الحلقة 48
يبدو أن الصوص الصغير قد فهم ما قلته له بأن يظل هادئًا، إذ دفن رأسه برفق وسكن مكانه. إنه حقًا مخلوق ذكي.
مددت يدي إلى الجيب الداخلي وبدأت أداعب منقاره بلطف، بينما كنت أخرج بهدوء من القصر. لحسن الحظ، كان الفرسان من “فرقة الصليب الأبيض” الحراس ما زالوا يقفون متفرقين يتبادلون الأحاديث الجانبية.
تجنّب أنظارهم والتوجه نحو الباب الخلفي لقصر الزمرد كان أمرًا في غاية السهولة. كما رأيت للتو في الحلم الذي بدا وكأنه رؤيا، كان هناك ممر يؤدي إلى الخارج من هذا المكان، وها هو فعلاً موجود.
ذلك الباب كان يُستخدم قديمًا لخدمة العاملين، لكنه اليوم مغطى بالنباتات المتسلقة بعدما تُركت حديقة قصر الزمرد دون عناية.
نظرت حولي مرة أخرى، ثم فتحت الباب بلا تردد وغادرت القصر.
*******
كانت “إلدا” في الأصل خادمة زينة في قصر حجر القمر. ولم تنل تلك الوظيفة منذ البداية، بل كانت ثمرة جهدها المضني، وأحيانًا حتى رشوتها للعلية من المسؤولين.
وظيفة خادمة الزينة كانت أفضل من غيرها من الأعمال الشاقة: أجرها جيد، والعمل نفسه أسهل. لم تكن إلدا سيئة الشكل، وكان لديها حِسّ سريع جعلها تثبت أقدامها سريعًا.
وفي هذا النوع من الأعمال، من الطبيعي أن يتجمع المال دون أن يلحظ أحد، كأن تجمع الحلي التافهة التي لا تتذكرها السيدات النبيلات وتبيعها. فهي ترى أن من يملك الثروة الطائلة لن يشعر بشيء إن سُرقت منه قطعة صغيرة، كأن تغرف ماءً من بحر.
لكن إلدا كانت أذكى من سائر الخادمات في سنها. كانت تدرك أن الأمور الخطرة كهذه لا تدوم، فلو طالت الأذيال، سُتداس لا محالة.
لذا، لم تُقدم على هذه الأفعال بنفسها، بل كانت تُكلّف خادمات أقل مكانة منها، فتجعل منهن شريكات في الجُرم.
لكن “دلفينا”، تلك الفتاة المتعجرفة، كانت المشكلة. كونها خادمة جديدة في قصر حجر القمر، فقد كانت بطبيعة الحال أدنى من إلدا.
وعندما أمرتها إلدا بسرقة بعض الأغراض، تجرأت على الرفض وقالت إنه لا يمكنها فعل ذلك، بل وتظاهرت كأنها ستقوم برفع شكوى إلى العُليا، بل وأخذت تقدم لها النصائح كما لو كانت معلمة! كان ذلك مزعجًا إلى أبعد حد. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت دلفينا مكروهة لدى إلدا.
والغصن الصلب، يُكسر بسهولة. إلدا لم تغفر لها أبدًا، وكانت تنتظر الفرصة لإسقاطها.
ثم تم تعيينها في قصر الزمرد الذي خُصص لوليّة العهد الجديدة، ووصلت إلى منصب كبير خادمات القصر. وفي يوم الزفاف، لم تكن العروس “إيرينيا” تبدو أكثر من فتاة جاهلة حمقاء.
فكّرت إلدا أن الوقت مناسب لتوريط دلفينا بتهمة سرقة. كانت ترى أن ذلك سيكون درسًا قاسيًا مناسبًا لها، وربما تكسب من خلاله رضا العروس الجديدة…
“هل ستُحدثين فوضى أكبر؟ لا أريد أن أرى منك مشهدًا بائسًا آخر. غادري هذا المكان، دون أن تقع عيني عليك مجددًا.”
