تباعدت شفتا سيزار قليلاً،
“آه… أواه…”
خرج أنين مؤلم من بين شفتيه، فتراجعتُ إلى الوراء من دون وعي. كانت خطواتي متثاقلة متعثرة، أبطأ بكثير من المعتاد.
شيئاً فشيئاً، أخذ أنينه يزداد خشونة، حتى بات من الصعب تمييزه؛ أهو صوت إنسان أم وحش؟
أشبه ما يكون بصوت ريح تهب من أعماق كهف مظلم.
أحسست بشؤم يتسلل إليّ، شعور ينذر بحدوث أمر غير عادي. برودة تسري في عمودي الفقري.
كان لا بد من الاختباء. لكن أين؟
أخذت ألتفت حولي. في هذه الغرفة الواسعة، أين يمكن لجسدي الصغير أن يختبئ؟
دفعتُ نفسي للحركة رغم ثقل قدمي، محكومةً بغريزة النجاة.
وأخيراً، وجدت نفسي داخل خزانة الملابس. دسستُ جسدي بسرعة وأغلقت الباب خلفي.
شعرت ببرودة القماش الملامس لوجهي، وتسلل إلى أنفي عبير الأعشاب الموضوعة لطرد الحشرات.
ضممتُ ركبتيّ إلى صدري وأطبقت بيدي على فمي في محاولة لكتم أنفاسي اللاهثة. كان قلبي يخفق بعنف، كأنما سيندفع خارج صدري في أي لحظة.
من خلال شقوق الخزانة الضيقة، رأيت سيزار يتحرك ببطء.
كان مستلقياً قبل قليل، فهل نهض أثناء اختبائي؟
ها هو الآن واقف في منتصف الغرفة، يتنفس بصعوبة وظهره محني.
ثم سُمِع صوت تحطم عنيف، وتبعته فوضى من تكسير الأشياء. عضضت على أسناني وكتمت أنفاسي بقوة.
تناثر الحطام هنا وهناك، وتحولت قطع الأثاث إلى نفايات مبعثرة. لا أعلم ما الذي أثار سخطه، لكنه أخذ يزأر كوحش بري ويحطم كل ما تقع عليه يداه في الغرفة.
“آه… أواه…”
كأنه يعاني من صداع، وضع يده على جبهته وعبس بقوة، ثم أسقط شمعداناً أرضاً بعصبية.
سقط الشمعدان الفضي مطلقاً صوتاً مدوياً، وانطفأت الشمعة، لتغرق الغرفة في ظلام أكثر حلكة.
تدحرج الشمع المنصهر على الأرض، حتى لامست الشمعة المطفأة قدميه. انحنى، وضع أنفه عليها وشمّها، ثم أدار رأسه بلا مبالاة.
وفجأة، أضاءت الغرفة ومضات برق فضية من خلف النافذة، يتبعها صوت رعدٍ مروع.
“آه، أواه…”
سقط سيزار أرضاً، يسد أذنيه بكلتا يديه. ثم دوى الرعد، يهز الجدران، وتزلزل زجاج النوافذ.
“آآآااه!”
انبطح أرضاً، غير مكتفٍ بتغطية أذنيه، بل أخذ يخدش السجادة بذراعيه وساقيه كمن يحتضر.
مرّ الرعد، وعادت الغرفة إلى هدوئها القاتل. لم يعد يُسمع سوى صوت المطر الغزير ينهمر بشدة على الخارج.
زحف سيزار نحو النافذة. كانت حركاته مقززة لا تشبه البشر، بل أقرب لحيوان يمشي على أربع. شعرتُ بقشعريرة تقبض على جسدي.
تحطم زجاج النافذة فجأة، تبعه صوت تمزق الستار.
كنت خائفة جداً. وضعت يديّ على فمي بقوة لأمنع نفسي من الصراخ. تسللت الرياح والمطر إلى داخل الغرفة، مطفئة كل أضواء المصابيح.
