كنت واقفةً وحدي في مكان سحيق لا يُرى له نهاية مهما مشيت ومشيت.
ورغم خفة الملابس التي أرتديها، لم أشعر بالبرد.
في هذا المكان لم يكن هناك برد، ولا جوع، ولا خوف.
شعرت بأن الأرضية كانت مغطاة برمال بيضاء ناعمة كأنها سكر. ولم تكن هناك أي مضايقة حتى وأنا حافي القدمين.
أين يمكن أن يكون هذا المكان؟ قبل أن أفكر في ذلك، ناداني أحدهم من بعيد.
لم يكن هناك صوت مسموع ولا إحساس بحضور، لكنني عرفت ذلك بغريزتي.
لم أستطع تجاهل ذلك الصوت الحزين المفعم بالأسى.
نظرت حولي بقلق.
ثم رأيت شيئًا يلمع هناك في البعيد.
شعرت بخفقان في قلبي وارتجاف غريب.
أردت أن أراه بسرعة.
فبدأت أُسرع في خطواتي.
ومن الغريب أنني لم أكن أعرج أو أشعر بأي إعاقة في المشي هنا.
كان المشي حرًا تمامًا.
وما إن أدركت ذلك حتى بدأت أركض إلى الأمام.
امتلأ صدري بالهواء حتى حلقي.
شعرت بطعم حلو في فمي، وألم في ساقي، لكن لم يكن يهم.
كان لا بد أن ألتقي به.
لم أستطع الانتظار لحظة واحدة.
وفي تلك اللحظة، شيء ما اندفع إلى حضني.
في البداية، ظننت أن كتلة من القطن قد طارت إليّ.
كان شيئًا صغيرًا وضعيفًا للغاية، لدرجة أنني لم أعرف كيف أتعامل معه.
كان ما اندفع إلى حضني طائرًا صغيرًا.
ريشه رمادي داكن كما لو أنه تدحرج في موقد مغطى بالرماد.
وربما لأنه كان قد ضلّ طريقه، طار إليّ واستقر في راحة يدي.
— هل كنت أنت من ناداني؟
ومن المدهش أنه أومأ برأسه كما لو كان يفهم كلامي.
ثم تقلّب قليلًا في راحة يدي ليستقر في موضعه.
وخدش إصبعي الصغير بمنقاره الصغير، الأصغر من ظفر الخنصر، ثم أطلق صوت بكاء يشبه التثاؤب.
كان بكاؤه نحيفًا إلى درجة أنه بدا وكأنه سيتوقف في أي لحظة.
مما جعل عينيّ تدمعان دون سبب واضح.
عندما بكيت بحزن، فتح الطائر الصغير جفنيه وأغلقهما.
كأنه يقول لي: لا تبكِ.
نظراته كانت تقول لي إن كل شيء سيكون على ما يرام.
أطلق الطائر صوتًا صغيرًا آخر، “بييك”. وبذلك، عرفت ما يريد قوله.
كان ذلك تحية.
وكأنه يقول: “لقد مضى وقت طويل. والآن يمكننا أن نكون معًا. كنت في نوم طويل حتى الآن، لكنني استيقظت للتو”.
— نوم طويل؟
عندما سألته ذلك، أومأ برأسه مرة أخرى.
ومن بين غشاء رقيق، ظهرت عيناه المتلألئتان بلون الياقوت ودموية الوهج.
كانت نظراته التي لا ترى سواي جميلة جدًا ومحببة للغاية، فلم أستطع مقاومة الرغبة في تقبيله.
عندما لامس ريشه الناعم وجهي، شعرت بدفء على خديّ.
ومن بين ريشه، فاح عطر حلو.
كما لو أن دفء شمس الربيع قد حُبس في هذا المكان.
ما إن فتحت عيني حتى عرفت فورًا.
بدا أنني كنت أحلم.
لكنه كان حلمًا حيًا بشكل غريب، حتى أنني شعرت بضرورة التحقق مما إذا كان الطائر الصغير لا يزال في يدي.
