الفصل 38
تنحنحت قليلًا لتصفية صوتي، ثم بدأت أردد ذلك المقطع من الحكاية التي حفظتها عن ظهر قلب لكثرة ما قرأتها:
“وأخيرًا، جاء الربيع. نظر فرخ البطة القبيح إلى صورته المنعكسة على سطح البحيرة.”
كان ذلك هو الفصل الأخير من القصة. ومثلما كنتُ قد حفظتُها بالكامل، كذلك فعل سيزار، الذي أجاب مبتسمًا:
“آه، لم أكن أدرك أنني بجعة جميلة.”
أضفت:
“فرخ البطة القبيح الذي تحول إلى بجعة، حلق عاليًا في السماء من شدة فرحه.”
ابتسمتُ بحزن. هكذا انتهت الحكاية. رفع رأسه ببطء، فطبعت قبلة سريعة على وجنته وأنا أنظر إليه بعطف.
********
في صباح اليوم التالي، وجدت نفسي مضطرة لسؤال “ديلفينا” التي جاءت لتجهيزي. أمسكت يدها بينما كانت تعصر الإسفنجة.
“ديلفينا، علي أن أعرف.”
“نعم؟”
سلسلة الأحلام التي رأيتها، لم تكن مجرد خيالات يمكن تجاهلها. بل أصبحتُ على يقين أنها لم تكن أوهامًا عابرة.
كنتُ بحاجة لتأكيد إضافي، ولأجل ذلك كنتُ أحتاج مساعدتها.
“هل تعرفين كيف ماتت الفتيات اللواتي كُنّ مرشحات سابقات لتصبح إحداهن زوجة ولي العهد؟”
“أ- هذا…”
ظهر على ديلفينا التوتر، وانحنت وقد عضّت شفتيها.
ولكي أُخرج منها الحقيقة، كان لا بد أن أكون أكثر وضوحًا. استندتُ على ما رأيته في حلمي ليلة البارحة.
“هل كانت إحداهن قد غرقت في البحيرة؟”
فرفعت رأسها بفزع، ولم يكن هناك حاجة لتأكيد إضافي.
“ك-كيف عرفتِ ذلك…؟”
شعرتُ بقشعريرة في ظهري لا يمكن احتمالها.
“أريد أن أعرف الحقيقة، ديلفينا.”
“ه-هذا…”
هزّت رأسها عدة مرات، ثم بدا وكأنها قررت البوح.
“كما خمنتي، إحداهن توفيت غرقًا في البحيرة.”
“حقًا…؟”
شعرتُ بأنني سأقع أرضًا. لقد كان حلمي حقيقة.
“نعم، كانت ثالث مرشحة لزواج ولي العهد.”
“لماذا سقطت في البحيرة؟”
“في الواقع…”
ترددت قليلًا، ثم أغلقت عينيها، ورسمت إشارة صليب في الهواء كما لو كانت تصلّي، ثم أجابت:
“قيل إنها أقدمت على الانتحار.”
“انتحرت…”
لكن ذلك لا يتوافق مع حلمي. كانت قد فكرت في ذلك، لكنها تراجعت قبل أن تموت.
“في الحقيقة، من تمت خطبتهن للأمير الأول…”
توقفت ديلفينا عن الكلام بعد أن بدت عليها الحيرة. لكني كنت أعلم ما كانت تحاول قوله.
الزواج من أمير “الوحش” قد يدفع أي فتاة إلى اليأس والانتحار. كانت تلك فكرتها.
“لا، ديلفينا.”
“ماذا؟”
“تلك الفتاة… لم تنتحر.”
لهذا السبب، شعرت أن من واجبي أن أكشف الحقيقة. ربما أكون الوحيدة التي تعرفها.
“ربما أطلق الناس على ما حدث اسم لعنة، أليس كذلك؟”
“نعم…”
كان الأمر مؤلمًا. لكن حينها أدركت شيئًا جديدًا. إن كان حلمي الأخير يعكس شيئًا حدث بالفعل في الماضي…
فماذا عن الحلم الذي رأيته قبل ذلك؟
“وماذا عن الآنسة من عائلة بيليغرينو، رابع مرشحة؟”
“لا أعرف التفاصيل. فقط قيل إنها وُجدت جثة هامدة.”
