في تلك اللحظة، كان أول ما شعرت به هو الخوف. لا أعلم السبب تحديدًا، لكن أطراف أصابعي توترت وتفصّد العرق منها.
“ها قد انتهينا.”
كانت مرسيدس تمسح وجه سيزار بمنشفة بعدما غسلت وجهه بلطف.
وفجأة، اختفت تلك الشروخ، وتلاشت الفجوة العميقة التي كانت في قلبي، وكأنّ حقل أزهار الربيع قد انبسط من جديد. نسيم عليل خالٍ من أي خطر بدأ يهبّ من حولي.
“لقد قلتِ إنك وعدتِ جلالة الإمبراطورة، أليس كذلك؟”
قالت ذلك وهي لا تزال تدير ظهرها لي، منشغلة بترتيب أدوات الغسل.
“نعم، لقد وعدتُ بالمشاركة مع سيزار في الحفل الذي ستقيمه جلالة الإمبراطورة بعد ثلاثة أشهر.”
“…الحفل.”
أجابت بكلمة واحدة. صوتها كان مسطحًا، يخلو من أي نبرة، مما جعل من الصعب أن أستشفّ ما تشعر به. ولهذا، اكتفيت بالتحديق في ظهرها بصمت.
“ما الذي تنوين فعله اليوم؟”
تابعت حديثها وهي لا تزال لا تواجهني.
“حسنًا، لقد حان وقت الإفطار، وسأبدأ من اليوم تعليم سيزار قواعد الإتيكيت.”
عندها توقفت يداها فجأة.
“إتيكيت؟”
نُطق الكلمة وحده كان كافيًا ليكسر تلك السكينة. لقد كانت نبرتها حادة بما يكفي.
لكنني لم أُعرِ الأمر الكثير من الأهمية، كان مجرد شعور بسيط… أقرب إلى الريبة منه إلى القلق. لم أكن أعرف بعد كيف أتعامل معها.
“نعم، قواعد الإتيكيت، حتى لا يُحرج نفسه أمام الآخرين.”
عندها التفتت مرسيدس بسرعة، ولا أدري كيف أصف النظرة التي كانت في عينيها.
ساد صمت غريب، وجدت نفسي أفكر: تُرى، ما الذي لم يرق لها في كلماتي؟
“فهمت.”
ملامحها بدأت تتغير، وأصبحت أكثر هدوءًا. رأيت في خيالي الأعشاب تنمو، أزهار وأشجار تغطي الشقوق الكبيرة، وعاد نسيم الربيع يهب من جديد.
لكنني، ولأول مرة، لم أعد أشعر بالأمان في ذلك المنظر الهادئ والمشرق. كان هناك دومًا خطر كامِن… أفعى سامة، وحش مفترس، أو مستنقع لا قاع له.
بللت شفتي الجافتين بطرف لساني ورفعت صوتي قليلًا:
“نعم، سيكون كل شيء على ما يرام.”
الكلمات التي وجهتها إلى مرسيدس، كانت في الحقيقة موجهة لنفسي أيضًا. سأكون بخير. كما كنت دومًا. سأتمكن من تجاوز هذه الأزمة.
“كما تشائين.”
أجابتني مرسيدس بهدوء، بعد أن استعادت تعابير وجهها الطبيعية. لكنني كنت أعلم ما تعنيه تلك الإجابة…
أنها لم تُعجبها الفكرة. ورغم أنها أخفت ذلك بإتقان، فقد بدا واضحًا في عينيها.
**************
أعطتني الإمبراطورة مهلة ثلاثة أشهر. لم تكن مدة طويلة، لكنها أيضًا ليست قصيرة جدًا.
مهلة كافية بالكاد لتشكيل إنسان… أو على الأقل، للصق قناع يشبه البشر على وجه شخص ما.
الإجابة عن سؤال فلسفي مثل: “ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟” لم تكن سهلة. فتعريف الإنسانية ليس بالأمر الهين.
لكنني كنت أعلم ما يكفي لإرضاء كورنيليا.
“الأمور التي ذكرتِها… أن يمشي على قدميه، يستخدم الأدوات، ويتحدث.”
