الفصل 24
“جلالة الإمبراطورة أرسلت لي هذا؟”
كان فستانًا من المخمل بلون كريمي، مصممًا وفق أحدث صيحات الموضة، بياقة مربعة عميقة وأكمام منتفخة. تطريز فاخر بخيوط ذهبية وفضية يغطي القماش اللامع، وزُيّن الفستان بورود تمثل شعار العائلة الإمبراطورية، مع لآلئ صغيرة تزين كل تفصيلة بين الخيوط الدقيقة.
الياقة المصنوعة من قماش الأورغانزا والدانتيل كانت قمة في البذخ، حتى أن مجرد النظر إليها كان كفيلاً بأن يدوّخ المرء.
***(ملاحظات المترجمة : الأورغانزا (Organza): خفيف، شفاف، وقاسي قليلاً. يعطي مظهرًا منتفخًا ومنظماً، لذلك يُستخدم كثيرًا في فساتين السهرة والزفاف.كان يُصنع تقليديًا من الحرير، لكن الآن يُصنع أيضًا من البوليستر أو النايلون.يُستخدم للطبقات العلوية من الفساتين، الكشاكش، الزينة، وحتى في الستائر.)*****
ولم تكن هذه الهدايا مخصصة لي وحدي.
“جلالة الإمبراطورة أرسلت أيضًا ملابس لولي العهد الأول.”
فتحت صندوقًا آخر، فإذا بملابس رجالية فاخرة تنبعث منه. كان من بينها زي رسمي يتماشى تمامًا مع فستاني، مصنوع بنفس القماش الكريمي المزيّن بخيوط الذهب والفضة. احتوى أيضًا على سترة مزدوجة وزرّ وقميص رسمي وربطة عنق أنيقة. رغم جهلي بالملابس الرجالية، إلا أنه بدا أنيقًا ومميزًا بوضوح.
“…”
لا أعلم لماذا، لكن حين نظرت إلى تلك الملابس، شعرت كما لو أن أحدهم يخنقني. وكأنني أصبحت رهينة لمصير لا فرار منه. تجاهلت الكونتيسة إلفيرا حالتي وقالت بنغمة غنائية:
“يُقال إنك قدمت وعدًا كبيرًا لجلالة الإمبراطورة.”
هل تقصد ما قلته عن إظهار سيزار بصورة طبيعية أمام الجميع في الحفل؟ انتظرت بصمت لأرى إن كانت ستضيف شيئًا.
“جلالة الإمبراطورة قدّرت حقًا تفانيكِ في العناية بزوجك، وأمرت بألا تُبخل أي مساعدة عليكما.”
لكن على عكس ما توقعت، لم تكن نبرتها ساخرة أو لاذعة، بل كانت محايدة.
“وأمرتني بأن أقدم لكِ كل ما تحتاجينه، مهما كان.”
“أي شيء؟”
“نعم، أي شيء وبكل الوسائل الممكنة.”
بينما كنت ما زلت أستوعب كلامها، أضافت الكونتيسة ببطء:
“لذا، لا أريد سماعكِ لاحقًا تقولين إنكِ فشلت بسبب نقص الدعم.”
“…”
أمعنت النظر في وجهي لترى أثر كلماتها، ثم ختمت بقولها:
“عليكِ أن تكوني ممتنة لاهتمام الإمبراطورة بكِ.”
كادت أنفاسي تنقطع عندما سمعت كلمة “اهتمام”. ما فعلته الإمبراطورة لم يكن إلا تحذيرًا صارخًا: لا مجال للتراجع الآن.
“سأحرص أنا أيضًا على راحتكِ، يا صاحبة السمو.”
“هل هذا أيضًا بأمر من الإمبراطورة؟”
اكتفت الكونتيسة بابتسامة خفيفة من دون إجابة. لكنني شعرت وكأنني وقعت في فخ محكم. شعور متناقض، كأنني كنت أسقط من هاوية سحيقة ثم وجدت نفسي واقفة على مسرح مُعد بعناية.
