الفصل 45
“كيف لك أن تُعلِّمي خادمك بهذا الشكل؟”
بينما كانت جيوفينيتا تتذمّر بغيظ، جاءت دلفينا لتساعدني على الوقوف. رتبتُ أطراف تنورتي وفتحتُ فمي لأتحدث:
“احترمي الأدب، يا جيوفينيتا.”
“ماذا؟”
“قلتُ، احترمي الأدب.”
أعدتُ عليها الجملة بنبرة هادئة. تجاهلها لي أمر يمكن تحمّله، لكن إساءتها إلى سيزار كانت أمرًا لا يمكن السكوت عليه.
“سيزار ليس خادمًا.”
صحيح أن مظهره البسيط قد يوهم جيوفينيتا بذلك، وهذا أمر حتى أنا أتفهمه، ولكن أن يُعامَل ولي عهد دولة كخادم؟ هذا ما لا يمكن قبوله.
“سيزا…ر؟ لا تقولي إنّه صاحب السمو ولي العهد الأول؟!”
ارتسمت خيبة الأمل على وجهها. لم أفوّت تلك اللحظة، فعدّلتُ جلستي واستقمتُ في وقوفي. فأنا، في نهاية المطاف، زوجة ولي العهد.
“وأيضًا، خاطبيني بلغة الاحترام.”
“ماذا؟”
تشوّه وجه جيوفينيتا في لحظة، وسمعتُ صوتًا مكتومًا لتكسّر ما بين أصابعها وهي تمسك بمروحتها.
“ألآن تُعلنين التمرّد عليّ؟!”
همستُ بسخرية وبصوت خافت وكأنني أتثاءب:
“حقًا… ما هذا الوعي المتأخر؟”
كان من المضحك حقًا منظر وجهها المقطب وكأنها قد عضّت على دودة.
“ما الذي تنتظرينه؟”
أشرتُ إليها بذقني، في إشارة لأن تُحيّينا.
“أنتِ حقًا…”
وجنتاها باتتا تتلونان بين الأحمر والأزرق. لكن المكان لم يكن خاصًا كما في الماضي، بل نحن الآن في القصر الإمبراطوري حيث العيون كثيرة، فلم يكن لديها خيار سوى أن تجثو على ركبتها وتحيينا.
“فليُخلّد المجد… لصليب النور. أُحيّي سموّ الأميرَين الكريمَين.”
نظرتُ إليها دون أن أشعر بالرضا الكامل، إذ إن مجرد ركوعها لا يمحو ما بيننا من ضغينة. بل إنّ من يشعر بالانتصار لأمر تافه كهذا هو الأشد سذاجة.
ومع ذلك، يمكن اعتبار هذا جزاءً لها على تطاولها على سيزار. ولولا أنّه لم يُثِر الموضوع، لكان من الممكن أن تُعاقب عقابًا شديدًا على وصف أحد أفراد العائلة الإمبراطورية بـ”الخادم”.
“فليُخلّد المجد لصليب النور. آنسة جيوفينيتا، آمل أن تُظهري قدرًا أكبر من الاحترام في المستقبل. أمّا التفاصيل، فلنناقشها في الداخل.”
قلتُ ذلك بنبرة صارمة، ولم تُجب جيوفينيتا. عندها أمرتُ أحد الخدم القريبين بأن يصحبها إلى غرفة الضيوف.
ثم اقترب سيزار من جيوفينيتا، ووضع شيئًا في يدها.
“هذا لكِ.”
“مـ-ما هذا…؟”
ما وُضع في يدها كان دودة الأرض التي كان سيزار يحفر في التراب ليخرجها. بدأت تتلوّى على راحتها.
“آآآاااااه!!”
صرخت جيوفينيتا بجزع وهي تتخلّص من الدودة، فاندفع “آب”، الكتكوت، وابتلع الدودة على الفور.
“مقزز!”
شحب وجه جيوفينيتا بعد أن رأت الكتكوت يلتهم الدودة نصفين. بدت على وشك الإغماء، ثم أخرجت منديلها تمثّلت التقيؤ.
“هاها…”
لم أتمالك نفسي من الضحك عند رؤية هذا المشهد الكوميدي السخيف.
