فصل 39
كان الأمر يتعلق تحديدًا بردة فعل من شهدوا موت المرشحات لمنصب زوجة الأمير.
جميعهم أبدوا سلوكًا وكلامًا متسقًا بشكل مريب، وكأنهم تواطأوا على رواية واحدة. وهذا الاتساق لا يمكن تفسيره إلا بأحد احتمالين.
إما أن كل ما قالوه كان الحقيقة، أي أن جميع المرشحات قضين فعلاً بسبب لعنة غامضة. ولو كان ذلك صحيحًا، لما بدا غريبًا تمسكهم برواية واحدة.
“لكن، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.”
هززت رأسي نافيةً الاحتمال الآخر هو أنهم تعرضوا لضغطٍ ما، وأن تلك “اللعنة” لم تكن سوى ذريعة تخفي وراءها أمرًا آخر. كانت نظراتهم إليّ، ومحاولاتهم لإبعادي، مشبعة بالخوف والرفض… وكأن هناك شيئًا يخشونه حقًا.
“ولكن، يا سموّك…”
قاطعتني دلفينا، مربية القصر، مكسوة بملامح جدية، ما قطع سلسلة أفكاري.
“هممم؟”
“يجب أن تبدأي بالاستعداد قبل المغيب.”
“استعداد لأي شيء؟”
رمشت عدة مرات من المفاجأة, بدت وكأنها لم تصدق أنني طرحت هذا السؤال.
“سموك، هل نسيتِ ما هو هذا اليوم؟”
“هل هو يوم مهم؟”
“إنه يوم الدخول الرسمي إلى الجناح الزوجي!”
“آه؟”
كدت أقول “ما هذا؟”، لولا أنني تذكرت فجأة. نعم، كان هذا هو اليوم. تذكرت كيف كانت دلفينا تهتم ببشرتي في الليالي السابقة استعدادًا لهذه الليلة، بل وحتى أكدت لي الموعد هذا الصباح… ولكن بسبب انشغالي بكشف تفاصيل الحوادث وكوابيسي المتكررة، سقط كل ذلك من بالي.
“كان من المفترض أن نبدأ التحضير منذ الصباح، آه…”
كانت منهمكة في اختيار ما سأرتديه الليلة، وأحضرت عددًا إضافيًا من الخادمات لتحضير الحمام والملابس. وحدي كنت غافلة، بينما كانت هي تقلق وتتوتر.
“سموك، هل تفضلين حمامًا بالحليب اليوم؟”
هززت رأسي بسرعة. بدا ذلك مبالغًا فيه.
“هذا كثير من الترف. ثم إننا نتشارك السرير كل ليلة، فما الحاجة لكل هذه الطقوس؟”
فجأة احمرّ وجه دلفينا، وأدركت حينها أن عبارتي قد أوحت بمعنى مختلف تمامًا. صحيح أننا ننام في الغرفة نفسها، لكن ما تفكر فيه هي لم يحدث أبدًا.
“أعلم أن سموكما على وفاقٍ كبير، ولكن… هذه الليلة رسمية.”
“آه… هذا…”
رغبت في تصحيح سوء الفهم، لكنني ترددت. صحيح أننا نتشارك السرير، لكن لم يحدث بيننا شيء مما تظنه دلفينا. إلا أن قول ذلك صراحة سيكون غريبًا أيضًا، فآثرت الصمت، وأخذت أعبث بشعري محاولة التفكير في مخرج.
“الحق، أنتما تبدوان كزوجين مثاليين.”
“هـ هاها… نعم…”
شعرت بثقل في صدري من نظراتها المليئة بتوقعات لا يمكنني تحقيقها. كنا على وفاق، نعم، لكن ليس كما تتخيل. وهل ذلك يعد مشكلة؟
“على أي حال، يجب أن تتزيني.”
استسلمت أخيرًا، وتركتها تجهزني من رأسي حتى قدميّ.
***********
قبل الدخول إلى الجناح، كان عليّ المرور ببعض الإجراءات. جلست على السرير الذي اختارته دلفينا، مرتديةً رداءً خفيفًا، بانتظار الطبيبة الملكية والسيدة إلفيرا، زوجة الكونت.
بدأت الطبيبة بفحص شامل، طرحت خلاله أسئلة دقيقة عن آخر دورة شهرية، وأي أعراض إعياء، أو أدوية تناولتها مؤخرًا. بدا أنها على علم بكل شيء، حتى عدد مرات إغمائي هذا الشهر.
ثم وخزت إصبعي بإبرة صغيرة، وسحبت نقطة دم وضعتها في مادة كاشفة، تراقب تغيّر لونها.
“لا توجد مشكلات.”
قالت ذلك ببرود، ثم دوّنت ملاحظاتها بسرعة، وسلّمت الورقة إلى السيدة إلفيرا، التي تصفحتها بصمت، ثم حدقت في وجهي بنظرات حادة. شعرت أنني أشبه بقطعة لحم معلقة في سوق الجزارين.
بعد لحظات، أومأت السيدة إلفيرا، فجاءت الخادمات لمساعدتي على النهوض. حاولت ألا أعرج وأنا أتحرك، ولكن الأمر لم يكن سهلًا.
