الفصل الجانبي السادس
**************
تنهدت إيرينيا بقلقٍ ظاهر.
“طفلتنا ستكون محمية من قديسة الفاتيكان وزعماء تحالف الممالك الثلاث…”
كان هذا ما يشغل بالها.
لم تولد الطفلة بعد، لكن عبئها يبدو ثقيلاً من الآن.
أعباء كثيرة تنتظر كتفيها الغضّتين.
“لكن إن فكرتِ بالأمر من زاوية أخرى… أليس ذلك باعثًا على الاطمئنان؟”
على العكس، بدا سيزار سعيدًا بالأمر.
كان لا يزال يحمل شيئًا من الغضب تجاه إيشيلينور، وقد صرّح أكثر من مرة بأنه لن يسمح له حتى برؤية الطفلة.
“رغم ذلك…”
لم تستطع إيرينيا تجاهل القلق الذي راودها.
ربما سيكون الأمر مرهقًا جدًا للطفلة.
ربما ستنهكها المسؤولية، أو على النقيض، تفسدها بيئة مدللة أكثر من اللازم.
“لم تولد بعد، ومع ذلك يبدو كل شيء معقدًا بالفعل.”
“لكن طفلتنا… ستكون بخير.”
“نعم.”
كانت هذه الأحاديث تُنسيهما الوقت.
وكلما طالت، كلما عادت ذاكرتها إلى أناّليسا.
إلى من أنجبتها وربّتها وحيدة في حيٍّ فقير، دون أن تشتكي.
وجود طفلة في أحشائها جعلها تفكر كثيرًا في تلك المرأة التي لم تغادر قلبها، رغم ندرة ذكرها.
الآن، وهي تنتظر مولودها وسط أجواء من الحب والدعم، أدركت كم كانت محظوظة.
كم أن هذا الوضع نعمة لم تكن أناّليسا تملكها.
كلما كبر بطنها، زادت مخاوفها.
وزن الجنين لم يكن جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا.
في بعض الليالي، كانت تجد صعوبة في التنفس من شدة الضغط، لكنها كانت تصمد… فقط لأن سيزار كان بجانبها.
نعم، كان سيزار سندها.
“سيزار…”
أغمضت عينيها وتذكّرت وجه أناّليسا.
تلك المرأة المتعبة دومًا، التي كانت حادة الطبع، قليلة الكلام، ولم تسمح لها يومًا بمناداتها بـ”أمي”.
كانت يداها خشنتين، وكلماتها قليلة.
وإن حاولت إيرينيا الاقتراب منها، كانت غالبًا تدير ظهرها بصمت.
كم كرهت ظهرها في أيامٍ كثيرة.
“أتعلم؟ من الغريب أنني لم أكن أفكر بها كثيرًا في السابق… لكن في الآونة الأخيرة، لا أستطيع التوقف عن استحضارها.”
تفاجأ سيزار من الحديث، فقد لم تعتد إيرينيا على مشاركة هذه الذكريات.
لكنه أمسك بيدها برفق وهزّ رأسه مستمعًا.
“في الحقيقة… أناّليسا كانت امرأة غريبة.”
ربما لم يكن الرابط بينهما كالأم وابنتها.
كان جافًا، باهتًا.
لكن رغم ذلك، بقيت هناك ذكريات عالقة.
دفء جسديهما حين تشاركا غطاءً في ليالٍ باردة.
خروجهما معًا لحضور المهرجان، يداً بيد.
تعبيرها المرهق حين عادت إيرينيا لأول مرة بالمال من بيع الزهور.
لمسة يدها الباردة وهي تمسح العرق عن جبينها في المرض.
وذكراها الأقسى… كيف كانت تدير ظهرها كلما بكت إيرينيا وتوسلتها.
نظراتها المعقدة التي لم تفهمها الطفلة يومًا.
كل تلك المشاعر الحلوة والمرة، الدفء القليل وسط القسوة، الوحشة التي كانت تغلّف العاطفة، جعلت إيرينيا تفهم.
أناّليسا لم تكن قاسية بطبعها… بل مضطرة.
لم تُمنح الفرصة لتتعلم الحب، أو لتعبّر عنه.
كانت تقاتل لتنجو، وكان الصمت طريقتها الوحيدة للحفاظ على من تحب.
“وربما… هي التي صنعتني كما أنا اليوم.”
قوة إيرينيا، صلابتها، ثباتها… كلها كانت من بقايا تلك المرأة. ميراث تركته في قلبها دون كلمات.
في السابق، لم تملك الوقت لتتأمل.
كانت مشغولة بالخوف، بالارتباك، بالماضي الموجِع.
أما الآن، فهناك مساحة للتفكر.
أن تستدعي شخصًا رحل عن هذه الدنيا… هو من أعاجيب الذاكرة البشرية.
فالذاكرة ليست دقيقة، بل مشوشة، تتلون بالمشاعر.
وربما لهذا السبب، استطاعت إيرينيا الآن – وهي أكثر نضجًا وسلامًا – أن تنظر إلى ماضيها بعين أكثر تسامحًا.
“الأمر الغريب الآخر… أنني أفكر أحيانًا بدوقة فلوريس.”
تفاجأ سيزار مرةً أخرى، لكنه بقي منصتًا، صامتًا، محتويًا.