“ما هذا! أآآااه! ما هؤلاء المجانين؟!”
فقدت أعصابها تمامًا، وصاحت بأعلى صوتها. سمعتُ صراخها الغاضب من الخلف، لكنني واصلت طريقي دون أن ألتفت. كنتُ أركّز فقط على ألّا يختلّ توازني أثناء المشي.
وفي النهاية، أرجأت جيوفينيتا اللقاء، بحجّة أن هندامها لم يكن لائقًا.
*************
“ماذا… ما هذا بحق السماء؟”
ميرسيدس، التي كانت تتابع إيرينيا سرًا منذ أيام، ابتلعت ريقها بدهشة، غير مصدّقة ما تراه عيناها.
فأي عقل يتصوّر أن الأمير العزيز الجليل يجلس على الأرض القذرة ليلعب بالحشرات؟
كانت على وشك أن تهرع إلى هناك لتصرخ في وجهه: “ما الذي تفعله بحق السماء!” كانت تغلي من الداخل.
“ما الذي تفعلينه بأميرنا العزيز؟!”
كاد صوت أسنانها أن يُسمع من شدة الضغط. عندما كانت إيرينيا تقرأ له أو تعلّمه آداب السلوك، لم يكن هناك مبرر للتدخّل. لكن هذه المرة مختلفة.
فما كان على يد سيزار لم يكن طائرًا أليفًا أو شيئًا فخمًا، بل مجرد كتكوت حقير.
كان مشهد الكتكوت على يد الأمير النبيل لا يُطاق، وأرادت أن تصرخ فورًا. لم تستطع تحمل ذلك، وكانت مقتنعة تمامًا أن تلك الفتاة الوضيعة هي السبب.
“أنتِ تريدين أن تُسقطي سيزار إلى الحضيض مثلك.”
غلت الدماء في عروقها وبدأت تسمع طنينًا في أذنيها.
ثم، دخلت فتاة جميلة إلى مدى بصر ميرسيدس. كانت تبتسم ابتسامة ناعمة كأنها ملاك صغير مرسوم على جدارية.
رغم الغليان في صدرها، أحسّت فجأة بنسمة عليلة.
“من تكون هذه الفتاة؟”
رغم بعد المسافة، لم تتمكن من سماع حديثهما، لكن بعض الأمور كانت واضحة. أولها أن تلك الفتاة تعرف إيرينيا، وثانيها أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام.
“يجب أن أعرف المزيد.”
كان لديها شعور غريب بأنّ شيئًا جيدًا سيحدث. غادرت بسرعة، وبهذا لم تشهد صراخ جيوفينيتا… يا لها من مأساة وكوميديا في آنٍ معًا.
***********
“ما هذا بحق الجحيم؟ مارثا، هل رأيتِ ما فعلَته قبل قليل؟”
جيوفينيتا لم تستطع كبح انفعالها. الخادمة العجوز، مارثا، كانت تشعر بالقلق من أن يطالها غضب سيّدتها، فحاولت تهدئتها بكل ما أوتيت من جهد، تلوّح بمروحتها وتختار كلماتها بعناية.
منذ أن أخبرتها جيوفينيتا بنيّتها لقاء زوجة ولي العهد، توقعت مارثا أن هذا اللقاء لن يكون هيّنًا.
فمنذ أيام السكن في المنزل العائلي، كانت العداوة بين الاثنتين واضحة.
لكن الغضب لم يغادر ملامح جيوفينيتا بسهولة.
“سيدتي، إن غضبتِ بهذا الشكل فستُرهقين نفسك. ثم إن السيدة قد أوصت بألّا تنسي أعين الناس داخل القصر.”
“آه…”
وأخيرًا، أخرجت جيوفينيتا مرآة صغيرة لتتفقد وجهها، تتحقق من أنّ مكياجها لم يفسد وأن العرق لم يُفسد إطلالتها. شيئًا فشيئًا، هدأ غيظها.
زفرت بعمق. لكن لم يذهب كل الغضب.
“لم تتغيّر، تلك الحقيرة.”
ثم خطر ببالها وجه سيزار، ولي العهد الأول. يده التي حملت تلك الدودة القذرة… لقد كان مشهدًا مقززًا.
