الفصل 30
مرسيدس عضّت على أسنانها بقوة. رغم أنها حفرت في التراب، كان وجه تلك الفتاة التي لا تعرف حدّها يطفو في ذهنها مرارًا وتكرارًا. ملامحها الجميلة بلا داعٍ، وزوايا عينيها التي بدت لطيفة على نحو مذهل، وشفاهها الحمراء التي تنفث كلمات خبيثة، كلها جعلتها تشعر بالغثيان.
“أنا أعرف أمثالك جيدًا.”
لا بد أنها أغوت سيزار بوجهها الجميل. ابنها البريء والطيب قد خُدع بمكرها فقط. هذا هو ديدن تلك النسوة دائمًا.
كان لا بد من حمايته. كان يجب عليها حماية سيزار من هذا النوع من الفساد. وكانت على استعداد لفعل أي شيء لتحقيق ذلك.
“…أتدرين ماذا فعلتُ؟”
قالتها بصوت يملؤه السخرية الذاتية، ثم فزعت فجأة ونظرت حولها. لحسن الحظ، لم يكن هناك أحد.
وقفت مرسيدس ببطء من مكانها. كان التراب يملأ تحت أظافرها، وكان الغبار أسودًا متسخًا، وحبات الرمل قد انغرست بين جلدها مسببة وخزًا.
لكن هذا الألم لم يكن شيئًا يُذكر. بعد قليل، ارتسمت على وجهها ابتسامة هادئة.
“أجل، لا يمكن أن تعرفي.”
رسمت شفاه مرسيدس قوسًا خبيثًا. تخيّلت ببطء وجه تلك الفتاة وهو يتشوّه بالألم. ذلك الوجه الجميل المزعوم، إن تعفّن، سيصير كغيره.
“لا حاجة لكِ بالمعرفة.”
خرج ضحك خافت من فمها. وعاد إليها السلام كما لو أن زهور الربيع قد تفتحت من جديد في قلبها.
—
كان هناك ضجيج. صوت مزعج قرب أذنها. لم تستغرق وقتًا طويلًا لتدرك أن ذلك كان صوت تنفسها.
حتى عندما حاولت تحريك أصابعها، لم يستجب جسدها. مع لهاثها، سُمعت أصوات مياه. صوت رطب، صوت مبلل، وخطوط ماء ساخنة تسيل على وجنتيها، مثل نحيبٍ لزج يغمرها.
دوّى صوت مدوٍّ يهز الأرض. هل هذا بالفعل صوت الرعد؟ قبل قليل فقط، كانت السماء صافية.
رأت غطاء مصباح زجاجي يتدحرج. آه، كان ذلك صوت تحطّمه إذًا.
وفي اللحظة نفسها، انقطع نفسها.
كان هناك ضغط شديد يخنقها. وكأن شيئًا يمسك بحلقها بقوة. تشوّشت رؤيتها كأنها محاطة بضباب. كل شيء كان مظلمًا، كما لو أنها تلبّست حجابًا أسود.
شعرت بشيء حار يتصاعد من داخلها. وكأنها ابتلعت حممًا بركانية، كانت أحشاؤها تذوب. حاولت أن تسعل، ولكن بصعوبة. ومع السعال، خرج شيء بغزارة.
كان دمًا. دم داكن أحمر يتدفّق بلا نهاية.
―لماذا يجب أن أتزوج من وحش كهذا!
هل لأنها بدأت بالتمرد منذ لحظة بدء الزفاف؟ هل هذا عقاب لها؟ لكنها لم تقترف خطأً بهذا السوء.
لكن رؤية العريس الذي ظهر في قاعة الزفاف كانت صادمة فعلاً. تلك القشور! وتلك الأظافر المفزعة! هل يُعقل أن أتزوج، أنا ابنة مركيز بيرغرينو الوحيدة، من معتوه كهذا؟
كانت تحترق من الداخل. الألم لا يُطاق. أحشاؤها تذوب. وسط الظلام، لم ترَ إلا بركة من الدماء الحمراء. أدركت أن ذلك كان مشهد موتها.
