الفصل 32
“ديلفينا، هل تعلمين كيف ماتت ابنة مركيز بيرغرينو؟”
سألت ديلفينا وكأن شيئًا ما استحوذ علي، فارتجفت فجأة وهزّت رأسها بسرعة، وقد كانت أصابعها ترتعش بشدة.
“أ-أنا… لا… لا علم لي بمثل هذه الأمور الخطيرة…”
كانت الشائعات تقول إن فتاة كادت أن تصبح زوجة ولي العهد ماتت على يد الأمير الملعون، وكان الجميع يصدق تلك الحكاية، وأنا من ضمنهم.
“هل يُعقل أن يكون سيزار… قتل تلك الفتاة؟”
هل يمكن أن يكون سيزار الذي التقيت به، بتلك الوحشية التي تجعله يقتل إنسانًا؟
صحيح أنه كان عدوانيًا أحيانًا، وحدثت له بالفعل مشكلات مع فرسان الإمبراطورة، كما تورط سابقًا في عراك مع الخدم، وأصيب بعضهم، لكنه لم يكن يسعى للإيذاء، بل كان يدافع عن نفسه.
هذا الأمر فقط كنت واثقة منه: سيزار لم يؤذِ أحدًا من دون سبب.
“هل من الممكن أن سيزار قتل أحدهم حقًا…؟”
تمتمت بهذا، فانحنت ديلفينا برأسها مرتبكة، وشدت طرف مئزرها بقوة.
“أنا… لا أعرف شيئًا، لست في موضع يسمح لي بالمعرفة…”
بدا عليها الارتباك الشديد، فلم أستطع الضغط أكثر. امتلأ رأسي بالأفكار السوداوية.
“آه، أظنني قلت شيئًا سخيفًا…”
“……”
أنهينا زينة الصباح في صمت غريب وموقف غير مريح على الإطلاق.
كان علي أن أبحث عن سيزار في كل أرجاء قصر الزمرد، بعدما اختفى فجأة. لم يتناول الفطور حتى، فأين ذهب يا ترى؟
“كنا سنبدأ دروسًا جديدة اليوم، فأين اختفى؟”
وفجأة، سقط حجر صغير عند قدمي. رفعت رأسي، وكان سيزار! لحسن الحظ وجدتُه، لكن موقعه كان مشكلة بحد ذاته.
كان معلقًا على قمة برج القصر، على ارتفاع شاهق، لا يُرى منه إلا بحجم إصبع صغير.
“يا إلهي!”
يبدو أن هناك مساحة ضيقة بالكاد تكفي للجلوس هناك، وكان يبدو أنه قد يسقط بأي لحظة. لكن سيزار زاد الطين بلة ولوّح لي مبتسمًا!
صرخت على الفور:
“سيزار! هذا خطير!”
قشعريرة اجتاحت جسدي، لكنه لم يُبدِ أي توتر. كنت أركض في مكاني من القلق خشية أن يسقط ويصاب بأذى.
لكنه لم يكترث لقلقي، بل اتخذ وضعية القفز فجأة، ثم قفز من أعلى البرج!
“……!!”
لا أعلم كيف استطعت مشاهدة هذا المشهد. أغمضت عينيّ بشدة، لا أرغب برؤية أحدهم يسقط ميتًا أمامي.
لكن لم يكن هناك أي صوت ارتطام أو شيء يتحطم. فقط صوت خفيف لخطوات تقترب.
“رين…”
همس باسمي بجانبي، كأنه يهمس بوصية قبل الموت… وصية؟!
“هاه؟”
فتحت عيني بحذر، لأجد سيزار واقفًا أمامي، سليمًا تمامًا. ظننتها هلوسة، فغمزت بعيني عدة مرات، لكنه ما زال هناك.
“هيهي…”
ضحكته الخفيفة جعلت الواقع يصيبني فجأة. تلاعبت بي مشاعري، شعرت بالدوار، وغمرني الغضب والارتياح دفعة واحدة.
“أنت…!”
قلبي كان يخفق بجنون، وكتفاي تهتزان، لم أجد كلمات مناسبة، فقط أنفاسي المتقطعة.
“أيها الأحمق!”
صرخت دون أن أشعر، فتجمد سيزار في مكانه، محدقًا بي بعينين واسعتين.
“ماذا لو أُصبت؟! هل فكرت بذلك؟!”
امتزج صوتي بالبكاء، فأسرعت أتفقد جسده، أبحث عن أي إصابة، لم يكن فيه خدش واحد.
“أنا بخير.”
قالها ببساطة، مما زادني غضبًا.
“بخير؟! كيف تقول إنك بخير بعد أن قفزت من هذا الارتفاع؟!”
رفعت رأسي نحو قمة البرج من جديد، وراودني شعور بالدوار. لا يقل ارتفاعه عن خمسة طوابق. من المستحيل أن ينجو إنسان من قفزة كهذه!
“أنا… أنا فعلاً بخير…”
ربما ارتفع صوتي أكثر من اللازم، فتراجع سيزار وبدت عليه ملامح الذنب، حتى أني تخيلت أذنين وذيلًا آخذين في التدلي.
“…أحمق.”