ربما ما يُقال عنه بأنه “الأمير الملعون” ليس شائعة، فمَن يفعل هذا وهو بكامل قواه العقلية؟
في تلك اللحظة، وقفت امرأة مسنّة أمامها.
“تشرفت برؤية السيدة النبيلة.”
“من تكونين؟”
شعرت جيوفينيتا بالفضول تجاه هذه المرأة المجهولة التي ظهرت فجأة.
“آه، عذرًا. أنا مرسيدس أرونتشو، من المقرّبين لصاحب السمو ولي العهد الأول.”
“ولي العهد الأول؟”
“نعم.”
“وما حاجتكِ بي؟”
تذكّرت جيوفينيتا الاسم. قبل دخولها إلى القصر، كانت قد اطّلعت على قائمة بأسماء الشخصيات المهمّة، واسم مرسيدس كان أحدها، كونها من القلائل المقربين من الأمير. بل قيل إنها كانت مُربيته في الصغر، ولا شك أن هذه هي نفسها.
نظرت مرسيدس حولها ثم اقتربت وهمست:
“أعتذر على التطفل، لكنني رأيتكِ تتحدثين مع الأميرة إيرينيا، وظننتُ أن بينكما معرفة ما.”
يبدو أنها رأت الفرصة لتستغلّها، وهي تُفكر إن كان بوسعها الاستفادة منّي.
فأجابت جيوفينيتا بإيماءة راقية:
“أنا جيوفينيتا فلوريس، الابنة الكبرى لدوقية فلوريس.”
انبهرَت مرسيدس في داخلها. حقًا، لقد كانت مثالًا راقيًا للنبل.
(هذه هي النبيلة الحقيقية من عائلة الدوق… لا تُقارن أبدًا بتلك اللقيطة).
كلما تأملتها، زاد إعجابها بها.
(لو أنها فقط كانت هي من أصبحت زوجة الأمير…)
عادت الفوضى لعقلها من جديد… أعراض ظهرت منذ أن ابتعدت عن سيزار.
“……لو كان الأمر كذلك، كم كان سيكون جميلًا.”
خرجت تلك الكلمات من فمي دون وعي، كانت مجرد خاطرة داخلية نطقت بها بلا قصد.
“عذرًا؟”
“لا، لا شيء على الإطلاق.”
أسرعت مرسيدس بهز رأسها ونقلت الحديث سريعًا لتقترح على جيوفينيتا:
“بما أن ملابسك قد اختلّت قليلًا بسبب ما حدث للتو، ما رأيك أن تذهبي إلى مقري لترتيب هيئتك؟”
ترددت جيوفينيتا للحظة، لكنها ما لبثت أن أومأت موافقة.
(ثمة رائحة مثيرة للاهتمام تفوح من هذا الموقف…)
غريزتها الحادة أيقظت حاسة التنبّه لديها. مرسيدس كانت مرضعة الأمير، وقد تكون من أنصار إيرينيا، ومع ذلك هي تطلب مقابلتها على انفراد؟ لا بأس بأن تسمع ما لديها، قد تكشف شيئًا مفيدًا.
قادت مرسيدس الضيفة إلى إحدى الغرف في جناح الزمرد.
“سيدة أرونتشو، أشكرك جزيل الشكر على مساعدتك، لقد أنقذتني من ورطة حقيقية.”
قالت جيوفينيتا وهي ترتشف من الشاي الدافئ. كان طعمه عاديًا.
ورغم أنه القصر الإمبراطوري، فإن هذا الجناح بدا قديمًا ومهترئًا، بل حتى أقل مستوى من قصر آل فلوريس.
“قلتِ إنك من المقرّبين لسمو الأمير، فلماذا إذن لستِ برفقته وتقيمين هنا وحدك؟”
طرحت جيوفينيتا سؤالها بخفة، فما كان من مرسيدس إلا أن أخرجت منديلًا بسرعة، ودمعت عيناها.
“أنا… حقًا، كل ما أردته هو أن أساعده من قلبي.”
وفي تلك اللحظة تحديدًا، شعرت جيوفينيتا بشيء غير مريح على الفور… شعور بالتنافر، لا يُمكن تجاهله.
التعليقات لهذا الفصل " 45"