ولم يكن واضحًا بعد، ما هو دوري في هذه المسرحية، ولا إن كانت ستنتهي بكارثة أم ضحك… حتى أنا نفسي لم أكن أعرف.
حاولت أن أطمئن نفسي. ربما، وربما فقط، يكون هذا أفضل من عدم تلقي أي مساعدة على الإطلاق. لقد كنت أخوض مقامرة لا أمل فيها، فربما يكون الحصول على الدعم أمرًا جيدًا في النهاية.
فوقفت منتصبة الظهر مجددًا.
“أبلغي جلالة الإمبراطورة أنني ممتنة لها أشد الامتنان.”
ارتسمت على وجهها ابتسامة على شكل هلال، ثم استدارت لتخرج من الغرفة وهي تقول:
“أتمنى أن تنالي شرف وسام الصليب المقدس.”
بعد ذلك، واصل الخدم إدخال المزيد من الصناديق إلى الغرفة. وكلما تراكمت، شعرت وكأن قبضات غير مرئية تلتف حول عنقي وتمنعني من التنفس.
***********
في تلك الأثناء، كانت جيوفينيتا فلوريس تسير بخطى غاضبة في الممر. كل خطوة بحذائها المدبب كانت تحدث صوتًا مرتفعًا على الأرضية.
انحنى خدم عائلة دوق فلوريس فور رؤيتها، يخشون إثارة غضبها. كانت وجهتها غرفة الاستقبال.
“أمي!”
فتحت الباب الثقيل على مصراعيه. كانت سيليستينا تستمتع بوقتها مع الشاي.
“جيوفينيتا، هذا تصرف غير لائق.”
قالتها سيليستينا بهدوء وهي تضع فنجان الشاي على الطاولة برقة. لكن ابنتها تجاهلتها وجاءت لتجلس بقربها بسرعة. إحدى الخادمات أسرعت بجلب كوب من الماء البارد.
“هل سمعتِ الأخبار؟”
قالتها وهي تلهث بعد أن شربت الكوب دفعة واحدة.
“أي أخبار؟”
“عن إيرينيا!”
رفعت سيليستينا حاجبًا.
“ما بها؟”
حدّقت جيوفينيتا بأمها وكأنها لا تصدق برودها.
“لقد نجت! وبكلتا عينيها مفتوحتين!”
في المقابل، بدت الدوقة شديدة الهدوء.
“ظننت أن الأمر أكثر جدية.”
تنهدت جيوفينيتا وهزت رأسها بتذمر.
“لقد كنت قد اخترت فستاني وقبعتي وقفازي بالفعل لحضور جنازتها!”
خططت لكل شيء: شبكة من الدانتيل لتغطي وجهها، نوع الورود على القبعة، فستان يُظهرها بمظهر ناعم وكئيب. كانت فرصة ذهبية للظهور بمظهر الحزن النبيل أمام الجميع، وكان الجميع سيتعاطف معها، بل ستحظى بفرصة للفت الأنظار… لكن كل شيء انهار!
“أقسم أن تلك الفتاة لا تجلب إلا المشاكل!”
“لا تتفوهي بذلك علنًا، لا نريد نشر الشائعات.”
“أمي، أنا لست حمقاء، أعلم ما أقول. لكنها أفسدت عليّ أهم فرصة لأبدو مؤثرة أمام الجميع.”
لطالما اعتقدت جيوفينيتا أن المناسبات الغريبة مثل الجنازات تفتح بابًا للقاءات القدرية. وخاصة بعد أن فشلت خطبتها الأخيرة، بسبب إفلاس العائلة التي كانت تفاوضها، إثر فشل استثماراتهم في مناجم القارة الغربية.
ومنذ ذلك الحين، أخذت تصر على أن تترك الحب للصدف.
