الفصل 41
ارتفع حاجبا سيليستينا قليلًا، وفتحت دوقة فلوريس مروحتها إلى نصفها. كانت النسائم التي تداعب وجهها هادئة إلى أبعد الحدود، لكن تلك الحركة وحدها كانت كافية لتعكس مشاعرها.
“لـ… لا شك أن ابنتك الكبرى لا يُضاهيها أحد في الفضائل والسمعة. سمعت أنها لفتت الأنظار بشدة منذ ظهورها الأول في المجتمع العام الماضي، أليس كذلك؟”
بإضافة هذا التعليق المتأخر، خفّ التوتر في الجو أخيرًا. تنهدت كليمانتين بارتياح بينما كانت تصب الشاي.
“لقد تم اختيار ابنتي مؤخرًا لتكون رفيقة لجلالة الإمبراطورة، لذا ستدخل القصر الإمبراطوري قريبًا. أرجو أن تختاري لها فستانًا يليق بمقامها.”
“تصادف أن لديّ شيئًا مميزًا مخصصًا للفتيات الاستثنائيات.”
عند سماع كلمة “مميز”، رفعت جيوفينيتا أذنيها باهتمام. وهنا أظهر صوت كليمانتين الناعم اللطيف قيمته الحقيقية.
“هذا الفستان مشابه للطراز الذي ارتدته أميرة إيتريو، لكنه أكثر فخامة منه. تم استخدام أفخر أنواع الحرير والتطريز بالجواهر دون أي توفير، لذا فهو مدهش حقًا. سيكون التصميم الأبرز لهذا العام.”
“أريده، أرجوكي؟”
“أرجو أن تخيطي لها عدة قطع من هذا النوع.”
ابتهجت كليمانتين في سرّها، إذ أن الزبونة كانت سخية مثلما هي صعبة الإرضاء.
“حسنًا، سأرسل الملابس الجاهزة إلى منزلكم عبر حامل خاص.”
“سأكون بانتظارها.”
ودّعت كليمانتين الأم وابنتها بابتسامة عريضة، ثم انطلقت العربة الفاخرة التابعة لعائلة فلوريس نحو القصر.
بعد أن دفعت مبلغًا ضخمًا مقابل الفستان، بدا مزاج جيوفينيتا في أفضل حال. وبينما كانت تغني بهدوء وهي تتأمل القبعة والشرائط التي اشترتها مسبقًا، لم تستطع سيليستينا إخفاء قلقها. على الرغم من بلوغها سن الرشد، إلا أنها لا تزال تبدو صغيرة للغاية.
“قريبًا ستدخلين القصر وتخدمين جلالة الإمبراطورة، لذا عليكِ أن تكوني مهذبة في تصرفاتك.”
أشاحت جيوفينيتا بوجهها وهي تضع قبعة مزينة بحلي فاخرة على رأسها.
“أعلم ذلك جيدًا.”
جلست باعتدال وحدّقت في وجه والدتها بوجه متذمر، فابتسمت سيليستينا بأدب وردت بهدوء:
“أنتِ تعلمين أنكِ يجب أن تبرزي بجمالك أكثر من أي أحد آخر.”
فتجهم وجه جيوفينيتا على الفور.
“آمل فقط أن أكون أكثر لفتًا للأنظار منها.”
راحت تُمضغ شفتها وتحك إبهامها وكأنها تود قضم أظافرها، مما أثار شفقة سيليستينا.
“لا تقلقي، حين ترتدين هذا الفستان ستكونين أنتِ الأجمل على الإطلاق.”
تألقت عينا جيوفينيتا بلمعان.
“هل أستطيع أيضًا أن أجذب انتباه الأمراء؟”
“حذارِ حتى من التفكير في ذلك. لا تجرؤي.”
قالت الدوقة بنبرة صارمة.
“لكن يُقال إن الأمير الثاني وسيم للغاية، أليس كذلك؟ لم أره العام الماضي لأنه كان في الخارج.”
ردّت سيليستينا بجديّة، وقد علت وجهها تعابير الجدية:
“ذلك الشخص لا يجب الاقتراب منه.”
“ولمَ ذلك؟”
ابتسمت سيليستينا ابتسامة خفيفة.
كان هناك عيب خلقي في الأمير الثاني ماتياس.
