فصل 192
*********
بالكاد صدّقت ما قاله سيزار، واضطررت للتشكيك في أذني.
“أ، أحيٌّ؟”
“نعم، حيّ. أشعر به هنا.”
قال ذلك وهو يضع يده على بطني.
“م، ماذا تقصد…؟”
تمتمت بصوت مرتجف وأنا أضع يدي فوق يده.
“لقد ضَعُفَ كثيرًا الآن، لكنه موجود بالتأكيد.”
هززت رأسي غير مصدقة.
“لا، لا يمكن. لقد نزفت كثيرًا في ذلك الحين…”
عادت إلى ذهني صورة تلك اللحظة الرهيبة، وشعرت بدوار.
كان ذلك اليوم مؤلمًا إلى حد أنني شعرت وكأن جسدي انقسم إلى نصفين، حتى أن ذاكرتي كانت مقطعة.
كنت أظن أنني فقدت الطفل بعد أن دفعتني جيوفينيتا على الدرج، لكن هل لم يكن الأمر كذلك؟
أمسك سيزار يدي بقوة وقال مجددًا:
“هو هنا. أشعر به. لقد أصيب بصدمة كبيرة ونام نومًا عميقًا طويلًا، لكنه استيقظ الآن.”
في تلك اللحظة، امتلأت عيناي بالدموع وبدأت تنهمر.
“حقًا؟”
قال إن الطفل حي.
إن كان هذا كذبًا، لا، لا أريد تصديقه كذبًا.
“حقًا؟”
سألته مرة أخرى، غير مصدقة.
وأكّد لي سيزار مرارًا أن ذلك حقيقة لا يشوبها كذب.
“لكن كلٌ من رين والطفل ضعيفان جدًا الآن.”
قطّب حاجبيه وهو يربت بلطف بيد مرتجفة على بطني.
“آه، آه…”
شعرت بشيء دافئ.
ركّزت بكل طاقتي، خائفة أن يكون وهمًا مني.
“حاولي أن تشعري.”
ظل يلامسني برفق ويقبلني، بينما كنت في حالة ذهول تام، لا أفهم شيئًا مما يجري.
بقينا على هذا الوضع فترة، وأنا أرمش في صمت، كأنني متجمدة.
“ل، لكن…”
نظرت في عيني سيزار، وكانت مليئة بالثقة واليقين.
“الآن كل شيء سيكون بخير.”
لكنني لا زلت لا أصدق تمامًا.
“إذاً، النقش… النقش؟”
رغم شكوكي، أردت معرفة الحقيقة بأي ثمن.
عندها مرّر سيزار يده في شعري بلطف ثم لمس عنقي من الخلف.
“هنا، هل تشعرين به؟”
أخذ يدي ووضعها هناك.
شعرت بنتوء بارز بأطراف أصابعي، في المكان ذاته الذي عضني فيه سيزار مؤخرًا، حيث ظللت أشعر بسخونة متواصلة.
لكن لم يكن هناك مرآة.
راودني الخوف من أن يكون سيزار يكذب، وبدأت الشكوك تساورني.
كأنه أدرك ذلك، فنهض فجأة.
“انتظري لحظة.”
أسرع سيزار وأتى بسيفه، وقال لي ألا أفزع، ثم طمأنني عدة مرات قبل أن يستخدم السيف اللامع كمرآة ليعكس عنقي.
“آه…”
كادت المفاجأة أن تجعلني أقفز.
عرض عليّ سيزار النقش المحفور على مؤخرة عنقي، وكان انعكاسه في نصل السيف اللامع يُظهر نقشًا مطابقًا تمامًا.
“لِمَ لم يظهر آنذاك؟”
حين كنت أبحث عن النقش مع سانتشا، لم يكن موجودًا. فكيف ظهر الآن؟
“ربما، في ذلك الحين، كان جسد رين ضعيفًا جدًا، لذا لم يكن ظاهرًا. عندما يضعف الجسد، قد يختفي النقش مؤقتًا.”
عانقني سيزار بشدة، وجذبني نحوه حتى كدت ألتصق به.
رأيت وجهه عن قرب، وكانت عيناه مليئتين بالحزن لدرجة الفراغ.
العيون التي بكت مرارًا كانت متورمة ومحمرّة، ورموشه السوداء كسواد الفحم كانت مبتلّة تتدلّى منها قطرات الماء.
شعرت بالغصّة تعلو داخلي، وبدأت دموعي تنساب على خدي.
وفي عيني سيزار أيضًا، تجمّعت الدموع الصافية، ثم تساقطت.
دموعنا كانت تشفي كلانا.
شعرت بأن السكاكين التي كانت تمزّق قلبي حتى الآن بدأت تذوب ببطء.
عانقنا بعضنا برفق وتمددنا على السرير.
وفي تلك اللحظة، سُمع صوت كأن شيئًا انهار، ثم صوت ارتطام قوي وشعور خفيف بالاهتزاز، لكن دون أي صدمة حقيقية.
كان ذلك لأن سيزار أسرع وغطّاني بجسده.
تصاعد الغبار من حولنا، فنظرنا إلى بعضنا البعض بدهشة، ثم تطلعنا حولنا.
تبين أن الصوت كان لانهيار السرير، فقد كسر سيزار أحد الأعمدة القديمة بيده قبل قليل، وحين حمل وزننا، لم يتحمله، فانهار.