رغم أن كل ما جرى كان مرتبًا، إلا أنني وحدي شعرت بثقل الموقف. مجرد التفكير في أن كل دخول إلى الجناح سيتطلب هذا الكم من الإجراءات، جعلني أتنهد بعمق.
“سننتظر هنا، سموّكِ.”
لسبب ما، ستبقى الخادمات واقفات خارج غرفة النوم الليلة. مما زاد من توتري.
دخلت إلى الغرفة، فوجدت سيزار قد سبقني، مستلقٍ على السرير، يبتسم حين رآني.
“رين!”
“آه، هاها…”
لمجرد رؤية وجهه، شعرت بالراحة. رغم أننا نلتقي هنا كل ليلة، إلا أن دخولي بعد سلسلة من الفحوصات والأنظار جعل الأمر يبدو غريبًا.
“ماذا كنت تفعل؟”
رفع كتابًا كان بين يديه.
“هذا.”
كان كتاب “البطة القبيحة”، الذي اعتدت قراءته له من قبل. مؤخرًا، صرنا نقرأ معًا قبل النوم، وبدأ سيزار يحاول القراءة بمفرده.
“اقرئيه لي.”
رغم أنه يعرف القصة عن ظهر قلب، لا يزال يطلبها بإصرار كل ليلة.
“ألا تريد شيئًا جديدًا اليوم؟”
أشرت إلى كتاب آخر على السرير، لكن سيزار هزّ رأسه وأعاد “البطة القبيحة” إليّ.
“أحب هذا.”
أدركت أن لا مفر، وفتحت الكتاب. كان يجلس بجانبي منصتًا بتركيز، وبدت لحظتنا المعتادة ….هذه اللحظة الثمينة للغاية.
“حسنًا، لنبدأ. في قديم الزمان، كانت هناك زوجة بط تعيش مع زوجها بمحبة، ورُزقا بعدة بيضات…”
قرأت له كما أفعل كل ليلة، بهدوء وثبات. وفجأة، أشار إلى سطر في الكتاب وسأل:
“ما هو الحب؟”
“هاه؟”
“الحب.”
سؤال مباغت وصعب. ما الحب فعلاً؟
“أمم… يعني أن تحب أحدًا كثيرًا.”
“أن تحبه؟”
“نعم، جدًا.”
ابتسم على الفور.
“أنا أحب رين كثيرًا!”
“وأنا أحبك أيضًا.”
ضحكت وأجبته، فابتسم ابتسامة مشرقة.
“رين، أنا أحبك.”
“…آه…”
كانت تلك ضربة ثانية لم أتوقعها. لم أستطع الرد فورًا، فقد شعرت بالحرج والارتباك، لكن رؤيته ينتظر جوابي بعينين بريئتين جعلني أتمتم في النهاية:
“وأنا أيضًا.”
ضحكت بصعوبة وأنا أُكتم الضحكة وقلت له، فما كان من سيزار إلا أن قلّص أنفه وضحك هو الآخر، وكأن رضاه قد انعكس ضحكًا بريئًا. وكان ذلك المشهد لطيفًا إلى حد لا يُحتمل.
رؤيته بهذا الشكل جعلت الغم الذي كان يثقل صدري قبل لحظات يتبدد شيئًا فشيئًا، وكأنني وضعت قطعة سكر في فمي، حلاوتها تسري بهدوء.
بقينا على تلك الحال، نبتسم لبعضنا البعض لفترة طويلة، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.
“ثمرة الحب.”
“هاه؟”
قالها فجأة، وكأن فكرة غريبة خطرت له، ناظرًا إليّ بجدية لا تليق بطفولته.
“أنجبت البيوض كثمرة للحب.”
“آآآه…”
ثم نظر إليّ بذلك الوجه البريء الخالي من أي همّ أو شائبة، وسألني بصوت نقي:
“متى نُنجب؟”
شعرت بغصة تنمو داخلي، إحساس غير مريح تسلل إليّ، لكن مع ذلك اضطررت للرد عليه، وإن كان بصوت مرتجف:
“نُـ… نُنجب ماذا؟”
“ثمرة الحب.”
“ثـ… ثمرة الـ… الحب؟”
تجمّع العرق في راحتي فجأة، وبدأ قلبي يخفق بسرعة.
هل ما أفكر فيه الآن هو ما يعنيه؟ هل فهمي صحيح؟ لا، لا يمكنني الجزم. لا ينبغي أن أستبق الأمور. سيزار طفل، لا يعلم شيئًا بعد.
ثمرة الحب… يمكن أن يكون لها معانٍ كثيرة، مثلًا… دراستنا معًا، هذا نوع من الثمار، أليس كذلك؟ أو ربما، خطتي الكبيرة لتحويل سيزار إلى إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، ربما حين تنجح تلك الخطة، يمكنني أن أسميها ثمرة الحب أيضًا…
كنت على وشك أن أضيع في سلسلة من الأوهام السخيفة، حين عاجلني سيزار، وكأنما يريد أن يقطع عليَّ أي مخرج:
“أنجبيها بسرعة.”
التعليقات لهذا الفصل " 39"