“ومن عثر على الجثة أولًا؟”
ترددت ديلفينا، ثم أجابت بعد لحظة:
“قائد حرس القوس البنفسجي.”
“أريد مقابلته.”
كنتُ بحاجة ماسة للتأكد من الحقيقة.
ربما ما رأيته في الحلم هو استدعاء من أرواح مظلومة ماتت دون إنصاف.
كنت أشعر أن لدي مهمة، وربما هذه المهمة مرتبطة بكشف اللعنة التي طالت سيزار.
لكن، قبل كل شيء، كنتُ بحاجة لأن أعرف من أجل نفسي. حتى أتمكن من الهروب من هذا التهديد الحي للموت.
************
“لا أعلم شيئًا.”
كان قائد الحرس رجلاً في الخمسينات من عمره، ضخم الجثة، وجهه محمر كأنه شرب للتو، وتفوح منه رائحة الخمر. حتى لحيته وشعره يلمعان بحمرة خفيفة، كأنه عمود أحمر من بعيد.
“أرجوك، أخبر وليّة العهد بالحقيقة.”
دست ديلفينا عملة فضية في يده خلسة. كنت قد أمرت ببيع بعض مستلزماتي الشخصية من أجل هذا اللقاء.
ارتبك الرجل للحظة، ثم راح يتحسس العملة في كفه، ناظرًا حوله قبل أن يخبئها في جيبه الداخلي.
“الناس لا يحبون الحديث عن هذه الحادثة.”
في صوته نوع من القلق، لكن بعدما أخذ المال، لم يعد بإمكانه التنصل.
“أخبرني بكل ما حدث ذلك الصباح.”
سألته بجدية عن يوم اكتشاف جثة آنسة بيليغرينو. أغمض عينيه عدة مرات، ثم قال:
“في ذلك اليوم، دخلنا الغرفة ونحن مستعدون للأسوأ.”
“لماذا؟”
تنهد، ثم أخرج مسبحة من عنقه، ورسم بها إشارة صليب. هذا التناقض، بين أخذه للرشوة وتمسكه بالتدين، كان مثيرًا للسخرية.
“سبق أن توفيت مرشحات أخريات. لذا كان الكلام عن لعنة في كل مكان.”
لعنة، إذًا. لم تكن هذه الإجابة التي أبحث عنها، فأشرت إليه أن يكمل. فبدأ جسده يرتجف كما لو كان يروي أمرًا مرعبًا.
“وكانت الجثة في حالة مروعة. الدماء كانت منتشرة في كل اتجاه. لم يكن منظرًا يمكن نسيانه…”
هز رأسه وكأنه يحاول طرد الصورة من ذهنه.
“ما سبب الوفاة؟”
“أ-هذا…”
عندما تمعّنت في وجهه، لاحظتُ التوتر. كان يخفي شيئًا بوضوح. العرق يتصبب من خديه المحمرين.
“بالتأكيد… إنها اللعنة.”
شعرتُ بالغضب يتصاعد في داخلي. لم أستطع منع نبرة السخرية التي خرجت من فمي.
“وما هي هذه اللعنة بالضبط؟”
اتسعت عيناه بفزع، وراح ينظر يمنة ويسرة.
“ل-لا أعلم. لقد كانت شابة مليئة بالحيوية وفجأة ماتت… كيف لنا أن نعرف؟”
شعرت أنه يتهرب. فسألته بصوت هادئ عن التفاصيل.
“قلتَ إن الدماء كانت كثيرة. هل كانت هناك إصابات واضحة في جسدها؟ هل فُحصت الجثة؟”
ردّ متوترًا:
“طبعًا. كل موت داخل القصر يخضع للتحقيق.”