مع اختفاء آخر بصيص من الضوء، عمّ الظلام الدامس.
في هذا السكون المطبق، كان صوت المطر يبدو أكثر ضجيجاً.
بذلت جهدي لكتم أنفاسي المرتجفة.
عندها، شعرت بشيء بارد بين فخذيّ.
«شيء مثلكِ لا يستحق أكثر من قضمة واحدة.»
كان ذلك الخنجر الذي أهدتني إياه أختي غير الشقيقة، جيوفينيتا، كهدية زفاف.
«لو كنت مكانك، لاخترت الانتحار بهذا قبل أن أُزف إلى وحشٍ مثله.»
خنجر تزيّنه أحجار كريمة ملونة، يبدو للوهلة الأولى كقطعة زينة، لكنه يحمل نصلًا حاداً.
تمكنت من إحضاره إلى غرفة نوم الملكيّة لأن أحداً لم يهتم بما أحمله.
«ستموتين على أي حال…»
«إنها ابنة غير شرعية، منبوذة من آل فلوريس…»
«ستكون الزوجة الخامسة له، أليس كذلك؟»
همسات الضيوف في الزفاف، خلف مراوحهم، لم تكن غائبة عن سمعي.
بل كنت مدركة لها تمامًا.
لقد منحتني جيوفينيتا خيارًا: الموت بيدي، أو التمزق على يديه. مجرد اختلاف في الوسيلة.
مددت يدي المرتجفة أتحسس الخنجر، حتى لمسته بأطراف أصابعي. تلك البرودة كانت طوق نجاتي الوحيد.
كان قلبي يضطرب كسمكة ألقيت على اليابسة، كاد أن يقفز من صدري.
هذا الضيق، هذا الصمت الخانق، وأنفاسي الحارة المتقطعة…
وفجأة، اختفى سيزار من شقوق الخزانة.
سقط قلبي في قدمي.
أين ذهب؟
ثم دوى صوت خشبي عالٍ، وانفتحت الرؤية أمامي تمامًا.
“م- ماذا؟”
ما الذي حدث؟
الخزانة، التي كانت ملاذي، تمزقت فجأة.
خشبها المتين؟ مزقه هكذا ببساطة؟
هل يمكن لإنسان أن يفعل ذلك؟
حاولت التراجع، لكن أدركت كم كنت غبية.
يا إيرينيا الحمقاء، خزانة؟ أكنتِ جادة؟
حبستِ نفسك في قفص لا مفر منه!
مهما حاولت الهروب، وجدت ظهري يرتطم بخشب الخزانة.
الفرار لم يعد ممكنًا. برودة غريبة تسللت إلى قلبي.
تجمدت كغزال أمام مفترس.
ترددت كلمات أمي، أناليسا، في ذهني:
«يجب أن تعيشي. من ينجو، هو الأقوى.»
لطالما عشت وفق تلك الكلمات، أتشبث بالحياة.
حتى الآن…
لذا، لن أوجه نصل هذا الخنجر نحوي، كما تمنت جيوفينيتا.
قبضت على الخنجر بكلتا يديّ، مددت ذراعيّ إلى الأمام، وصحت بصوت مرتجف:
“ت- تراجع!”
كانت يدي ترتجف بشدة حتى خشيت أن يسقط من بين أصابعي.
كم أبدو بائسة، أختبئ خلف قطعة خشب محطمة، ممسكة بخنجر صغير كالكف.
رغبت بالصراخ. بل ربما صرختُ فعلاً.
لكن سيزار لم يفعل شيئًا سوى التحديق بي. لم أستطع رؤية ملامحه جيدًا، إلا أن وهجًا أحمرًا في عينيه لمع في الظلام.
“ت- تراجع؟”
كان صوته هادئًا تمامًا، بعكس توتري.
