الفصل 42
هل من المنطقي أن يُطلق على قطعة نقدية نحاسية لا تحتوي على ذرة من الفضة اسم “عملة فضية”؟ كان ثمة مصطلح يطلق على هذا النوع من الأشياء. شيء لا يحمل سوى مظهرٍ خادع. زائف.
نعم، وما الفرق بين هذه العملة المزيفة وتلك المرأة؟ ظاهرها فقط يبدو سليماً، أما باطنها فمحض زيف. زائفة… كأميرة ولي العهد المزعومة.
إيرينيا فلوريس. كانت تحمل لقب “ابنة دوق”، لكنها في الواقع لم تكن سوى ابنة غير شرعية تافهة. والأسوأ من ذلك، أن جسدها نفسه معطوب، كسلعة فاسدة.
“لا شيء سوى هذا التفاهة…!”
ألم يُقال إنه حتى قد نام معها؟ إذاً، فليس من الصعب تخيل ما يحدث دون الحاجة إلى رؤيته بعينيها.
“يا لها من امرأة دنيئة.”
تفوهت بالشتائم بألفاظ بذيئة. كلمات، لو سمعها أحد، لجلبت الكارثة. ورغم كل ما قالته، لم تهدأ نار الغضب بداخلها. لقد مضت أيام وهي تراقب سيزار يُساق من قبل تلك المرأة كما تشاء، حتى شعرت بنوع من الإذلال.
“كيف يمكن لسمو الأمير أن يفعل هذا بي؟”
هزّت مرسيدس رأسها بقوة. لا يمكن أن يكون الأمر صحيحاً. ليس من المعقول أن يفعل الأمير الطيب ذلك بها.
تشوّشت أفكارها واضطربت. كل هذا لم يكن سوى من فعل تلك المرأة البغيضة. تخيّلتها وهي تميل بعينيها بخفة وتهمس في أذن سيزار بكلمات ناعمة.
“لا شك أنها هي من تتحكم في كل شيء.”
كانت واثقة. لا حاجة للرؤية، فقد كانت تعرف. وإلا، لما عاملها سيزار بهذا الشكل. كانت تربطهما علاقة عمرها 18 سنة. لم يكن هناك ما يمكن أن يقطع تلك الصلة القوية التي تشبه علاقة الأم بابنها، وخصوصاً من حجرٍ متدحرج كهذه المرأة.
“لن أسامحها.”
وفوق كل ذلك، ما قالته الخادمة التي اشترتها من قصر الزمرد كان أكثر مما يُحتمل.
“يُقال إنها تتقصى حول كيفية وفاة مرشحة الأمير السابقة.”
يا لها من امرأة لا تجلب سوى المتاعب. حتى وإن بحثت في كل مكان، ماذا يمكنها أن تجد؟
“دعها تحاول كما تشاء.”
سمعت صوت صرير أسنانها. نظرت إلى راحة يدها، حيث سالت الدماء من موضع انغرز فيه ظفرها.
“في النهاية، كل شيء داخل راحة يدي…”
رفعت مرسيدس كفها إلى فمها، ولعقت الدم الذي سال. فذاقت طعم الحديد، مقززاً.
************
كانت دلفينا تمسح وجهي بمنشفة، تتفقد حالتي. كنا وحدنا في غرفة النوم.
أومأت لها بعينيّ، فأدركت الإشارة ورفّت بعينيها.
“أحتاج إلى مساعدتك.”
“نعم، سموّك. تفضلي بالكلام.”
همست لها بكلمات، فتبدّل وجهها الهادئ وكأنها سمعت شيئاً لا يُصدق.
“هل يمكنك إحضاره؟”
“… تعنين ذاك الشيء؟”
“نعم…”
كان تعبير وجهها يقول وكأنها تتساءل: لماذا تحتاجين لهذا؟ فأسرعت بالتوضيح:
“لا تسألي عن السبب. ولا تتركي أحداً يعرف. خصوصاً سيزار. أبداً.”