“ومع ذلك لم يعثروا على شيء؟”
أجاب بخنوع:
“أؤكد لك… لم تكن هناك أي إصابات ظاهرة. الجثة كانت سليمة تمامًا.”
“كيف يمكن أن تنزف دمًا دون أن يكون هناك جرح؟”
“ذ-ذلك… بفعل اللعنة…”
أشاح بنظره بعيدًا، متجنبًا الاستمرار.
إذًا كل شيء يُلقى على عاتق ما يسمونه لعنة.
لكنني كنت أعلم أن ذلك غير صحيح. رأيت في حلمي أنها شربت سمًا قاتلًا. ومع ذلك، لم أستطع أن أذكر أمر السم علنًا.
لو تسرعت، قد يُنظر إلي كمن يهذي.
فبدّلت السؤال.
“وأهلها؟ ألم يعترضوا على وفاتها بتلك الطريقة الغامضة؟”
كانت الابنة الوحيدة لعائلتها، فكيف يمكن أن يصمتوا؟
فأجاب وهو يبتسم ابتسامة باردة:
“أعتقد أنهم تلقوا تعويضًا يرضيهم.”
“تعويض…”
شعرت بقلبي ينقبض من الألم. وحين لاحظ تغير وجهي، أسرع ليضيف:
“أ… أنا حقًا لا أعرف شيئًا. أرجو المعذرة، لقد حان وقت تبديل النوبة، لذا سأنسحب الآن.”
قالها متلعثمًا، ثم غادر المكان بخطى متخبطة.
راقبتُه وهو يبتعد، بلا حراك.
“تعويض، إذن…”
تمتمتُ بسخرية مريرة.
هل كمموا الأفواه بالمال؟
فكرة كهذه جعلت طعمًا مرًا يعلو في فمي.
لم أكتفِ بقائد الحرس، بل قابلت بعض الخدم الآخرين ممن شهدوا العثور على جثث المرشحات السابقات أو على الأقل حضروا لحظة وفاتهن.
لكن الردود كانت كلها نسخة طبق الأصل:
“لا أعلم.”
“إنها اللعنة.”
“ليس لي علاقة.”
قالوها جميعًا بعيون متسعة كالمرعوبين، يرددونها كأنهم ببغاءات.
ومع كل إجابة كهذه، كانت ملامحي تزداد انطفاءً.
وخطواتي تزداد ثقلًا، حتى انتهى بي الأمر أجر قدميّ جرًّا.
“جلالتك، هل أنتِ بخير؟”
سألتني ديلفينا بقلق، بعد أن قضيتُ اليوم كله أتنقل في أنحاء القصر.
كانت ساقاي تؤلمانني، منتفختان من الإرهاق، فبدأت أطرق عليهما بخفة وأنا أتنهد:
“لم أظن أنني سأعود خالية الوفاض تمامًا.”
كنت أعلم أن الحقيقة ستُخفى بإحكام، لكن لم أكن أظن أنه سيكون من المستحيل انتزاع خيط واحد منها.
وقتها، وضعت ديلفينا قطعة قماش باردة مبللة على ساقي بلطف، ثم بدأت تدلكني.
“لا بد أن الأمر صعب على الجميع الحديث عنه. فهذه المواضيع تُعدّ نذير شؤم.”
“ليتني أستطيع على الأقل مقابلة عائلاتهن…”
لكن لم يكن لدي سبب مشروع لذلك.
لم تكن بيننا معرفة سابقة، كما أن لقاء عائلات المرشحات المتوفيات من قِبل الزوجة الحالية لولي العهد سيكون أمرًا محرجًا وغريبًا للغاية.
“سيكون الأمر شبه مستحيل، على الأرجح.”
“كل هذا الإخفاء المتعمد لا يمكن أن يكون بلا سبب.”
صمتت ديلفينا، واكتفت بخفض رأسها.
فوضى الأفكار كانت تتخبط في رأسي، كخيوط متشابكة لا سبيل لفكها…
لكن وسط تلك الفوضى، هناك حقيقة واحدة بدأت تتضح ببطء.
التعليقات لهذا الفصل " 38"