من الذي فعل بها ذلك؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ حاولت استعادة ذاكرتها. منذ الأمس، لم تشرب قطرة ماء بسبب الكورسيه الذي يضغط خصرها.
لا، شيء واحد فقط. الكانولي الذي قدمته لها تلك المرأة. قالت إنها قد تكون جائعة، وألحت على إعطائها تلك الحلوى.
من البداية، كان الأمر غريبًا. لماذا لم تشكك في نبرة صوتها الناعمة؟ لم تُدرك الظلمة المختبئة خلف نظراتها الرقيقة؟
تقيّأت شيئًا أسود. شيء محترق كان يتدفّق من فمها بلا توقف.
مؤلم. موجع. مرهق. أتوسل، أي أحد، كن بجانبي. أشعر بالوحدة. البرد… البرد شديد. أنقذني… ساعدني…
وفي تلك اللحظة، أمسك أحدهم بيدها. من؟ من يكون؟ الدفء الذي انتقل عبر أطراف أصابعه منحها عزاءً. حاولت فتح عينيها، لكن جفنيها كانا ثقيلين كأن عليهما صمغًا.
تدافعت الذكريات في عقلها. أدركت غريزيًا أن هذا هو ما يسمونه “استعراض الحياة قبل الموت”.
آخر ما رأته كان عينين حمراوين. كانت تلك العينان تنظران إليها.
كم هو مطمئن… أنني لست وحدي. في لحظتي الأخيرة ―
―رين، استيقظي.
فتحت عينيها مذعورة. عندما نظرت حولها، رأت منظرًا مألوفًا. كانت غرفة النوم.
لكنها لم تستطع التمييز بين الحلم والواقع.
تسللت عَرَقات باردة على وجهها، تسرب الملح والزيت إلى عينيها، فأغمضتهما بسبب الألم، وسرعان ما انسابت دموعها.
أخيرًا أدركت أنها كانت تحبس أنفاسها. وكأنها تتقيأ، بدأت تسعل.
“كح، كح كح…”
اهتزّ جسدها بعنف وأصدرت أصواتًا مكتومة. هل ما زلت على قيد الحياة؟ رغم كل الدم الذي تقيأته؟
لكن، رغم أنها نظرت حولها ومسحت فمها، لم يكن هناك أي أثر للدم.
كانت متأكدة أنها شعرت بالموت. كانت كمية الدماء غزيرة. لا تزال تتذكّر كيف تجمّدت أطراف أصابعها من البرودة.
ما الذي حدث بالضبط؟
يدها كانت ترتجف. رمشت مرارًا، والدموع تتدفّق بلا توقف. ثم، يد دافئة مسحت دموعها.
“استيقظي.”
ما زالت غير مصدقة، فرمشت مرة أخرى. ما رأته حينها كان:
“سيزار؟”
كان سيزار. نظر إليها للحظة، ثم اقترب منها. ضمّها إلى صدره. بين ذراعيه، شعرت بالدفء الحقيقي، حينها فقط أدركت أن هذا هو الواقع.
“كل شيء على ما يرام.”
“ماذا؟”
ربت على ظهرها بقوة أكبر. لطالما لاحظت أن حرارة جسده عالية. الأماكن التي لامسها جسده كانت دافئة.
“كل شيء بخير.”
بنفس النبرة التي استخدمتها معه ذات مرة. عندما أدركت أنه يقلدها، لم تستطع منع نفسها من الضحك.
“هاه… هاهها…”
دموع كانت قد حُبست طويلاً انحدرت أسفل ذقنها، وبللت كتف سيزار.
“كان حلماً على ما يبدو.”
“حلماً؟”
ما زال نفسها متقطعًا.
ما كان ذلك الحلم الغريب؟ هل كان مجرد حلم فعلاً؟
“كان… كابوساً فظيعاً.”
هزّت رأسها بعنف. في الحلم، كانت عروسًا جديدة، لكنها ماتت في ليلة الزفاف. مرض مجهول أحرق أحشاءها، وبصقت دمًا أسود. ربما كان ذلك سُمًا.