“هـ، هاهاها…”
انفجرت ضاحكة، لم أضحك منذ وقت طويل لدرجة أن عضلات فكي بدأت ترتعش.
ضحك سيزار بدوره، واقترب مني يلامس وجهي وأذني بخده.
البكاء والضحك… شكلنا كان بائسًا، لكنه كان شعورًا مشبعًا وغامرًا.
************
لم يمض وقت طويل حتى انتقلنا إلى منزل كونستانتشا.
هناك، كان ينتظرني كل من الساحر الملكي ريشار وأصدقائي القدامى.
“ريشار! فيتوريو!”
بعد عامين من الغياب، بدا أنهم لم يتغيروا كثيرًا، ومع ذلك كان الجو مختلفًا قليلًا.
خاصة فيتوريو، الذي أصبح جسده أكبر، وترك الزمن على بشرته ندوبًا هنا وهناك، فزاد ذلك من قساوة ملامحه.
فور رؤيتي، ركع فيتوريو على ركبتيه.
“أنا، فيتوريو، أبلغ صاحبة السمو زوجة الأمير عن عودتي سالمة.”
لوّحت له بيدي نافية.
لم أعد زوجة الأمير، وكان في قلبي دين تجاهه، لذا لم أتحمل رؤيته ينحني لي.
“فيتو… لم أستطع حماية دلفينا.”
كنت أعلم جيدًا مدى قربهما.
يكفيني شعور الذنب تجاه شقيقته الراحلة، أما وقد فقد دلفينا أيضًا، لم أستطع حتى النظر إلى عينيه.
ثم نقلت له كلمات دلفينا الأخيرة، التي طلبت أن أبلغه شكرها إن عاد حيًا.
ارتسمت على وجهه نظرة حزينة، لكنه ابتسم بعدها بثقة.
“سمعت بالأمر. لقد كان هناك مكيدة من الأوغاد، فلا تحزني كثيرًا.”
أخبرني أنه غضب بشدة حين علم بشهادة أخيه الأكبر والزيف الذي فيها، وأكد لي أنه قادر على دحضها في أي وقت.
أما ريشار، الساحر الجميل، فما زال بعد عامين محتفظًا بتعابيره الباردة الساحرة حين حياني.
لكن بدا عليه الغضب الشديد، لسبب ما.
“سمعت أن أولئك الأوغاد ارتكبوا بحقك إساءة عظيمة.”
قال ذلك وهو يذكر اسم عمه إيشيلينور بغيظ، يصر على أسنانه.
كان تعبيره العاطفي القوي مفاجئًا، خاصة من شخص هادئ دائمًا، فلم أعرف كيف أتصرف، واكتفيت بفتح عيني بدهشة.
في تلك اللحظة، دخلت كونستانتشا تحمل أدوات الفحص.
“كفى، سأجري الفحص، فليخرج الجميع.”
بأمرها الصارم، خرج الجميع دون نقاش، خاصة أنهم جميعًا رجال باستثناءي.
رحبت بي كونستانتشا بحرارة، بعد غياب طويل، ثم اعتذرت لي.
“ظللت أرسل رسائل للقصر، لكن دون جدوى. حاولت زيارتك كثيرًا، لكن المراقبة كانت صارمة جدًا.”
“ليست غلطتك يا كونستانتشا.”
كان هناك من يتعمد عزلي داخل القصر، لذا لم يكن بيدها حيلة.
حين بدأت الفحص، خلعت ملابسي، فشهقت كونستانتسا وقطّبت حاجبيها وأطلقت سبابًا.
“كيف وصلتِ لهذا الحال…!”
لا بد أنني كنت نحيفة جدًا.
تنهدت، وأجرت فحصًا دقيقًا باستخدام السماعة والمحاليل.
كنت متوترة جدًا، وكأن قلبي ينكمش من القلق والترقب.
“ك، كيف هو الوضع؟”
كنت أرغب بشدة أن أسمع من شخص آخر غير سيزار أن الطفل لا يزال حيًا، لذلك استعجلت إجابتها.
رمشت كونستانتشا عدة مرات، ثم وضعت يدها على معصمي تتحسس النبض.
تأنيها كان مرهقًا للأعصاب لدرجة أنني شعرت بالإغماء.
ثم أطلقت آهة إعجاب وهي تعلق السماعة حول رقبتها.
“حقًا، هذا أمر لا يصدق.”
حبست أنفاسي، فأمسكت بيدي وقالت:
“علامات الحمل التي كانت قد اختفت، عادت من جديد. طوال عملي كطبيبة، لم أرَ شيئًا كهذا من قبل.”
عندها أطلقت العنان لبكائي، غطيت فمي وانفجرت نحيبًا.
وسمعني سيزار، فاقتحم الباب على الفور.
“رين؟”
لكن كونستانتشا صرخت فيه:
“مهما كنت زوجها، لا يحق لك الدخول هكذا!”
لطالما شعرت بأن كونستانتشا لا تعير الألقاب أو المناصب أي اهتمام.
حتى وإن كان سيزار بطل الأمة.
في النهاية، نال سيزار توبيخًا شديدًا وطُرد من غرفة الفحص، منكّس الرأس.
التعليقات لهذا الفصل " 192"