نعم، هذا كل ما طلبته. للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الشروط صعبة، لكنها في جوهرها واضحة. إن استطاع سيزار تحقيق هذه الشروط الثلاثة فقط، فذلك كافٍ.
على الأقل، لم تطلب كورنيليا من سيزار أن يخوض نقاشًا فلسفيًا، أو أن يُلقي شعرًا ارتجاليًا، أو أن يفوز في بطولة مبارزة. وهذا… يمنحني بعض الأمل.
ما طُلب منه هو فقط إظهار الحد الأدنى من المظاهر البشرية.
في غضون ثلاثة أشهر… لا أتوقع منه أن يصبح مثاليًا، لكننا لا نحتاج إلى الكمال.
كل ما نحتاجه هو… خداع بصري. نعم، ما نحتاجه هو أن نخدع الأنظار، ولو فقط خلال الحفل.
نحن من العائلة المالكة، أي من كبار الضيوف. لسنا مطالبين بالبقاء طوال وقت الحفل. وعلى الرغم من أنني لا أمتلك خبرة كبيرة بالحفلات، يمكنني تخيّل مجرياتها.
إلقاء التحية أمام الجميع، الجلوس بهدوء، تناول الطعام، والابتسام. قد يكون ذلك كل ما يُطلب منا.
المهم هو “الشكل العام”. فحكم الناس دائمًا يبدأ بما يرونه. لذلك علينا أن نُحسن المظهر.
ماذا لو بدأنا بتنعيم الزوايا الحادة؟ مثل تقليم الأظافر، ستصبح ناعمة إن تم الاعتناء بها.
إن واصلنا التهذيب شيئًا فشيئًا، فربما… فقط ربما… سيبدو سيزار إنسانًا بحق. ألن يكون ذلك رائعًا؟
“لن يكون الأمر سهلًا.”
تنهدت دون قصد. لكن لا مجال لليأس الآن.
قررت أن أطلق على هذه المهمة اسم
“عملية تحويل سيزار إلى إنسان”.
“سنبدأ أولًا من الأشياء الظاهرة.”
من الخطأ البدء بالتفاصيل الصغيرة في التنظيف، إن كان هناك فوضى كبيرة في الغرفة. الأولوية دائمًا للأشياء الظاهرة.
ولحسن الحظ، كنت قد جلبت شخصًا ليساعدني. دلفينا.
دلفينا كانت خادمة هادئة وطيبة القلب. بشعر بني فاتح وعينين عسليتين باهتتين، تميزت بلطفها وطبعها الهادئ.
وبهذا، أدركت لماذا حاولت إيلدا إلصاق التهم بها. أشخاص مثلها يُستغلون بسهولة.
“دلفينا.”
“نعم، سمو الأميرة؟”
كانت إحدى الخادمات المسؤولات عن ملابس العائلة المالكة، شأنها شأن إيلدا. ولهذا، كانت الأنسب لمساعدتي في هذا الأمر.
“هل يمكنك مساعدتي؟”
فأجابت بعينين لامعتين وملامح متأثرة:
“أنقذتِ حياتي يا سمو الأميرة، سأفعل أي شيء من أجلك.”
كانت كلماتها كبيرة، لكنها منحتني شعورًا قويًا بالثقة.
ثم شاركتها تفاصيل “عملية تحويل سيزار إلى إنسان”.
“ستشاركان في حفل تقيمه الإمبراطورة؟”
تفاجأت عندما سمعت بذلك. بدا عليها التردد وعدم تصديق ما سمعت.
“نعم، هذا ما حدث.”
“أفهم…”
أنا أعلم كم هو صعب هذا الأمر. لكنني قررت ألا أراه مستحيلًا.
“أولًا، علينا أن نجعل مظهر سيزار لائقًا.”
تبدأ مواسم المناسبات الاجتماعية في الربيع وتمتد حتى أوائل الصيف. في بداياتها، تتبادل الفتيات مشاعرهن مع الشبان. وتصل ذروتها في الحفل الكبير الذي تنظمه الإمبراطورة في منتصف الصيف.
في هذا الحفل، ترتدي الفتيات فساتين جديدة مُصممة خصيصًا له، وكذلك الشبان.