لكن بالفعل، شعرت بوجود كائن حي، ملمس ريشه الأملس ينبض في حضني.
“آه…”
غير أن هذا الريش لم يكن كالريش الناعم الذي يشبه زغب بذور الهندباء، كما في الحلم.
بل كان أملسًا، لامعًا كأنه حرير مشغول بعناية.
وعندما تحركت، انكشف مَن كان في حضني.
“آبر؟”
“بيب!”
إنه آبر.
لم أره منذ سنوات طويلة.
لكنه لم يكن على هيئته الأخيرة، القوية والنبيلة، بل ظهر لي بشكل الكتكوت اللطيف كما التقيته لأول مرة.
إلا أنه كان كتكوتًا ضخمًا جدًا.
بحجم ديك بالغ، وكان حجم جناحيه مناسبًا ليحتضنني بهما.
وعندما غمرني في حضنه، كان دافئًا كأنني أحتضن موقدًا صغيرًا مملوءًا بالفحم.
“هل رأيت ذلك الحلم لأنك كنت هنا…؟”
رمشت بعيني ونظرت حولي.
كان جسدي ثقيلًا، وسخونة تنتشر في بدني.
بالكاد استطعت رفع رأسي، لكنني شعرت بأن شيئًا ما قد تغيّر من حولي.
كلما تبلورت رؤيتي تدريجيًا، أدركت أنني مستلقية على سرير.
سرير خشبي بسيط، وكرسي صغير، وطاولة صغيرة.
لم أكن ممددة على الأرض كما في الأمس.
ملابسي التي كانت مبتلة ومثقَلة بماء المطر، جفت الآن وتركت ملمسًا خشنًا.
لكنني كنت ضعيفة جدًا لا أستطيع حتى تحريك جسدي.
وفي تلك اللحظة، فتح الباب بصوت “كييك”، ودخل سيزار.
ما إن التقت عيناي بعينيه الحمراوين، حتى شهقت نفسًا عميقًا.
ربما لأنه كان لهما نفس اللون، تذكرت عيني الطائر الصغير الذي رأيته في الحلم.
وفي الوقت ذاته، عادت إليّ ذكريات ليلة الأمس.
كانت لحظات فوضوية ومشوّشة جدًا، لدرجة أن ذاكرتي كانت مجزأة.
لكن هناك شيء واحد أتذكره بوضوح: أن سيزار جعلني أشرب من دمه.
لم أستطع نسيان ذلك، فقد كان تجربة قوية للغاية.
قبل أن أقول شيئًا، اقترب سيزار مني ببطء.
كان يحمل في يده وعاء خشبيًّا صغيرًا ينبعث منه البخار.
انبعث منه رائحة شهية جعلت فمي يسيل.
جلس سيزار بصمت بجانب السرير.
لم أكن أشعر بالخوف كما شعرت بالأمس، لكنني لم أستطع فتح فمي بسهولة، فضممت آبر بقوة.
أما سيزار، فقد أصبح أكثر حديثًا من ذي قبل.
رغم صمتي، استمر في الثرثرة.
“وجدت كوخًا كان يستخدمه حارس الغابة. يبدو أن الكوخ فارغ الآن، لأن المزارعين الموسميين ينتقلون إلى الجبال في هذا الوقت من السنة. تأكدت من عدم وجود أحد حولنا.”
“……”
ثم أخذ قليلًا من الطعام من الوعاء الخشبي بالملعقة وقرّبه منّي، كما لو كان يقول لي: جربيه.
“اصطدتُ أرنبًا هذا الصباح. لست متأكدًا من الطعم، لكن من الأفضل أن تأكلي شيئًا بدلًا من لا شيء.”
كان الطبق عبارة عن عصيدة من لحم الأرنب مع حبوب مطحونة.
لم يكن طعامًا فخمًا على الإطلاق، لكنني شعرت فجأة بالجوع.