كنت غاضبة، كيف له أن يفعل هذا؟ لا يمكنني أن أوبخه أكثر، وبدأت دموعي تنهمر.
“أنت متأكد أنك لم تُصب؟”
“نعم.”
مسحت دموعي بكمّ قميصي، وبدأت أفحصه مرة أخرى، هذه المرة بدقة أكبر، حتى بين أصابعه، لئلا أكون قد غفلت عن شيء.
كان سليمًا تمامًا.
“ما الذي يحدث؟ كيف قفزت من هناك وأنت بهذا الحال؟ هل هذا ممكن؟”
في بعض الأحيان، كانت تصرفات سيزار تبدو غير بشرية، حتى أنني بدأت أشك في كونه إنسانًا.
نظر إلي بنظرة كأنما يقول، “ألا تفهمين؟”، ثم تنهد بعمق.
وأنا؟ أنا من كان يستحق أن يتنهد!
“وأين كانت الحراسة وقتها؟”
حين هدأ ذهولي قليلًا، تحول غضبي نحو الحرس. كيف سمحوا له بالقفز من مكان كهذا؟ أليس من المفترض أن يحرسوه دائمًا؟ لم يكونوا حتى يراقبونه.
وبالفعل، كان بإمكاني رؤية وحدة من فرسان “الصليب الأبيض” التابعين للإمبراطورة قادمين نحونا.
يتحركون بخطى بطيئة للغاية، مما زاد من غضبي.
هذا تأخر لا يُغتفر. فتقدمت، ووقف أمامي القائد الأعلى، الذي كنت أعرفه، وكان ذراعه ملفوفًا بضماد، بسبب إصابة من سيزار سابقًا.
“هل أنتما بخير؟”
هل نحن بخير حقًا؟ أشرت إلى قمة البرج بإصبعي المرتجف.
“هل كنتم على علم بأن سيزار قفز من هناك؟”
لكن لم يجبني أحد. نظرت إليهم مجددًا، وجوههم كانت جامدة بلا أي تعبير.
“سألتكم، هل تدركون ما الذي حدث للتو؟”
عندها فقط، ارتجفت شفاههم بابتسامة ساخرة. وتغير الجو في لحظة.
تقدم القائد الأعلى خطوة وقال بتعالٍ:
“ما دام لم يحدث شيء، فلا مشكلة، أليس كذلك؟”
وأشار بذقنه إلى سيزار، كما لو أن الأمر لا يعنيه إطلاقًا.
“أليس من المفترض أن تؤدوا واجبكم في الحراسة؟”
وعند سماع هذا، ضحك الجميع بصوت خافت. هل قلت شيئًا مضحكًا؟ لا أظن.
اشتعل الغضب داخلي.
“سأقدّم تقريرًا بهذا الأمر.”
ابتسم القائد بسخرية وقال:
“ينبغي لك أن تعرفي قدرك.”
صدمتني كلماته، ولم أجد ما أقوله. وعندما نظرت إليهم، كانوا جميعًا يضحكون من خلفي.
“ماذا؟! ماذا قلت؟”
“أعني… إلى من تظنين أنك سترفعين هذا التقرير؟”
ترددت طويلًا قبل أن أجيب…
“الـ، للـ، لجلالة الإمبراطورة…”
ما إن ذكرتُ الإمبراطورة حتى انفجر القائد الفارس بالضحك بصوتٍ عالٍ. لكنه ما لبث أن أوقف ضحكته فجأة وتحدث بتعالٍ واضح:
“جلالة الإمبراطورة لم تأمر إلا بأن تسير الأمور هنا بسلاسة، لا أكثر.”
ثم ألقى نظرة سريعة نحو سيزار.
“أما لو أن سمو ولي العهد الأول نفسه هو من بلّغ بالأمر، فربما تغير شيء. لكن، هل تعتقدين حقًا أن أميرنا الـ… الذي لا يجيد حتى الكلام، قادر على ذلك؟”
راح يقلّد طريقة سيزار المتعثرة في الحديث، وانفجر من خلفه ضحك مدوٍّ. كان الصوت عاليًا، لكن الأجواء ازدادت كتمة ووحشة.
هؤلاء الفرسان، الذين وُكلت إليهم مهمة حماية قصر الزمرد بأمر من الإمبراطورة نفسها، أفصحوا صراحة أنهم لا يملكون سببًا للدفاع عني.
شعرت بقشعريرة تسري على ظهري، لكنني تماسكت، عازمة ألا أُظهر خوفي.
تقدّمت خطوتين ووقفت أمام سيزار، لأخفيه خلفي، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء لأؤكّد موقفي.
رأى القائد ذلك وابتسم بازدراء. ثم اقترب مني بخطى واسعة، وصوته ثقيل ينذر بالخطر:
“يبدو أن سموّ الأميرة لا تدرك كيف يسير هذا العالم. هل تعلمين شيئًا؟”
“مـ، ما هو؟”
“حتى لو اختفيتِ الآن من هذا المكان… لن يُبالي أحد. ستصبحين ببساطة… الزوجة الخامسة لولي العهد التي لاقت حتفها.”
التعليقات لهذا الفصل " 32"