ألم يُقال: “الملابس تصنع الإنسان”؟
“من المسؤول عن ملابس سيزار؟”
عندها، نهضت دلفينا بلطف وأحضرت لي بعضًا من ملابس سيزار لتُريها لي.
“هناك من يتولى عادةً إدارة ملابس أفراد العائلة المالكة، وأحيانًا تساعد الخادمات المختصات في التزيين.”
“وهل يمكنكِ القيام بذلك؟”
أومأت دلفينا برأسها بخجل. كان هذا مريحًا لي.
“سمو الأمير لم يرتدِ زيًا رسميًا منذ فترة طويلة.”
بالفعل، كان سيزار دائمًا يرتدي ملابس بسيطة من نوع الأندر تيونيك، بل وحتى هذه كانت ممزقة هنا وهناك. كانت أقرب للملابس الرثة.
(**ملاحظات المترجمة : الملابس التي يُشار إليها بـ”الأندر تيونيك” (under tunic) هي نوع من الملابس الداخلية أو الأساسية التي كانت تُرتدى تحت الثياب الرسمية أو الخارجية في العصور الرومانية القديمة. هي غالبًا:
تونيك قصيرة وبسيطة مصنوعة من الكتان أو الصوف.
بدون زخارف، وأحيانًا بدون أكمام أو بأكمام قصيرة.
تُرتدى مباشرة على الجلد، وغالبًا ما تكون مخصصة للراحة أو للاستخدام اليومي داخل المنزل أو أثناء العمل.)****
ونحن نعلم جميعًا السبب الذي منعه من ارتداء الملابس اللائقة.
“أعتقد أنه لم يتعاون كثيرًا حتى الآن.”
أومأت دلفينا برأسها، وقد انخفضت عيناها نحو الأرض.
“لكن هناك أمر آخر نحتاجه إلى جانب ملابس الأمير.”
“ما هو؟”
رمشت دلفينا بعينيها عدة مرات، وكأنها تقول: ألا تدركين ذلك فعلًا؟
“فستانكِ، يا سمو الأميرة.”
“لا بأس، لدي ما يكفي.”
في جهاز زفافي من دوقية فلوريس، كانت هناك عدة فساتين للخروج، يمكنني اختيار واحد منها بسهولة.
“ومع ذلك، من المعتاد أن يتم تفصيل فستان جديد قبل حضور أي حفلة، كما تعلمين…”
قالت دلفينا بنبرة مترددة فيها شيء من الأسف. وفي اللحظة نفسها، دخل أحد الفرسان الواقفين بالخارج ليُعلِم بوصول ضيف. كانت الكونتيسة إلفيرا.
“كنتُ أعلم أنكِ ستكونين هنا، صاحبة السمو.”
“مر وقت طويل، كونتيسة إلفيرا.”
ابتسمت لي ابتسامة راقية، فخورة كعادتها. لكن ما الذي جاء بها إلى هنا فجأة؟
“كونتيسة، ما الأمر؟”
لم تُجبني، بل اكتفت بهز رأسها بخفة، وفورًا تبِع ذلك دخول مجموعة من الخدم يحملون صناديق كبيرة. وما إن أشارت لهم الكونتيسة بيدها، حتى بدأوا بفتحها واحدًا تلو الآخر.
الصندوق الأول كان يحتوي على فساتين فاخرة تزدان بالتفاصيل المتلألئة، فبدت وكأنها تلمع حتى أنها أذهلت النظر من فرط جمالها. وفي الصناديق الأخرى كانت هناك مجوهرات ثمينة، وقبعات مزينة بالريش، وأشرطة وزينة أخرى.
“ما معنى هذا؟”
ضحكت الكونتيسة إلفيرا وهي ترفع مروحتها أمام فمها في حركة أرستقراطية.
“سمعتُ أن سموّكِ ستحضرين الحفلة الصيفية القادمة بصحبة الأمير الأول. وقد تأثرت جلالة الإمبراطورة كثيرًا بعزمكِ، فرأت أن تهديكِ هذه الملابس شخصيًا.”
لقد كانت هدية من الإمبراطورة.
التعليقات لهذا الفصل " 23"