رغم أنها لم تذق السم من قبل، عرفت غريزيًا أنه كذلك. لا تزال تشعر بآثاره في جسدها، فارتجف بدنها تلقائيًا.
“لماذا رأيت حلمًا كهذا؟”
كان واضحًا كأنها عاشت ما فيه. لم يكن مجرد حلم عابر. وكان هناك شيء يزعجها.
“ذلك الزفاف… ما قصته؟”
كانت تلك الكاتدرائية داخل القصر الإمبراطوري، حيث أقيم زفافها إلى وكيل سيزار.
لكن في الحلم، كان المشهد مألوفًا ومختلفًا في آن. الفرق الأبرز كان حضور سيزار بنفسه.
“رين.”
قاطعها صوت سيزار من أفكارها.
“هاه؟”
مدّ يده ومسح خصلات شعرها الأمامية برقة، وحدّق بها بلطف.
نظراته، لسبب ما، بدت وكأنها تستجدي شيئًا.
“نظيف.”
“هاه؟”
عبست بدهشة بسبب كلمته الغريبة. لكنه تابع بنبرة ملحّة.
“أحبّه.”
“تحبه؟”
ما الذي يحبه؟ ولماذا قال “نظيف” بلا مقدمة ولا سياق؟
في تلك اللحظة، وضع سيزار يديه على خديها، وجذبها إليه ببطء. لامس أنفها عطر اللافندر الخفيف المنبعث من صدره.
“آه!”
كان عطراً مألوفاً. نفس رائحة الصابون الذي تستخدمه كل يوم. نظرت بسرعة إلى عيني سيزار.
“لافندر!”
“رين، تحبينه، أليس كذلك؟”
“نعم، أحبه.”
في تلك اللحظة، فاض قلبها بمشاعر لا يمكن إنكارها. لم تكن بحاجة للسؤال… لكنها أرادت أن تسأل.
“هل… هل استحممت وحدك يا سيزار؟”
“أجل.”
أومأ برأسه بفخر ظاهر، كأنه أنجز أمرًا عظيمًا.
“ما هذا؟ تبيّن أنك تعرف كيف تفعلها بنفسك.”
دفعتني سعادتي لأن أدفن وجهي مجددًا في عنقه، أستنشق رائحته بعمق.
وهناك—كانت الرائحة أوضح، أعمق. عطر اللافندر المألوف امتزج مع رائحة سيزار الخاصة، تلك التي لا تُشبه شيئًا آخر.
ابتعد بوجهه قليلًا عني وسأل، بعينين مليئتين بالرجاء:
“هل كنت جيدًا؟”
كنت أعلم أن ذلك لا يمكن، ومع هذا، بدا لي وكأن أذنين مكسوّتين بالفرو وذيلًا صغيرًا نبتوا فجأة فوق رأسه وخلفه، يتحركون بخفة وتوتر، كأنهم يرقبون جوابي. عينيه البراقتين قالتا كل شيء.
كل هذا كان يشير إلى أمر واحد لا غير.
“أجل، كنت رائعًا.”
كان يطلب مني شيئًا محددًا بكل كيانه—مدحًا، امتنانًا، كلمة حلوة.
ولذلك، أجبته بما يستحق، واحتضنته بقوة:
“كنت ممتازًا. أحسنت جدًا.”
لم أكن لأتخيل هذا يومًا. سيزار… يستحم بمفرده؟ قلبي امتلأ فخرًا وبهجة حتى رغبت أن أصرخ بذلك على الملأ.
“فعلتها من أول مرة! سيزار، ربما تكون عبقريًا فعلًا!”
تسللت من بين شفتيّ كلمات خفيفة، دون تفكير.
“إذًا، هذه.”
أمسك بيدي وجذبها ليضعها على رأسه.
يا إلهي… كم كان هذا المشهد مؤثرًا، مؤلمًا بجماله. قلبي انكمش من شدّة الرقة.
كل ما تلا ذلك… كان بسببه.
التعليقات لهذا الفصل " 30"