“إنه ابن الإمبراطورة حين كانت مجرد عشيقة.”
أي أنه وُصم بلقب الابن غير الشرعي. ومهما اعتلت كورنيليا مكانة الإمبراطورة، لم يكن من السهل تغيير الصورة الراسخة عنها.
فرغم معاناة ولي العهد سيزار من مشاكل نفسية، ظل الوريث الشرعي للعرش بسبب شرعيته، وهو ما أبقى دعم الحلفاء والمحافظين قائمًا حتى الآن.
فبينما كانت والدة سيزار، الإمبراطورة السابقة أديلهايد، أميرة من مملكة إيسافريا، لم تكن كورنيليا سوى ابنة موظف صغير من مقاطعة نائية. بل إنها فقدت لقبها النبيل بسبب تورط عائلتها في تجارة العبيد المحظورة.
في الحقيقة، كانت كورنيليا مجرد خادمة بسيطة في القصر، لفتت انتباه الإمبراطور بالصدفة فأصبحت عشيقته. وحتى الآن، لا تزال الشائعات تدور حول أصلها المتواضع.
“ويُقال أيضًا إن للأمير الثاني سمعة سيئة فيما يتعلق بعلاقاته مع النساء. عليكِ ألا تتورطي معه أبدًا.”
“فهمت.”
لكن اهتمام جيوفينيتا بالأمير الثاني كان قد بدأ بالفعل. وحين لاحظت ذلك سيليستينا، شددت نبرتها:
“قلت لا. لا تحلمي حتى بذلك.”
“آه، قلت لك إنني فهمت.”
“بدلًا من ذلك، ركّزي على الأشخاص الذين عليكِ أن تتركي انطباعًا جيدًا لديهم.”
“نعم نعم، لقد سمعت هذا الكلام حتى تآكلت أذناي. تقصدين ابن مركيز روميرو وابن عم ملك إيتاكا، أليس كذلك؟”
رغم جدية سيليستينا، لم تكن أي من الشخصيتين تروق لجيوفينيتا. فابن المركيز كان في الثلاثين من عمره ولم يتزوج بعد و يشاع أنه فاشل بإرضاء النساء، كما أن ملامحه كانت تشبه الفئران، ورأسه ضخم.
أما ابن عم ملك إيتاكا، فكانت قد التقت به في الموسم الاجتماعي السابق، وقد كان مغرورًا لأنه من العائلة الملكية، داوم على السكر وكانت رائحته تنبعث نفاذة كرائحة النبيذ الحامض، وبطنه منتفخ بشكل مزعج لدرجة تجعل النظر إليه مقززًا.
“في جميع الأحوال، الأمر مرفوض.”
“حاضر.”
تنهّدت جيوفينيتا وهي تطلّ من النافذة. كانت أزهار الربيع الزاهية متفتحة في الخارج. ومع أن الموسم كان رائعًا، إلا أن قلبها انقبض فجأة.
كيف لها أن تهدر شبابها على أولئك الرجال التافهين؟
**********
كان سيزار يقرأ كتابًا حين توقف عن القراءة وفتح فاه قائلًا شيئًا ما. لا أدري كيف، لكنني كنت أعرف تمامًا ما الذي سيقوله، لأن هذا الحوار تكرر بيننا عشرات المرات.
“متى تنجبي؟”
“هاه؟”
كما توقعت. وابل الأسئلة الذي لا ينقطع هذا كان كافيًا لإرباكي في كل مرة.
تظاهرت بالجهل وسألته:
“أنجب ماذا؟”
“ثمرة الحب.”
منذ تلك الليلة التي قضيناها معًا، لم يتوقف عن طرح هذا النوع من الأسئلة. تلفّتُّ حولي بسرعة خشية أن يسمع أحدهم هذه الكلمات الصادمة مثل “إنجاب” و”ثمرة الحب”.
لحسن الحظ، بدا أن الخدم الواقفين قرب الباب لم يسمعوا شيئًا. وضعت إصبعي على شفتيّ بحذر.
“ششش، لا زال علينا الانتظار.”
“إلى متى؟”
بدأ العرق البارد يتسلل إلى ظهري. كل مرة كان عليّ أن أبحث عن طريقة لإسكاته.
“أمم… إن كررنا هذا الحديث كثيرًا، ربما لن يأتي الطفل.”