بدت سيليستينا مرهقة وهي تضغط برفق على أسفل عينيها. لكن جيوفينيتا لم تتوقف عن الثرثرة.
“كل ما قيل عن أن ولي العهد ملعون كان كذبًا، أليس كذلك؟ كيف نجا هو دون غيره؟”
“بل اللعنة حقيقية.”
قالتها سيليستينا بابتسامة جانبية باهتة. لكنها، في قرارة نفسها، لم تفهم كيف تمكنت تلك الفتاة المخيفة من النجاة.
كل ما سمعته أن إيرينيا ما زالت على قيد الحياة وتقيم في القصر الإمبراطوري.
“لكن، كيف بقيت حية؟”
اقتربت منها أمها وضغطت بإصبعها على شفتيها الصغيرتين كأنها تداعبها، ثم أضافت بنبرة محبة:
“لديها عزيمة لا تُقهر، أليس كذلك؟”
“ممم، ربما.”
نظرتا إلى بعضهما بنظرات مفعمة بالفضول، ثم تبادلتا ابتسامة كسولة. إيرينيا كانت دومًا كذلك. فتاة عنيدة لا تلين.
كانت تتلقى الضربات من دون أن تصرخ أو تبكي. لم تكترث لأي شيء. حتى عندما عاملوها بأسوأ من معاملة العبيد، لم تشتكِ. مرة، أرادوا اختبار مدى تحملها، فتركوها من دون طعام… لكنها لم تُظهر أي ضعف.
لم تتوسل لأحد، بل اكتشفوا لاحقًا أنها كانت تخلط بعض الأعشاب وجذور النباتات بالطين وتأكلها في الخفاء لتصمد.
طلبت منها سيليستينا أن تتلقى دروسًا من معلمة خصوصية ذات مستوى مرتفع، وأمرت بتكليفها بواجبات كثيرة ومعاقبتها عند التقصير.
بل وأحيانًا كانت تضربها بلا سبب، فقط لاختبار ردّ فعلها. لكنها كانت تصمت، ثم بدأت تحفظ الدروس ليلًا دون توقف، حتى تجاوزت معلمتها من حيث المعرفة. واضطروا لنقلها إلى مستوى تعليمي أعلى.
لم يكن فيها شيء يمكن أن يُوصف باللطافة على الإطلاق. لو أنها فقط بكت أو ترجّت، ربما كانت ستثير شيئًا من الشفقة، لكنها كانت فتاة شوارع ذكية ومتشبثة بشكل لا يُصدّق، أقرب إلى الخبث من البراءة.
حتى عندما دُفعت من الدرج وتعرضت لإصابة خطيرة، تصرفت بحماقة، واختبأت في غرفتها بصمت دون أن تُظهر ألمها. وهذا وحده يكفي لوصف طبيعتها بالكامل.
“لكنها لن تصمد طويلًا.”
قالت سيليستينا بابتسامة باردة، تنضح بالسخرية، وكأن يقينًا خفيًا يسكن كلماتها. لم تتمكن جيوفينيتا من معرفة إن كان ما قالته والدتها نابعًا من ثقة أم من أمنية دفينة.
“فلعنة التنين الأجوف شيء… لا يُحتمل بشاعته.”
“أتمنى أن يكون الأمر كذلك فعلًا.”
“وفوق هذا، جلالة الإمبراطورة لن تظل مكتوفة الأيدي.”
“حقًا؟”
عندها التفتت سيليستينا حولها، ثم همست بشيء في أذن ابنتها. فاحمرّ وجه جيوفينيتا على الفور، وتبادلت الاثنتان نظرة مشبعة بالمرح قبل أن تنفجرا بضحكة قصيرة مكتومة.
“سنرى… لننتظر ونراقب.”
وامتلأت وجوه الأم وابنتها بتعبير قاسٍ، شرس، يفيض بالحقد الخالص.
التعليقات لهذا الفصل " 24"