“… حاضر.”
رغم أن ملامحها بدت مملوءة بالكلام غير المنطوق، إلا أنها لم تجد سبباً كافياً للرفض، فأومأت باستسلام.
“سأسأل خادمات المطبخ… لا، سأبحث بنفسي.”
كنت أعلم. أعلم أن هذا الطلب غريب فعلاً.
“شكراً لك.”
لكن، لم يكن هناك خيار آخر لحماية نقاء قلب سيزار.
في تلك الظهيرة، سلمتني دلفينا رزمة صغيرة ملفوفة بقماش. في البداية لم أعرف ما هي، لكن سرعان ما تذكرت ما طلبته في الصباح.
“ها هو.”
ابتسمت، حاجبي يتجعدان.
“لكن سموك… ما الذي ستفعلين بشيء كهذا؟”
“آه، هذا… هممم. له استخدام معين.”
تنحنحت وأنا أفتح القماش. كان بداخله بيضة بيضاء مستديرة.
************
“سيزار، تعال إلى هنا.”
“هم؟”
دعوت سيزار حين جاء إلى غرفتي تلك الليلة كعادته. كنت أمثّل، فبدا صوتي غريباً وأنا أتصنع اللامبالاة.
“لدي هدية لك.”
عند سماع كلمة “هدية”، اتسعت عيناه.
“شيء جميل؟”
“نعم، جميل جداً.”
نظر إليّ بعينين تلمعان من الترقب، وكأنه جرو صغير ينتظر مكافأة. بدا لطيفاً للغاية، حتى إنني شعرت بوخز في ضميري.
وضعت يدي في جيبي وأخرجت الرزمة، مترددة. تنحنحت بارتباك.
“ههم، هذا…”
نظر إليّ بصمت، فأضفت بسرعة:
“أنا… أنا التي أنجبتُه.”
اتسعت عيناه بدهشة. شعرت بالقلق، هل بدأ يشك؟
لكن سرعان ما غمرت الفرحة وجهه، وارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه. اقترب مني بخطوات كبيرة وكأنه سيقفز.
“ثمرة حبنا؟”
“ن-نعم، ثمرة حبنا…”
وخز في قلبي. لا بد أن هذا الألم سببه ضميري الذي يحاول الصراخ من داخلي.
لكنه كذب أبيض. نعم، كذبة بيضاء. مثلما نُخفي عن الصغيرة بيرناديتا أن جنية الأسنان، التي تبدّل أسنانها المفقودة بالنقود، ما هي إلا مربيتها.
بينما كنت أعاني من الشعور بالذنب، بدا سيزار في غاية السعادة.
“متى… متى أنجبتِه؟”
رأيت ملايين النجوم تتلألأ في عينيه، تنعكس فيها مجرة السماء. لهذا لم أستطع مواجهته بنظري.
“في الصباح.”
“حقاً؟”
“أ-أجل…”
“هل كان الأمر صعباً؟”
انخفض حاجباه بقلق. كان يرمقني بنظرة مليئة بالشفقة. لم يكن الأمر صعباً فعلياً – دلفينا هي من بذلت الجهد – لكنني اضطررت للمراوغة مجدداً.
“ه؟ آه، نعم، إلى حد ما…”
“أنتِ مذهلة.”
كانت عيناه تتألقان ببراءة مؤلمة. وبينما يحدّق بي، لم أتمالك نفسي وقلت إن الأمر كان سهلاً للغاية.
يبدو أنني بدأت أكذب بلا وعي. عليّ أن أذهب لاحقاً إلى الكاهن لأعترف بخطاياي.
رغم شعوري بالثقل وهو يرمقني بتقدير، تماسكت وعضضت على شفتيّ لأخفي خجلي.
ظل سيزار يتأمل البيضة في يده بسعادة.
