فصل 25
تدخٍل الكونتيسة إلفيرا في الأمور لم يكن بالأمر السيئ، بل جلب تغييرًا مرحّبًا به. منذ ذلك الحين، أصبح كل شيء أكثر سهولة على نحو ملحوظ.
بناءً على طلبي، جرى استبدال عدد كبير من الخدم. لا أعلم إن كان من تم تعيينهم جديرين بالثقة، لكنهم كانوا يؤدون مهامهم بكفاءة على الأقل.
أُعيد تنظيف القصر بشكل شامل، وهدأت الأجواء الصاخبة التي لطالما أثقلت عليّ.
لكن اللافت أن عدد الخدم المعينين كان أكثر بكثير مما طلبته. القصر الذي كان دومًا هادئًا إلى حد الوحدة، بدأ يعج بالحركة والضجيج.
وبرغم ذلك، لم يكن فيه حيوية، بل على العكس، أصبح أكثر كآبة.
كانوا يعملون بصمتٍ تام، لا صوت يعلو، لا حوار يدور. مجرد حركات صامتة وعيون تتابعني. شعرت كأنني أُختنق تحت وطأة نظراتهم.
كنت أجد الخادمات القديمات، رغم وقاحتهن، أكثر إنسانية منهنّ. على الأقل، كانت لهن رائحة بشرية.
حتى حرّاس سيزار الذين اعتادوا مضايقته استُبدلوا.
الحرس الجدد ينتمون إلى الفوج الثاني من فرسان
“صليب الوردة البيضاء”، وحدة خاصة تتبع الإمبراطورة وتتألف من أبناء النبلاء.
كانوا مختلفين تمامًا عن سابقيهم. حتى أنا، التي لا تفقه الكثير في شؤون الفروسية، شعرت بمستوى مهاراتهم المرتفع.
تحركاتهم محسوبة، برودتهم مهيبة، وتصرفاتهم مقيدة. كانوا كالفولاذ، لا يتصرفون إلا عند الضرورة القصوى.
“…كل شيء على ما يرام.”
رغم كل شيء، استحوذ عليّ شعور بالقلق لم أفلت منه.
مع أنهم محاطون بالدروع، لم يُصدروا صوتًا، وكانوا يراقبوننا من كل جانب.
قد يكون ذلك حجة للحماية، لكنه لا يخلو من رقابة صارمة.
أحيانًا كان يتملكني وهم قاسٍ؛ أن نظرات أولئك الخدم ستشي بي في أول لحظة خطأ، فتُشهر السيوف ضدي.
ربما تعرف الإمبراطورة بكل شيء. ربما وضعت هؤلاء لتكتشف أنني أُخضع سيزار عبر الدم.
ربما أرسلتهم للتجسس، لا للحماية…
“سيدتي، وجهك شاحب.”
“أنا… بخير.”
وضعت ديلفينا قطعة شاش باردة على عينيّ. كانت لمستها الباردة مريحة،
لكني كنت في حالة دوار مستمرة بسبب ليالٍ بلا نوم.
“حقًا، أنا بخير….
تمتمت لنفسي، أحاول أن أتماسك.
بدأنا تجهيزاتي الصباحية. وضعت ديلفينا مسحوق الزينة على وجهي الشاحب.
“صاحبة السمو…”
ترددت قليلًا، ثم أخبرتني أن الإمبراطورة أرسلت بعض الملابس الجديدة، ويجب أخذ المقاسات لتعديلها.
عادةً ما تُفصَّل مثل هذه الملابس الفاخرة حسب مقاسات دقيقة.
أمس، بدأت ديلفينا تعديل فستاني. لكن مشكلة سيزار كانت أعمق، فلم يكن يسمح لأحد بأخذ مقاساته.
“ماذا عن سيزار؟”
أومأت ديلفينا نفيًا.
“حاولت السيدة أرونسو الدخول إليه قبل قليل، لكنها لم تُفلح.”
“كما توقعت…”
ضجيج التنظيف في أنحاء القصر كان واضحًا، ربما بسبب العدد المتزايد من الخدم، أو بسبب الأجواء الباردة التي خيمت فجأة.
في الحقيقة، لا أعرف ما هو السبب تحديدًا.
سيزار لم يغادر غرفته منذ أيام، لا يأكل، ولا يتسلل إلى غرفتي ليلًا كما اعتاد.
“سأذهب لرؤيته بنفسي.”
قامت ديلفينا بجدل شعري ببطء، وزيّنت جدائلي بشريط، لكني لم أجرؤ على ارتداء ملابس الإمبراطورة.
ارتديت رداءً بسيطًا مطرّزًا بنقوش ناعمة، وتوجهت إلى غرفته.
للمرة الأولى، وجدت نفسي أمام باب غرفته.
وكانت مرسيدس تقف حارسةً هناك، ومعها فرسان “صليب الوردة البيضاء”.
حين اقتربت، أومأ لي قائد الفرسان بصمت احترامًا.
“ماذا عن سيزار؟”
فجأة تقلصت ملامح مرسيدس. لم يكن سيزار وحده من تأثر بالتغييرات في القصر، بل هي أيضًا. بدت شديدة الارتباك، و…
“سموه لا يخرج من الغرفة إطلاقًا.”
