الفصل الثاني
راودني شعور جارف بأن أركض إليه في هذه اللحظة، أن أصرخ وأضرب صدره بقبضتي، أُفرغ ما في داخلي من ألم وقهر.
أنت لم تكن كأولئك الذين كرهوني واحتقروني منذ البداية. لم تكن مثلهم. كان ينبغي ألا تعاملني هكذا.
كنتُ حينها أخشى الناس وأرتعد من الرعد، أهاجم كل من حولي كوحش مجروح، لكنك كنت الحضن الوحيد الذي احتميت فيه. كنتَ ملاذي في عالم خالٍ من الأمان.
ثم، حينما انحلت اللعنة وعدتَ إلى طبيعتك، تركتني ورحلت.
في غياب سيزار، عشت كمن نُفي داخل أسوار القصر. لم يكن يُسمح لي بالخروج إلا نادرًا، وحتى مهمات الإغاثة وزيارات الدول الأخرى كان يتم تكليف أختي غير الشقيقة، جيوفينيتا، بها بدلاً مني.
في البداية، لم أصدق الشائعات التي دارت حول العلاقة بينهما.
كنت أكتب له الرسائل يوميًا، أستخدم بصيرتي التي منحني إياها القدر لتحذيره من المخاطر، لأطمئن على أحواله، وأحيانًا… كنت أسأله إن كان ما يزال يفكر بي.
لكن لم يصلني أي رد.
على مدى عامين، لم يصلني منه سوى الصمت.
هل رآني كما رآني الآخرون؟ كشيء قذر منبوذ؟
هل بات يشعر بالعار من زواجه بي بعد أن زالت عنه اللعنة؟
أنا، المنبوذة من آل فلوريس، ابنة الخادمة، المُعابة، العرجاء… كنتُ الزوجة التي رأى الناس أنها لا تليق إلا بأميرٍ ملعون قتل العديد من النساء.
لكن الآن وقد أصبح أميرًا كاملًا بهيئة ملك، صرت أنا وصمةً لا تليق به.
“أنا حامل، من سيزار.”
قالتها لي جيوفينيتا، أختي غير الشقيقة.
أخبرتني أن سيزار اختارها، وأنني بتُّ لا مكان لي في حياته.
قالت،
“لقد نقش اسمه على عنقي، أليس هذا دليلًا على الحب؟”
وأردفت ساخرة:
“كونك زوجة الأمير لم يكن يومًا مكانًا يليق بك. الأمور تعود ببساطة إلى نصابها الطبيعي.”
ثم طالبتني أن أترك مكاني.
بينما كنتُ أنا أتجول في أرجاء القصر مثل ظل باهت، أتحمل نظرات الاستهزاء وكلمات السخرية من الملكة والسيدات، كانت جيوفينيتا تتلألأ في حفلات البلاط، محاطة بالإعجاب والاهتمام.
كانت هي الابنة الشرعية، المدللة، التي نالت حب والديّ واهتمامهما، عاشت حياةً لم أنل منها شيئًا.
والآن… باتت تملك زوجي أيضًا.
قريبًا، سيُقام احتفالٌ ضخم في القصر، بمناسبة عودة سيزار منتصرًا من الحرب.
ومن ستقف بجانبه، بثوبها الأنيق وابتسامتها الآسرة؟ جيوفينيتا، بالطبع.
كنت أعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا.
حاولت أن أقنع نفسي بتقبّل الأمر، لكن دموعي لم تَطعَ أوامري، وظلت تنهمر رغمًا عني.
في تلك اللحظة، اهتزت العربة بقوة وتوقفت فجأة.
علا الضجيج في الخارج، فألقيت نظرة من النافذة، لكن المطر كان يتساقط بغزارة، والظلام حالك لا يُرى فيه شيء.
فتح السائق النافذة الصغيرة من الداخل وصرخ بقلق:
“هجوم!”
“هـ، هجوم؟! هل هم قطاع طرق؟” سألت وقد تجمدت ملامحي، أنظر إلى وجه الفارس المرافق والسائق.
هزّا رأسيهما بصمت.
“ابقي هنا. سأتحقق مما يحدث.”
قالها الفارس وهو يشهر سيفه دون أن ينتظر جوابي، وفتح باب العربة بقوة وقفز إلى الخارج.
قلبي كان يخبط كأنما يريد الفرار من صدري.
وضعت يدي على فمي كي لا أصرخ.
من بعيد، سمعت صراخًا رجوليًا غليظًا… ربما يكون هجومًا من لصوص، وربما… أُرسلوا خصيصًا لاغتيالي.
داهمني الرعب، وارتجفت أطرافي.
تذكرت وصية الفارس بأن أبقى داخل العربة، لكن قلبي لم يطمئن.
سمعت صوت الحديد يُصطدم ببعضه، وصوت صراخ يزداد اقترابًا.
ماذا لو كان وجودي هنا خطرًا أكبر؟
ماذا لو الفارس نفسه كان متواطئًا مع المهاجمين؟!
ثم جاء الصراخ… صرخة قصيرة من مكان قريب.
كان ذلك بمثابة إشارة، فدفعت باب العربة وهربت إلى الخارج.
كان الظلام دامسًا، والمطر لا يتوقف.
رحت أزحف بجسدي نحو غابة كثيفة قريبة، متجاهلة ألم ساقي، حتى وجدت نفسي بين الأشجار.
“العربة فارغة!”
“فتشوا جيدًا!”
“اللعنة! تحركوا بسرعة!”
سمعت أصواتهم تعلو وهم يفتشون المكان الذي تركته لتوي.
إذًا، قراري كان صائبًا… على الأقل مؤقتًا.
