فصل 44
“أبراكساس.”
“هم؟”
خرجت هذه الكلمة فجأة من فم سيزار.
“اسمه، أبراكساس.”
“أبراكساس؟”
كان اسمًا جادًا لا يليق إطلاقًا بهذا الكتكوت اللطيف. لا بد أن هناك اسمًا أكثر حلاوةً يناسبه أكثر.
حينها أضاف سيزار قائلًا:
“…اسم حاكم.”
“حاكم؟”
تساءلت إن كنت سمعت بشكل خاطئ، فأعدت عليه السؤال، ليقفز الكتكوت—أقصد، أبراكساس—مطلقًا صوته.
“بيّاك!”
وفي تلك اللحظة، ارتسم على عيني سيزار بريق غامض يصعب وصفه بالكلمات. ولسببٍ ما، لم أستطع سوى أن أومئ برأسي وكأنني مسحورة.
وهكذا، نال كتكوتنا اسمًا رائعًا: أبراكساس.
“أبراكساس… الاسم طويل جدًا، فلنطلق عليه آبر.”
“حسنًا.”
“بيّيك!”
أومأ الاثنان في آنٍ واحد. لم يكن أمرًا غريبًا أن يفعلها سيزار، لكن رؤية آبر يهزّ رأسه كأنه يفهم ما نقول أضحكني قليلًا.
********
كانت السماء صافية تتخللها غيوم بيضاء عائمة. الربيع قد بلغ أوجه، والنسيم كان يحمل عبقًا منعشًا لزهوره.
وفي موسم التواصل الاجتماعي هذا، عجّ القصر الإمبراطوري بالزوار. فقد أقيمت حفلة الديبيتان، التي تُدعى إليها السيدات الشابات حديثات الدخول إلى المجتمع ليلتقين بالإمبراطورة.
ظهرت وجوه جديدة في أرجاء القصر، وبما أن هذه الفترة كانت مخصصة للسماح بدخول الغرباء، فقد تم تشديد الحراسة أكثر من المعتاد.
ولم يكن جناح الزمرد استثناءً. غير أن العيون المراقبة لنا خفّت قليلاً منذ الصدام السابق بين سيزار وفرسان صليب الوردة البيضاء.
لست متأكدة إن كان هذا أمرًا جيدًا أم لا، لكن يبدو أنهم مشغولون هم أيضًا بالتأقلم مع التغييرات المفاجئة في القصر. ربما من الأفضل أن نتجنب المواجهات غير الضرورية.
وفوق هذا كله، فقد رزقنا بثمرة الحب… الكتكوت، أبراكساس. ولم يكن أحد يعلم بأمره سوى ديلفينا.
وبما أن الجو كان جميلًا اليوم، خرجت مع سيزار وآبر إلى حديقة الجناح المقفرة لأخذ حمام شمس بسيط.
ولم يكن في الأمر شيء خاص، مجرد بطانية موضوعة على الأرض، ونحن نحفر الأرض بأغصان الأشجار.
ومع مرور الوقت، تخرج ديدان الأرض من تحت التراب.
“بيّاك!”
وكان من روتين آبر الصباحي أن ينقرها بمنقاره الصغير. ربما نموه السريع يرجع إلى هذه الوليمة الخاصة من الديدان.
“أظن أن آبر ذكي حقًا.”
“ذكي؟”
سألني سيزار بينما كان يسوي الأرض بمخلبه.
نعم. لا يمكنني إلا أن أشرح مدى ذكاء هذا الكتكوت اللطيف.
أكثر ما كانت ديلفينا تقلق بشأنه هو أن هذا المخلوق الصغير سيتبرز في كل مكان. لكن ما فاجأنا أنه كان يستخدم مكانًا محددًا لقضاء حاجته، مما أدهش ديلفينا كثيرًا.
وأحيانًا، كان يبدو وكأنه يفهم كلام البشر. حتى الآن، حين مدحتُه، انتفش ريش عنقه بفخر، كما لو أنه يتباهى.
“هنا أيضًا.”
وما إن حفرت قليلاً، حتى ركض بسرعة والتقط الدودة. كانت مقرفة بعض الشيء، لكنني تعودت على ما هو أسوأ حين كنت أعيش في الشوارع.
“بيّاك!”
آبر لم يكن يفارقنا أبدًا. قالت ديلفينا إن الكتكوت يعتبر أول من يراه بعد الفقس والده. ربما لهذا السبب، كان يتبعنا أينما ذهبنا.
وحين شبع، راح يدور حول نفسه ثم نقر إصبعي بلطافة. فبدأت أربت عليه بخفة.
“هل شبعت؟”
“بيّك! بيّاك.”
“لكن إن رآك أحد، يجب أن تختبئ جيدًا، فهم لا يجب أن يعرفوا بأمرك.”
“بيّك.”
مهما كان آبر ذكيًا، تربية كتكوت داخل القصر أمر يدعو للقلق. الآن هو صغير، لكن لاحقًا سيصبح ديكًا ضخمًا، فماذا سنفعل حينها؟
“ماذا لو ظنوا أنه من دجاج المطبخ وتركوه في الخارج؟”
ربطت خيطًا أزرق حول قدمه كي أميز بينه وبين غيره، لكنني لا أعلم إن كنت سأستطيع تمييزه إن اختفى الخيط.
وبينما كنت أنثر له الطعام وأفكر بكل هذا، تسللت إليّ مشاعر كآبة.
“بيّاك.”
وكأنه شعر بي، نقر إصبعي بلطف كأنه يواسيني.