كانت هي أكثر من فرح بعودة سيزار إلى طبيعته، لكن يبدو أنها ترتجف كلما عاد إلى حالته السابقة.
“كل هذا بسبب تصرفاتك، صاحبة السمو…”
قالتها لي مرارًا. وكان حنقها يتصاعد مع الوقت.
“ألم تتوقعي أن يصبح سموّه بهذا الحال؟”
رمقتني بنظرة حادة، كلماتها تلسع.
“لكن… سيزار يحتاج إلى هذا.”
بللت شفتي الجافتين. لم أستطع إخراج الجملة، وكأنها توقفت في حنجرتي.
ربما، كل هذا لم يكن لأجله، بل لي.
“دعيني أنا أذهب إليه.”
لكن الفرسان حالوا دون مروري.
تقدم القائد منهم وقال بلهجة ثقيلة:
“الأمر خطير.”
كان صوته مفاجئًا، لم أتوقع أنهم يتحدثون أصلًا.
أومأت برأسي قائلة: “أنا بخير.”
لكنه أصرّ برفضه.
عندها لمحت الضماد على ذراعه. من الدم المتسرب، بدا أن إصابته عميقة.
سمعت عن خلاف بينه وبين سيزار، والآن رأيت الحقيقة بعيني.
“أُصيب أكثر من واحد بالفعل. الدخول الآن غير آمن.”
تأملت أعينهم بصمت.
يعلمون أنهم لن يمنعوني.
“سأدخل.”
حين وضعت يدي على المقبض، سمعت تنهدًا خلفي.
“لو حدث شيء، سندخل فورًا.”
أوصوني بالصراخ إن وقع أمر ما.
أومأت، ثم ضغطت على الباب.
رغم أن الوقت كان نهارًا، كانت الغرفة مظلمة.
الستائر حجبت الضوء، وإن كانت ممزقة في بعض الأماكن، فتسرّبت أشعة خفيفة مع نسيم الهواء.
حين اعتادت عيناي الظلام، تسلل أنين من حلقي.
الفوضى عمّت المكان. الأثاث والجدران مدمّرة، لا شيء سليم.
آثار مخالب، وخدوش عميقة، وحفر هنا وهناك.
بدأت أبحث عنه بهدوء، أين ذهب؟
فجأة، شعرت بشيء يلامس جبيني، فاستدرت.
كان هناك، بين طاولة التزيين والسرير، منحنيًا ككتلة طين متيبسة.
ناديت عليه بهدوء:
“سيزار؟”
رفع رأسه قليلًا بصمت.
كانت عيناه الحمراء تشعان ببرودة قاتلة، كما في لقائنا الأول.
“هل أنت بخير؟”
“غـ…”
أصدر صوتًا أشبه بالزمجرة.
حين اقتربت منه خطوة، تراجع حتى التصق بالجدار.
أظهرت له راحة يدي، مطمئنة:
“لن أقترب أكثر.”
نظر إليّ بعينين مرتجفتين، جسده يهتز بشدة.
جلست ببطء على الأرض، أزيح قطع الأثاث المتناثرة وأرتب ثوبي.
راقبني دون أن يرمش، كأنه على أهبة القفز، لو حدث شيء.
“غررر…”
وفي النهاية، عدنا مجددًا إلى نقطة البداية. نفس ملامح ذلك اليوم الذي كان فيه يحدق إلى العالم بأسره بأنياب بارزة وحدّة في عينيه.
كان يخاف من الظواهر الطبيعية، ينوح حين يسمع الرعد ويرتجف عند رؤية البرق، أشبه بكائن وحشي لا بإنسان.
كنت أظن أنه قد تحسن قليلًا… لكن يبدو أنني كنت مخطئة.
مجرد زيادة عدد الناس وتغيّر المحيط حوله كان كافيًا ليجعله يتوتر بهذا الشكل. فهل يُعقل أن يشارك في حفلة؟ حتى أنا، لم أعد واثقة من ذلك.
قاعة الحفل ستكون متلألئة بالأضواء. المصابيح المتوهجة ليلًا ونهارًا ستعشي الأبصار ببريقها.
وقد شاع مؤخرًا في العاصمة إشعال البخور في المناسبات، لذا سيمتلئ المكان برائحة نفاذة، ودخان سجائر السادة، وعطور السيدات.
أما أصوات الحاضرين؟ ستكون صاخبة، ولا بد أن بعض الصحون أو الأشياء ستتحطم أثناء الحفل. الطعام سيسكب، كؤوس الخمر ستتدحرج، والضحك والقهقهات ستملأ المكان… فهل يستطيع سيزار تحمّل كل هذا؟
غمرتني مشاعر مختلطة. عادت إلى ذهني نظرة مرسيدس.
ماذا لو كانت محقة، وكل هذا ليس إلا ثمرة طمعي الشخصي؟
ماذا لو كان كل هذا لا يجلب لسيزار سوى المزيد من الألم؟
التعليقات لهذا الفصل " 25"