“هل ستخرج منها فرخة بط؟”
“م-من يدري؟”
قلت لدلفينا أن تحضر أي بيضة، وفعلاً جلبت بيضة عادية. لم تكن لتفقس أصلاً، وبالتأكيد لن يخرج منها بط.
“كواك كواك؟”
لكني لم أستطع أن أخبره بالحقيقة. أمسك البيضة برفق ووضعها على صدره.
“لو ضغطت عليها، ستنكسر. لا بد من احتضانها بحذر.”
“مثل أم البط وأبوه؟”
“أجل، مثل أم البط وأبيه. يجب أن تحتضنها جيداً، وتبقيها دافئة.”
رغم أنني قلت ذلك، كنت أعلم جيداً أن البشر لا يمكنهم احتضان بيضٍ مثل البط. كنت أخطط لرميها لاحقاً سراً إذا فسدت.
نعم، ثمرة حبنا.
والسبب الذي جعلني أستمر في هذه المسرحية، كان بسيطاً. كنت آمل أنه طالما انشغل بهذه “الثمرة”، سيتوقف عن تكرار الحديث عنها.
“عش!”
نظر سيزار حوله، ثم بدأ بجمع الأغطية والوسائد ليصنع عشاً في أحد أركان الغرفة، والبيضة لا تزال في يده.
“ص-صحيح، لا بد من بناء عش، أليس كذلك؟”
“أجل.”
وهكذا، جلسنا نعمل على صنع عش على طرف السرير. صار السرير أضيق قليلاً، لكنه كان كبيراً بما يكفي لتحمل عش أو اثنين.
“الآن وقد انتهينا من بناء العش…”
شعرت فجأة وكأن الأمور بدأت تأخذ طابعاً جاداً أكثر من اللازم، لكنني هززت رأسي بسرعة.
لا بأس، سيملّ من هذا قريباً، أليس كذلك؟
أقنعت نفسي بذلك بتفاؤل.
“بما أننا انتهينا، لنقرأ كتاباً الآن؟”
لكن سيزار لم يتحرك، بل جلس متقرفصاً وهز رأسه.
“لا. يجب أن أحتضنه.”
> داخل العشّ الذي صنعناه معًا، احتضن البيضة بحذر شديد، وكأنه يلفّها بجسده ليحميها من العالم. كانت ملامحه تنطق بعزيمة جادة، فلم أجد ما أضيفه.
“هكذا؟ إذن، استمع إليّ وأنا أقرأ لك.”
شعرت بشيء من الحرج، لكن لم يكن أمامي خيار، فاستلقيت إلى جواره وفتحت الكتاب. ظننت أنه سيتعب سريعًا… لا بدّ أن يتعب، أليس كذلك؟
لم أكن أعلم حينها. كنت أقلّل من شأن عزيمته. ولم أكن أدرك مدى إصرار سيزار.
بدأت أشعر أن الأمور تسير في اتجاه غير متوقّع في صباح اليوم التالي.
“سيزار؟”
لم يكن بجانبي كعادته، ملتصقًا بي كظلّي. تذكّرت أنه رفض الخروج من العشّ ليلة البارحة مدّعيًا أنه يريد حضن البيضة. لكن الغريب… أنه لا يزال في نفس الوضع كما كان!
“لا تخبرني أنك لم تنم أبدًا؟”
“هيهي…”
ابتسم سيزار بتعب، وكان تحت عينيه ظلّ قاتم، أو هكذا خُيّل إليّ.
“رين…”
ناداني بصوت خافت، فاقتربت منه. أخرج البيضة من بين يديه، وفي تلك اللحظة شككت في بصري — لقد بدت وكأنها تحرّكت قليلًا.
“هاه؟”
أمسك بيدي برفق، ووضع البيضة عليها. فتحرّكت مجددًا، ولم تكن تلك مجرد أوهام هذه المرّة.
رفعت رأسي بذهول ونظرت في عينيه.
التعليقات لهذا الفصل " 42"