“خذي.”
مدّ سيزار يده لي وأعطاني دودة تتلوى. بيده العارية.
“شكرًا.”
أخذتها بعصا من الأرض، وفجأة شعرت بقشعريرة غريبة
“ما بكِ؟”
سألني سيزار.
“لا أعلم… شعور غريب فقط.”
حينها راح يتفحص المكان، وفجأة توقف عند نقطة محددة، يحدّق بثبات.
“ماذا هناك؟”
سألته عندما لاحظت أنه لا يحرك نظره عن ممر الطابق الثالث في القصر.
“ذاك جناح الخدم…”
هل من الممكن أن ديلفينا تراقبنا؟ شعرت بالفضول ونظرت إلى حيث ينظر. ومن خلف النافذة، بدا وكأن ظلًا أسود قد ظهر واختفى.
ظننت أنني أتخيل، وفجأة، سمعت صوتًا ينادينا من بعيد.
كانت ديلفينا، تقترب منا بخطى مسرعة.
فمن كان ذلك الظل إذًا؟
“ما الأمر؟”
سألتها، فأجابت بأن هناك من جاء لزيارتنا في جناح الزمرد.
“لي أنا؟”
لم أستطع أن أفكر بشخص قد يأتي لرؤيتي.
ثم رأيت من بعيد هيئة مألوفة جدًا.
“جيوفينيتا…؟”
لم أصدق عيني.
كانت جيوفينيتا حقًا، أختي غير الشقيقة. تتحدث بودٍ مع فرسان صليب الوردة البيضاء.
“جيوفينيتا… لماذا هي هنا؟”
شعرت بأن قلبي انقبض بشدة، وكأنني ابتلعت جمرة متقدة.
فما زالت هناك مرارة قديمة لم تهدأ بعد.
شعرت بألم في كاحلي، تمامًا في المكان الذي جُرحت فيه بسببها. فشدَدت على أسناني.
لاحظتني جيوفينيتا، ولوّحت لي بابتسامة عريضة.
وفي تلك البسمة المتصنعة، شعرت بغضب متقد.
كان حراسها يفسحون لها الطريق كما يفعلون دائمًا.
هكذا كانت جيوفينيتا… دائمًا ما تكسب قلوب الناس. بابتسامتها المائلة، بلطفها، بدلالها، بجمالها الأخّاذ.
كان الرجال، خاصةً، لا يستطيعون مقاومة سحرها. شعرها الذهبي كالعسل، عيناها الزرقاوان كلون السماء، بشرتها البيضاء كالطحين، خديها المتوردين، أنفها المرتفع، ووجهها الصغير…
كانت أشبه بملاك صغير حيّ.
لكن من لا يرى الأشواك خلف ابتسامتها… فهو واهم.
اقتربت بخطوات واثقة، رفعت طرف تنورتها، وانحنت لتحية الحراس برقة، ثم جاءت إلي.
“إيرينيا، لقد كنت قلقة عليكِ.”
قالتها بابتسامة مشرقة.
“لم تخبرينا بشيء، ماذا حدث لكِ؟”
رغم نظرتي نبرتي الباردة، لم يتغير شيء في تعابيرها.
“نحن أخوات، كيف يمكنك أن تكوني هكذا؟ عدم تواصلكِ جعلنا قلقين عليكِ، لهذا أرسلتني والدتنا.”
حينها، ارتجف داخلي.
“نحن، ووالدتنا”… بالنسبة لجيوفينيتا، كانت هذه الكلمات سورًا يفصلها عني.
من البداية، لم يكن لي مكان في عالمها.
> “ألم يكونوا هم من أرسلوني إلى هذا المكان منذ البداية كي أموت؟ كان من الطبيعي، بعد الزواج، أن يتواصل المرء مع عائلته. لكن متى كانوا يومًا عائلتي؟ الشخص الوحيد الذي استحق أن أُسميه عائلة هو “آنّاليسا”، لا غير. ولهذا لم يخطر ببالي قط أن أتواصل معهم.”
جلست بهدوء أحدّق إليها من مكاني. ولمّا لم أنبس ببنت شفة، أخرجت “جيوفينيتا” مِروحتها وبدأت تُهوّي بها وجهها.
“أنتِ… لا زلتِ كما أنتِ، أليس كذلك؟”
شعرتُ بنظراتها تمسحني وتمسح “سيزار” بطولنا وعرضنا. ولحسن الحظ – أو ربما لسوئه – كنا جالسين على الأرض نبحث في التراب عن ديدان لـ “آب”، وقد اتّسخنا تمامًا بالوحل، ومظهرنا كان بعيدًا كل البعد عن الأناقة أو الرقي.
لماذا اختارت المجيء في مثل هذا الوقت تحديدًا؟ عضضتُ على داخل شفتي بصمت.
وبينما أنا كذلك، قالت “جيوفينيتا” بنبرة معاتبة:
“إلى متى ستتركين ضيفتك واقفة في هذا المكان؟ أنت، هناك.”
وأشارت بإصبعها نحو “سيزار”. وقد أدرك أنه المقصود، فرفع رأسه وأشار إلى نفسه بإصبعه متسائلًا.
“نعم، أنت. هيا، ساعد سيدتك ورافقنا إلى غرفة الضيوف.”
حدّقتُ بها بدهشة، غير مصدقة. هل يُعقل أن “جيوفينيتا” ظنّت أن “سيزار” خادم؟!
التعليقات لهذا الفصل " 44"