحًا لتحيته:
– ريشار!
استدار ريشار بدوره لاستقباله قائلاً:
– هل كنت بخير في الفترة الماضية؟
– نعم.
صمت ريشار طويلًا وهو يضم ذراعيه ويحدق بعينيه عدة مرات، ثم تحدث بإعجاب:
– هذا…
اقترب من “سيزار” وبدأ يتفحّص جسده بدقة، وكان تركيزه منصبًا على يده اليسرى. قلبها مرارًا وتفحصها باهتمام شديد.
– مذهل.
– هاه؟
– منذ متى أصبحت هكذا؟
– منذ متى؟
أمال “سيزار” رأسه بفضول.
– لا أستطيع الجزم بعد، لكن حالتك تحسنت كثيرًا عمّا كانت عليه في آخر مرة التقيتك فيها.
– هاه…
كان من الصعب تحديد ما إذا كان “سيزار” يفهم ما يُقال له أم لا. وحين لاحظ “ريشار” أن تركيزه يتشتت، رفع يده بلطف ووضعها على جبينه.
– حسنًا، سأبدأ الفحص كما أفعل عادة.
حينها، انبعث ضوء خافت من يده، كانت إحدى قدراته السحرية. وبعد مدة من الفحص، تمتم “ريشار” بنبرة إعجاب:
– …اللعنة أصبحت مستقرة.
– لعنة؟
أمال “سيزار” رأسه إلى اليسار. ابتسم “ريشار” ابتسامة خفيفة وهو يتأكد مرة أخرى، لكن النتائج كانت ذاتها.
رغم أن “سيزار” لم يستعد وعيه الكامل بعد، إلا أن حالته كانت أكثر استقرارًا وهدوءًا بكثير من المرة السابقة. من الواضح أن أعراضه التي كانت تتفاقم بشدة، قد بدأت تتراجع.
لهذا، لم يستطع “ريشار” إلا أن يسأل:
– ما الذي حدث في غيابي؟
لكن “سيزار” لم يرد، واكتفى برمش عينيه. لم يكن “ريشار” يتوقع إجابة واضحة منه على أي حال.
فلعنة “التنين المجنّح” ليست شيئًا يُشفى منه بسهولة. ومع ذلك، كانت حالة “سيزار” جيدة للغاية، لا يُفهم كيف، لكن ما حدث يمكن وصفه بـ”المعجزة”.
ورغم أن “ريشار” لم يكن من المتفائلين عادة، فإنه رأى هذا الوضع إيجابيًا إلى حد كبير. لا بد أن هناك تدخلاً ما من طرفٍ آخر.
– آثار سحر…
رغم أن الأثر كان ضعيفًا للغاية، فقد أحس بوجود طاقة سحرية تحيط بـ”سيزار”. كانت آثارًا تشير إلى سحر خاص جدًا. فكل ساحر يترك وراءه موجات خاصة يمكن تتبعها، وبعض أنواع السحر تسمح بتحديد هوية الساحر من خلال تلك الموجات.
وكان “ريشار” يعرف شخصًا استخدم مثل هذا النوع من السحر، بقايا من سحر قديم جدًا.
وفجأة، انتفض “سيزار” واقفًا.
– ما الأمر؟
– …
لكنه لم يجب. انقبض جبينه بشدة، وبدأ يصدر صوتًا غليظًا كزئير حيوان، وكأنه يتحسس خطرًا قادمًا.
وبالفعل، شعر “ريشار” بوجود طاقة على وشك الانفجار. لم يعرف ما هو، لكنه أيقن أن أمرًا قد حدث للتو.
– ما الذي يجري…؟
وقبل أن يخرج عصاه من كمّه، ظهرت فجأة أمام “سيزار” نقطة من الضوء الذهبي. كانت بحجم حبة فول، ثم كبرت حتى أصبحت بحجم قبضة رجل بالغ، ثم بدأت تتخذ شكلًا معينًا.
ضاق بصر “ريشار”:
– صوص؟!
ما ظهر كان صوصًا صغيرًا مغطى بريش ذهبي. ظهور صوص بهذه الطريقة؟!
انعقد حاجباه. منذ متى أصبح “سيزار” يستدعي الكائنات السحرية؟
– متى استدعيت هذا الشيء؟
وبمجرد ظهوره، بدأ الصوص يرفرف بجناحيه الصغيرين وكأنه يحاول إيصال شيء مهم:
– بييك! بيك! بييك بييك!
لم يكن الصوص متقنًا للحديث، فقد كان لا يزال في مستوى سحري متواضع. لكن “سيزار” بدا وكأنه يفهمه، فهزّ رأسه عدة مرات بعلامات الإدراك، ثم تومضت عيناه.
في الحقيقة، حتى قبل ظهور “آب”، كان “سيزار” قد شعر أن “إيرينيا” تواجه خطرًا ما.