لكن ما لم تكن تتوقعه إلدا، أن هذه العروس لم تكن جاهلة كما بدت، بل كانت حادة الذكاء وتفهم جيدًا ديناميكيات السلطة. وهكذا، وجدت إلدا نفسها على وشك أن تُتّهم، مع تلك الحمقاء “سارا”، بتهمة السرقة.
لحسن الحظ، استطاعت تبرئة نفسها، لكن بمجرد أن أُثيرت الشكوك حولها بأنها لمست شيئًا ثمينًا من ممتلكات الكبار، لم يعد من السهل أن تجد عملًا في أي مكان آخر.
وانتهى بها الحال إلى فقدان عملها في قصر الزمرد وفي أي قصر آخر.
“كل هذا بسبب تلك المرأة!”
زمّت إلدا على أسنانها. كانت تكره ولية العهد. رغم أن مظهرها لا بأس به، إلا أنها لم تكن تكبرها كثيرًا، وكانت حتى تعاني من عرجٍ في جسدها.
وسمعت أنها ابنة غير شرعية لعائلة دوق، بل وكانت تتسكع في الشوارع وتعيش على الشحاذة ذات يوم.
“إنها تعاني من عقدة نقص بسبب أصلها الوضيع.”
ولذلك بدت شخصية ملتوية إلى هذه الدرجة. حين أمرتها السيدة “أرونتشو” وأعطتها المال، شعرت إلدا بالفرح. فحتى لو لم يكن ذلك المال موجودًا، كانت ستنتقم منها حتمًا.
“على أي حال، لم يعد بإمكاني العمل في القصر الإمبراطوري.”
في القصر، السمعة هي كل شيء. وإن سقطت، فلا يمكنك أن تستعيدها أبدًا. والأسوأ من ذلك، أنها أصبحت مكروهة لدى الكونتيسة “إلفيرا”، لذا لم تستطع حتى الحصول على توصية للعمل في مكان آخر. كانت حياتها كلها قد أُغلقت أمامها.
قبضت بيدها بإحكام. لقد قضت الأيام الماضية تراقب تلك المرأة من بعيد، تنتظر الفرصة لتقوم بشيء ما.
لكن حدث أمر غير متوقع تمامًا.
“ما الذي تفعله وحدها بالخارج؟”
رأت بعينيها ولية العهد تخرج من قصر الزمرد متسللة كفأر.
*******************
واصلت السير متمايلة. كلما اقتربت من البركة، بدا أن الرؤى التي أمامي تصبح أكثر وضوحًا.
كان الأمر غريبًا. على عكس الكوابيس التي تطاردني كل ليلة، كان لهذا الحلم طابع مختلف. كنت في تلك الأحلام عاجزة تمامًا، وأشعر أن هناك من يقف خلف كل ما يجري، لكنني لم أكن أستطيع معرفة ماهيته.
كما أن الرؤية في الحلم كانت دومًا مشوشة، كأنها تغطيها ضباب أسود، أو أن آلام الفتيات الميتات كانت طاغية حتى لا أتمكن من التركيز.
لكن الآن، كلما اقتربت من البركة، ازداد كل شيء وضوحًا.
كانت البركة في مكان نادراً ما يرتاده الناس، خصوصًا بعدما قيل إن أحدهم مات هنا. لم يعد أحد يقترب منها.
وبسبب قربها من قصر الزمرد، وصلت إليها بسهولة رغم خطواتي غير المتزنة.
حين وصلت، فاحت رائحة الماء. وما إن شعرت بها، حتى رأيت شيئًا مجددًا.
هذه المرة، كانت هناك يد تدفعني من ظهري نحو البركة.
هل كنت أتخيل فقط، أم أن هذه اليد مألوفة للغاية؟ يدٌ مفصلها سميك… شعرت أنني لو اقتربت أكثر، فسأعرف صاحبها.
“قليلًا فقط… بعد قليل فقط…”
حثثت ساقيّ على التقدم. لم أكن أرى الطريق جيدًا، فقد غطّت الرؤى مجددًا بصري.
وفجأة، شعرت بقوة هائلة تدفعني من الخلف.
“آه؟”
اختلّ توازني. وفي تلك اللحظة، رأيت شيئًا بوضوح تام.
“توقفي عن هذا التخبط!”