لكن… إلى متى سأتمكن من الاختباء؟
استخرجت خنجرًا صغيرًا من بين ثيابي، لطالما احتفظت به قريبًا مني.
تذكرت أمي، أناريزا… لطالما كانت تقول:
“عيشي. النجاة هي القوة.”
كانت تقولها دومًا… أن تبقي على قيد الحياة مهما كلف الأمر.
كم كانت حمقاء، فقد ذهبت مع الطاعون قبل أن تحقق شيئًا.
لكنها، حتى آخر لحظة، كانت تردد لي تلك الكلمات.
فجأة، سمع أحدهم صوتي.
“ها هي، في الأدغال هناك!”
تجمد الدم في عروقي، وبدأ المهاجمون يقتربون.
صرخت وأنا ألوح بخنجري:
“لا تقتربوا!”
لكنني أدركت كم كنت مثيرة للشفقة.
خنجر صغير لا يكاد يُرى، ألوّح به أمام رجال مدججين بالسيوف.
أحدهم ابتسم بسخرية.
“لا وقت نضيعه، أنهِ الأمر بسرعة.”
كانت أيديهم ملطخة بالدماء، والمطر يغسلها ليصنع مجرىً أحمر على الأرض.
شعرت بالندم لأني شككت في الفارس.
ثم أحسست بشيءٍ بارد يلامس عنقي.
قال المهاجم:
“لا تلومينا كثيرًا.”
سألت بصوت مرتجف:
“مـ… من أرسلكم؟”
كنت أريد أن أعرف، لكنني في ذات الوقت خفت من أن أسمع اسمك.
“هو… ―”
لم يُكمل كلمته.
في لحظة، انبعث صوت غريب، مرعب.
غرز شيءٌ في جسده.
عرفت أنه صوت الموت.
رأيت نصلًا يخترق جسده من الخلف، والدم يتدفق كالسيل.
“آه…؟”
عقلي لم يستوعب ما حدث.
منذ لحظة فقط كان سيقتلني، والآن… ها هو يسقط أمامي غارقًا في دمه.
شعرت بالغثيان.
تقيأت، ثم رفعت رأسي… لأرى أن كل المهاجمين قد سقطوا.
ثم رأيتك.
كنتَ هناك.
“سي، سيزار…؟”
تقدّمت نحوي بخطوات ثابتة.
تسمرتُ في مكاني، أرمقك بذهول.
ألم تكن الآن في قاعة الاحتفال، بجوار جيوفينيتا؟
ما الذي جاء بك إلى هنا…؟
هل أتيت لتنقذني؟
أم أنّ هناك أمرًا آخر…؟
توالت الشكوك واحدة تلو الأخرى، كأفعى تلتهم ذيلها.
“…لماذا أتيت؟”
سألته. لقد أخبرتني جيوفينيتا أن سيزار هو من اختارها. إن كان الأمر كذلك… فماذا لو جئت لتشهد نهايتي؟
لترى بعينيك أنت، كيف أنني، وصمة عارك الوحيدة…
الدم المعلق على سيف سيزار بدا مخيفًا، أحمر بلون الرعب.
“…”
لكنه لم ينطق بكلمة. ليتَهُ قال شيئًا، أي شيء… لماذا هذا الصمت؟
رأسي يدور. جسدي، الذي ظل مشدودًا طوال الوقت، بلغ حده الأقصى.
بدأ صوت المطر يخفت شيئًا فشيئًا، لكنه لم يتوقف فعليًا، بل إن أذنيّ أصبحتا كأنهما غارقتان في الماء.
بصري تلبد كما لو غطّته ستارة من الظلام.
ثم، وكأنني أُسحب إلى عمق العتمة، انهرتُ وسقطتُ. قطرات المطر الباردة أخذت تطرق وجنتي.
في ذلك اليوم أيضًا، كان المطر يهطل هكذا…
بداية كل هذا، نعم… كانت في يوم زفافنا.
****
«يقولون إن العروس التي تتزوج في يوم ماطر، قدرها أن تبكي كثيرًا…»
منذ الصباح، والمطر يهطل بغزارة.
وصيفات التجميل اللواتي كنّ يضعن مسحوق اللؤلؤ على وجنتي، لم يتوقفن عن الهمس بأن هذا الزواج شؤم.
لكنني لم أعبأ بسخريتهن. لم يكن ذلك عن تجاهل، بل لأن الألم الذي يعتصر كاحلي كالمسمار يغور في العظم، كان أكثر إلحاحًا.
في الأيام الممطرة والرطبة كهذه، كان ذلك الألم دائمًا يشتد.
ذهني كان مشغولًا به كليًا، حتى أن وجود ذلك الألم المألوف منحني بعض الطمأنينة، بطريقة غريبة.
ومع ذلك، لم أعتد الجلوس وحدي في هذا المكان الصامت الموحش.
لكن، أي عروس في هذا العالم يمكنها أن تعتاد غرفة الليلة الأولى؟ حتى تلك التي تزوجت عشر مرات، لا بد أنها تشعر بالغربة في هذا اليوم تحديدًا.
الصبر فضيلة، ولا ثمرة دون احتمال.
ظللت أردد لنفسي: “كل هذا كان خياري.” لم يكن أمامي سوى خداع نفسي بهذه الكلمات.
وبينما حبست أنفاسي، امتدت يدي تبحث عن الخنجر الذي خبأته تحت ملابسي الداخلية.
أحسست ببرودته القاسية تحت القماش الرقيق.
التعليقات لهذا الفصل " 2"
واضح منين خلف سوء الفهم
حتى الملكة الخايسه طلعت ضدها؟ افوه جد
اكيد اختها الكلبه السبب ان رسائله ماوصلت لها!
ياقلبييي عورني عليها حبيبتي هيا🙁