“لماذا؟”
ها هو يسأل “لماذا؟” مجددًا. مؤخرًا، أصبح يسأل “لماذا؟” كثيرًا جدًا.
ولماذا؟ لا أعرف حتى أنا.
بصراحة، كدت أبكي من هذا النوع من الأسئلة المحرجة المتواصلة.
اقترب مني هامسًا:
“هل علينا أن نمسك أيدينا أكثر؟”
آه… ذلك السؤال جعل قلبي ينقبض من الحرج.
“أ… أجل… لكن ليس الآن.”
تلفتُّ مجددًا حولي، ثم اقتربت من أذنه وهمست:
“نمسك الأيدي فقط حين لا يرانا أحد.”
كانت الأكاذيب تتراكم ككرة ثلج حتى فقدت السيطرة على حجمها، لكن لم يكن لدي خيار.
أفضل من أن نمسك أيدينا كأي عاشقين في وضح النهار ويشهدنا الناس.
أما سيزار ـــ فببراءته ـــ رمقني بنظرات مليئة بالأمل.
“يعني لا يجب أن يرانا أحد ونحن نفعل هذا؟”
خفضت صوتي أكثر، فخفض صوته بدوره.
“مثل المرة السابقة؟”
“نعم، تمامًا مثلها.”
لم أكن أدرك آنذاك كم كان هذا المشهد يشبه سرًا حميمًا نتشاركه بيننا.
“حسنًا.”
وبما أن كذبتي نجحت، أومأ برأسه وعاد إلى القراءة.
وافق بسهولة تامة، لدرجة أنني شعرت بأنني أرتكب جرمًا بحق قلبه البريء. بدأت أفكر جديًا بأنه يجب أن أجد مخرجًا من هذه الورطة.
من البداية كان الأمر مستحيلًا. الفرضية كلها خاطئة. فأنا… لا يمكنني أن أنجب أصلًا.
*************
سقطت بعض العملات الفضية على سطح المكتب الخشبي، وأحدثت صوتًا معدنيًا خافتًا. يد خشنة الأصابع التقطتها بقوة، حتى طُبعت حواف العملات في راحة يده من شدة القبضة.
ثلاثون قطعة فضية. كانت ثمن شراء خادمة من قصر اليشب الأخضر.
والمعلومة التي حصل عليها بذلك المبلغ كانت: تلك الفتاة قضت الليلة الماضية مع الأمير سيزار.
“لا بد أنه شعر وكأنه وجد عالمه الخاص.”
تمتمت مرسيدس بسخرية وهي تبسط كفها، كاشفة عن عملة فضية مشوهة فوق أثر ضربة واضحة.
من بين العملات المتداولة في إمبراطورية أسيتريا، كانت عملة “روزنتاريا الفضية” هي الأوسع استخدامًا. فقد بدأ إصدارها منذ أن كانت الإمبراطورية مجرد مملكة، وكانت تصدر من العاصمة، ما أكسبها تاريخًا طويلاً وثقلاً تقليديًا.
في بداياتها، كانت روزنتاريا تُصك بنسبة 100% من الفضة النقية، وتحمل نقشًا بارزًا لجانب وجه أول ملك.
لكن بمرور الزمن، بدأت المشكلات بالظهور؛ الحروب، المجاعات، والسياسات الاقتصادية تسببت تدريجيًا في تقليص نسبة الفضة فيها.
وفي أثناء حروب التوسّع التي شنتها الإمبراطورية، أُغلقت طرق التجارة الخاصة بالفضة، ما أدى إلى تراجع نسبة الفضة النقية في روزنتاريا لأقل من 10%، مما أثار غضب الشعب.
حينها، لجأ بعضهم إلى صهر ما تبقى من الفضة وخلطها بالنحاس، ثم أعادوا سكّ عملات مزيفة.
والقطعة التي استقرت في كفها لم تكن سوى واحدة من تلك العملات المغشوشة. لم تكن بحاجة إلى ميزان لتعرف؛ كانت أخف وزنًا من نظيراتها.
وكانت الرسالة التي حملتها هذه القطعة واضحة: لا يجب التهاون في أي أمر، فبمجرد انهيار أحد الأعمدة، تبدأ البقية في السقوط… حتى ينهار كل شيء.
التعليقات لهذا الفصل " 41"