– غغغ…
غلبت عليه غرائزه البدائية. لم يعد يسمع أو يرى شيئًا، وكأنه غارق في عالم آخر. بدأ يدور بعينيه حول المكان، ثم اتجه مباشرة نحو النافذة.
– سموّ الأمير، هذه الطابق الثالث ـ
لم يُكمل “ريشار” جملته حتى انشقّت النافذة ذات القضبان الحديدية إلى نصفين، وارتطم الزجاج بالجدار الحجري محدثًا صوت انفجار عنيف. تراجع “ريشار” مفزوعًا.
ولما استعاد وعيه، وجد نفسه وحيدًا في قاعة الاستقبال. ما كان نافذة صار فجوة مفتوحة.
أسرع إلى النافذة وأطلّ منها، لكن “سيزار” لم يعد مرئيًا.
*****
في الصباح الباكر، زارت “جيوفينيتا” قصر “مونستون” لتجري حديثًا مع الإمبراطورة “كورنيليا”.
– تحيةً لجلالتكِ، الإمبراطورة الصغيرة.
التقوا داخل الدفيئة الزجاجية الخاصة بالإمبراطورة. عرضت كورنليا على ضيفتها الشابة تناول الشاي.
– إذًا هذا هو البستان الشهير الخاص بجلالتكِ… سمعت أنه رائع، لكنه أجمل بكثير مما تخيلت.
نظرت “جيوفينيتا” منبهرة بكل ما حولها. الأزهار الجميلة التي لا تُعرف أسماؤها، والطيور ذات الريش العجيب، ملأت المكان بسحر بصريّ.
لكن تربية هذه النباتات النادرة تتطلب الكثير من الثروات… كانت فعلًا إمبراطورة بكل معنى الكلمة. غير أن “كورنليا” تمتمت بنبرة رتيبة:
– إنها التسلية الوحيدة في حياة القصر المملة… مجرد هواية بسيطة.
وفي تلك اللحظة، دخلت خادمة الإمبراطورة وهي تدفع عربة الشاي، وبدأت تصب المشروب. انتشرت رائحة أوراق الشاي الفاخرة القادمة من القارة الجنوبية.
حينها، أسندت كورنليا ذقنها إلى راحة يدها وحدّقت في “جيوفينيتا”. لسبب ما، بدا أن الأخيرة غير مرتاحة، وكأنها لا تعرف إلى أين تنظر.
– أترين؟ تشبهين شقيقك كثيرًا…
في تلك اللحظة، غمر الغضب “جيوبينيتا”، لكنها لم تُظهره أمام الإمبراطورة، فاكتفت بابتسامة باهتة. أما “كورنليا”، فتابعت كلامها دون أن تكترث بردّة فعلها.
«الشباب أمر جميل، أليس كذلك؟ هل قابلتِ شقيقتكِ؟»
«نعم، جلالتكِ. كما التقيتُ بالأمير الأول أيضاً.»
«هكذا إذن.»
ما إن خطرت إيرينيا ببالها حتى عاد الغضب ليتصاعد في داخلها. كانت تحاول جاهدًة ألا تُظهر انزعاجها، حتى إن شفتيها أوشكتا على الارتجاف.
الإمبراطورة كانت قد تلقت بالفعل تقريرًا عن لقائهما في قصر الزمرد، وعن نوع التوتر الذي نشب بين الأختين. وبالطبع، كانت على دراية بأن العلاقة بينهما ليست على ما يرام.
ولهذا السبب، أرادت الإمبراطورة أن تثير هذه الفتاة الشابة عمداً. وبعد لحظة صمت طويلة، نطقت أخيراً:
«هل تعلمين؟ لقد راهنتُ مع شقيقتك على أمر ما.»
«رهان، تقولين؟»
«نعم، شقيقتك كانت… جريئة للغاية.»
ثم بدأت الإمبراطورة كورنيليا تروي لچيوفينيتا الحديث الذي دار بينها وبين إيرينيا، مع بعض التزيين في الرواية. تحدثت عن كلام إيرينيا بشأن تحويل الأمير الأول إلى “إنسان”، وحتى عن تحديها الوقح للوقوف في وجه الإمبراطورة.
لقد تجاوز الأمر توقعاتها. تلك الفتاة الوقحة تتجول وتثير الضجيج هنا أيضاً. لكن چيوفينيتا، في داخلها، شعرت بنشوة خفية، وأجابت بهدوء:
«جلالتكِ، أرجو أن تغفري لشقيقتي وقاحتها.»
عندها ابتسمت الإمبراطورة كورنيليا ابتسامة كسولة وقالت:
«أنتِ بالتأكيد أكثر حكمةً منها. كإمبراطورة، كان يجدر بي التحلي بقدر من الاتزان، لذا لم يكن باستطاعتي كبح جماح فتاة متهورة كتلك. فأنا أعيش دوماً وسط محاولات مستمرة للتقليل من شأني.»
التعليقات لهذا الفصل " 49"