أحيانًا، دون سبب واضح، كانت صورة زوجة أبيها، سيليستينا، تطفو في ذهنها.
رغم أن العلاقة كانت أشبه بالعداوة، إلا أن هناك زاوية صغيرة في القلب تمنّت أن تُفهم، أن تُحتضن.
لطالما ظنتها امرأة لا تعرف إلا القسوة والكره، وظنت أنها ستظل تكرهها للأبد.
لكن الآن… تغير شيء في النظرة.
ربما لم تكن قد فهمت وقتها ما كانت تمر به سيليستينا.
زوجة لرجل يحب امرأة أخرى.
أمّ لطفلة ليست ابنتها، بل ابنة عدوتها.
الآن فقط، بدأت تُدرك كم كانت الأمور معقدة بالنسبة لها.
“كانت من أكثر الناس الذين كرهتهم في حياتي…”
تذكّرت آخر لحظة رأتها فيها.
النظرة الحادة، الصوت المرتفع، الكلمات القاسية.
ومع ذلك، كان في تلك العيون حزن خفي لم تغفل عنه إيرينيا.
وتلك الذكرى ما تزال تؤلم قلبها.
عيناها اغرورقتا بالدموع.
ربما كانت تقلبات الحمل هي السبب.
سيزار لم يقل شيئًا.
فقط احتضن كتفيها بهدوء.
“أنا هنا، يا رين.”
همس قرب أذنها بأنه سيكون بجانبها… دائمًا. فابتسمت وسط دموعها.
في تلك اللحظة، اشتاقت إيرينيا لأمّها.
ولأوّل مرة، شعرت أنها قادرة على مسامحة الجميع… ولو قليلًا.
************
بعد ثلاثة أيام
بدأت الآلام.
وكان سيزار هو أول من شعر بأن لحظة الولادة قد اقتربت.
لكن من تحمل الألم كان إيرينيا.
النساء في القصر – وعلى رأسهن كونستانتشا – كنّ قد جهزن كل شيء منذ شهر.
ومع ذلك، بقي سيزار متوترًا، يشعر بالخطر دون أن يعرف سببه.
“أنا بخير، سيزار.”
“لا، لا. يجب أن أكون معك.”
لكن كونستانتشا منعته بقوة.
“رجل خائف مثلك لن يكون نافعًا في غرفة الولادة!”
إيرينيا نفسها تفاجأت من توتره الشديد.
ورغم ألمها، كانت هي من هدأ من روعه.
“كل شيء سيكون بخير. أنا والطفلة بخير… وسأعود لك قريبًا.”
حتى وهي على أعتاب الولادة، كانت تفكر في طمأنته.
رغم أن قلبها كان مليئًا بالخوف، فهي لم تمر بهذه التجربة من قبل.
لكن ما دعمها هو يقينها بأنها ليست وحيدة.
كانت الولادة الأولى.
والطفلة قضت ما يقارب ثلاث سنوات في رحمها.
لم يكن أحد يعرف ما يمكن أن يحدث حين تلد امرأة من نسل البشر طفلة من نسل التنانين.
انتشر الخبر في المملكة.
جاء القادة من أقاصي البلاد… إيشيلينور، ناسدورغ… الجميع جاء ليشهد ميلاد الوريثة.
في الممر خارج غرفة الولادة، كان سيزار يتمشى بعصبية.
“ماذا أفعل…؟ كيف أساعد؟”
كان الجميع ينظر إليه بشفقة.
فلم يكن هناك شيء يمكن فعله.
الولادة… كانت معركة تخوضها الأم وحدها.
ولم يكن سيزار قد تقبل ذلك.
لطالما ناقش ريشار، الحكيم الملكي، حول الأمر.
لماذا لا يمكنه، هو القوي الجسد، أن يتحمل عن إيرينيا؟ لكن حتى مع كل العلم والحكمة، لا أحد يمكنه إنجاب طفل سوى امرأة.
حاول، عبثًا، إيجاد طريقة.
قرأ في كتب قديمة، سأل، ناقش. بلا جدوى.
وفجأة… اخترق صراخ إيرينيا الجدران.
توقف قلب سيزار.
“لا نريد الطفلة… لا نحتاجها…”
تذكر كلماتها القديمة، حين كانت خائفة من فكرة الحمل.
كانت ترفض، تبكي، ترتجف.
لماذا غيرت رأيها؟ لا يتذكر الآن.
الخوف أكل ذاكرته.
في لحظة، أقسم في نفسه أن تكون هذه أول وآخر مرة.
بالطبع، هذا القسم لن يصمد لاحقًا أمام توسلات إيرينيا لطفل آخر.
لكن ذلك حديث للمستقبل.
رائحة الحديد فاحت من داخل غرفة الولادة.
سيزار أحس بالخطر فورًا.
وفي لحظة يأس، همّ بفتح الباب والدخول.
لكن فجأة… صرخات طفلة ملأت المكان.
انفتح الباب، وخرجت ديلفينا، وصوتها يرتجف فرحًا.
“مولاي! لقد وُلدت! الأميرة الصغيرة بخير!”
تعالت الهتافات.
لكن قلب سيزار لم يهدأ.
“إيرينيا… أين هي؟”
ركض إلى الداخل، أزاح الستار، واجتاز رائحة الدم…
ورمى بنفسه نحوها.
التعليقات لهذا الفصل " 216"