كان وجه امرأة، يملؤه الغضب وكأنها شيطان. شعرها، الذي كانت تمشطه دائمًا بعناية، كان مبعثرًا، وعيناها مليئتان بالجنون.
كانت تصرخ بصوتٍ حادٍ مفزع.
“أيتها اللعينة!”
انفجر رأسي من الداخل، وسمعت صوتًا حادًا كأن زجاجًا قد تحطم. كان الصوت يشبه سقوط غطاء زجاجي وتحطمه إلى شظايا تتناثر على الأرض.
“آهغ!”
شعرت وكأنني صُعقت. كان قلبي يتقلب، لكنني علمت أن ما رأيته لا مفر منه.
توالت الصور في ذهني: جمجمة منهارة تغرق في دماء، ابتلاع سمٍّ حارق يذيب الأحشاء ويجعلني أتقيأ دمًا، سقوطي من مكان عالٍ…
وأكثرها رعبًا: جسدي يغرق في مياه البركة الباردة، ويد ما تدفع رأسي إلى الأسفل مرارًا وتكرارًا.
ظهر عنقي الشاحب، وتكشفت بقعة حمراء مع عروقٍ بارزة. كانت هناك نقطة صغيرة على رقبتها. صغيرة لدرجة أنها نفسها قد لا تعلم بها، لكنها كانت مرئية للآخرين. كانت تظهر عندما تستشيط غضبًا.
“مر… سيدس!”
كانت هي. الفاعلة وراء هذه الظلال المظلمة، لم تكن سوى السيدة ميرسيدس أرونتشو.
وما إن أدركت الحقيقة، حتى سمعت صوت ارتطام بالماء. غُمرت بالماء من رأسي حتى قدميّ. لا، لم يكن الماء قد رُشّ علي، بل كنت أسقط داخله.
“آك!”
تحرك جسدي بغريزته، لكن مقاومتي كانت عديمة الجدوى. الماء البارد غزا أنفي وفمي بلا رحمة، وظل يتدفق إلى داخلي رغم كل محاولاتي للنجاة…
الأفكار المشوشة لم تعد تسيطر عليّ؛ فقد تسلّم غريزة البقاء زمام الأمور. كنت أختنق وأتخبط، أقاوم بجسدي وأحاول جاهدًا فتح فمي بأي وسيلة.
“متّ! متِّي فحسب!”
لكن اليد الغليظة التي ضغطت على رأسي منعتني من التنفس.
من…؟ من الذي يدفعني بهذه القسوة؟
“قلتُ لكِ موتي! كل هذا بسببكِ!”
حاولت مرة أخرى أن أتحرك، أن أطفو، لكن جسدي لم يستجب. الماء الذي تسلل إلى مجرى تنفسي عالق كالمخاط، لا يخرج.
حاولت يائسة أن أتنفس، لكن الماء كان يقتحم صدري في كل محاولة.
“آه… كخ!”
“أنتِ السبب! أنتِ!”
كان عليّ أن أتشبث بشيء، بأي شيء. مددت يدي، قبضت على شيء عشوائي، وإذا بصيحة حادة تنطلق من مكانٍ ما.
“بيب!”
وفي تلك اللحظة، انطلقت من العدم فرخٌ أصفر صغير.
لا! أب! إنه خطر، اهرب من هنا!
مددت يدي بشدة، أطلقت أظافري كأنها آخر سلاحٍ أملكه.
“آآخ! هذه الـ…!”
شعرت بشيء يُنتزع، ومعه اختفى الضغط عن رأسي. ولو لوهلة، تحررت من تلك اليد الهمجية.
وفي تلك الثواني، لمحت وجه المجرمة. كانت تلك الخادمة… التي طردتها سابقًا من قصر الزمرد… ما كان اسمها…؟
لكن لم يعد هناك مجال للتذكر.
لقد انتهى الأمر. فات الأوان.
بدأ بصري يتشوش، وشعرت أن الزمن يتمدد، أن اللحظات تتباطأ.
متى كانت يدي تتحرك بهذا البطء؟
كنت أعي بوضوح كيف بدأ جسدي يتصلب… شيئًا فشيئًا.
التعليقات لهذا الفصل " 48"