رمش بعينيه ببطء، وظلت عيناه الحمراوان مثبتتين عليّ. رمش مرة… مرتين.
توقف أنفاسي. هناك أمر غريب.
“إن، اقتربت أكثر…”
لم أعد أعرف ما أقول.
“اقترب؟”
“نعم، إن اقتربت…”
سأطعن!
لكن الكلمة علقت في حلقي، تأبى الخروج.
ويبدو أن سيزار لم يفهم تهديدي مطلقًا.
بل تقدم أكثر، ببطء، يضغط بجسده نحو يدي.
ثم، برفق، وضع أنفه على الخنجر.
أخذ يشمه، يُحرّك أنفه على نصله، كحيوانٍ متطفل.
شعرت بدغدغة تسري إلى أطراف أصابعي.
كدت أفقد الإحساس.
أدرت بصري للأسفل، محاوِلةً ألا ألتقي بعينيه.
أذكر أن حارس الغابة أخبرني ذات يوم: لا تنظر في عيني حيوانٍ بري، فقد يهاجمك.
فعلت كما قيل لي. خفضت بصري.
عندها، أضاء البرق مجددًا، يشق ظلام الغرفة.
“آه… أواه…”
تجعدت ملامحه، وأغمض عينيه بإحكام.
غطى أذنيه مرة أخرى…
دوَّى صوت هائل في الأفق، تلاه رعدٌ مدوٍّ هزّ الأرض وزلزل كياني حتى أعماق روحي.
“آااااه!”
صرخ بأعلى صوته، ثم ما لبث أن تكوّر على نفسه وارتجف خوفاً. تبعت ذلك عدّة ومضات من البرق ورعود متلاحقة.
كان صدره يعلو ويهبط بعنف، وكلما اهتزّت السماء بقرقعة الرعد، ارتجف جسده كأن صاعقةً أصابته.
من دون حاجة إلى تفسير، كنت أعلم أنه خائف… خائف حدّ الرعب. زحفه المرتبك تحت السرير، بينما كان جسده يرتعد كحيوان مذعور يطوي ذيله بين ساقيه، جعلني أشعر نحوه بالشفقة.
أن أشعر بالشفقة تجاه من يُلقّب بـ”الوحش”… يا لها من مفارقة غريبة.
ومع ذلك، لم أرَ أمامي سوى روح مسكينة ترتعد من صوت الرعد، فلم يكن هناك مكان للخوف في قلبي، فقط… الشفقة.
وما إن أدركت ذلك حتى تلاشى الخوف في داخلي، كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس.
جمعت شجاعتي، ومددت ساقي المتكورتين، ثم خطوت خطوة واحدة… وأخرى بعدها، أقترب منه بهدوء.
كان سيزار ما يزال متكوّماً في الزاوية، يصدر أنيناً خافتاً.
استجمعت قواي وناديت عليه بصوت مرتجف:
“أ-أنتَ…”
“آآه…”
وما إن سمع صوتي حتى انكمش أكثر، كأن الصوت نفسه أرعبه. هل هو شديد الحساسية تجاه الأصوات؟
توقفت في مكاني، حريصة على ألا أقترب أكثر.
ساد صمت طويل. كسرته بصوتي المرتبك:
“أ… هل تخاف من الرعد؟”
[…]
لا أدري أي خاطر قادني لقول هذا. سؤال لا يُوجَّه إلا لطفلٍ في الخامسة من عمره، لا إلى عريسٍ في ليلة زفافه.
ومع ذلك، تنحنحت وتابعت بثباتٍ أكبر:
“لا بأس… كل شيء سيكون بخير.”
لم يجبني. ظل صامتاً.
كررت الجملة مراراً: “لا بأس… لا بأس…”
وربما، كنت أقولها لي أكثر مما أقولها له.
التعليقات لهذا الفصل " 4"
حبايبي هما بس جتني الدوخه وانا اتخيل البطل يخوف