لم أشعر بالجوع منذ شهور، لكن رائحة الدهن أعادت تحفيز معدتي بشدة.
“هيا.”
نفخ على الملعقة حتى برد الطعام قليلًا، ثم قرّبه من فمي.
لكنني، وأنا لا أزال أشعر بالقلق، لم أستطع إلا أن أحدق فيه بصمت.
حينها انخفضت نهايات حاجبيه الطويلين والباردين.
“لا يحتوي على سم. قد لا يكون لذيذًا لأنه بلا ملح تقريبًا…”
أخذ ملعقة من العصيدة بنفسه وأكلها، ثم ابتسم لي مجددًا.
وعندما رأيت ابتسامته، شعرت بألم حاد في قلبي.
كأن أنفاسي اختنقت.
“هيا، تفضّلي.”
قرب الملعقة من فمي مجددًا، ولمّا لامس الطعم الشهي شفتي، وجدت نفسي أتذوقها دون وعي.
وعندما دخل الطعام إلى معدتي بعد غياب طويل، انقبضت معدتي كأنها ستنقلب.
شعرت برغبة في التقيؤ وكدت أسعل.
انتظر سيزار بصبر حتى أنهي مضغ الطعام وابتلاعه.
وعندما شعرت بالألم، مسح ظهري برفق، وإن بدا أنني ابتلعت الطعام بشكل جيد، أسرع بإحضار الملعقة التالية.
وفي النهاية، أكلت نصف ما أحضره من العصيدة.
لكنني لم أستطع أكل المزيد، فهززت رأسي.
فكرت أنه قد يجبرني، لكنه تقبّل الأمر بصمت.
ثم وضع الوعاء الخشبي على الطاولة واقترب مني أكثر.
وعندما سمعت صوت احتكاك القماش، انتفض جسدي فجأة.
ظهر على وجه سيزار عدة تعابير مختلفة.
وبعد أن نظر إليّ لفترة، ضمني إلى صدره.
رغم أنني شعرت بالاختناق، لم أستطع مقاومة حضنه.
ظل سيزار يحتضنني دون أن يقول شيئًا.
وأنا في حضنه، حركت عينيّ هنا وهناك بتوتر.
ثم همس في أذني بصوت خشن:
“… آسف.”
اعتذر لي بهدوء.
لم أفهم لماذا يقول لي ذلك الآن، لكن شعرت بقلبي يغلي.
ثم عانقني بقوة أكبر.
كان حضنًا خانقًا. أردت أن أصرخ لأطلب منه أن يتركني، لكنني كنت ضعيفة جدًا، ولم يُجْدِ الأمر نفعًا.
“أنا آسف… حقًا آسف…”
ثم شعرت بجسده يرتجف.
لماذا يشعر بكل هذا الذنب؟
اهتز جسده بعنف.
وفي الوقت نفسه، شعرت بأن قماش كتفه بدأ يبتل.
كان سيزار يبكي.
وظل يكرر اعتذاراته لي مرارًا وتكرارًا.
وحتى مجرد سماع كلماته، جعلني أشعر براحة في أعماق قلبي.
لكنني تماسكت.
لا. لا يجوز. لا يجب أن أتأثر بشيء كهذا.
ومع ذلك، كنت لا أزال ضعيفة أمام دموع سيزار.
وكان هذا أكثر ما يشعرني بالاحتقار لنفسي.
وبينما كان ينتحب لفترة، قال لي:
“ما حدث لرين… كله بسببي.”
في تلك اللحظة، خرج شوك قاسٍ وشرس من أعماق قلبي.
“ما معنى (كله)؟”
“كل شيء.”
أصابتني دوخة.
ولم أستطع كبت الغضب المتأجج بداخلي، فصرخت بأعلى صوتي:
“كيف يمكن لشخص يعرف هذا…!”
لم أكمل الجملة: “كيف يمكنك فعل ذلك؟” بل بدأت أصرخ بكلمات مختلطة بالبكاء، فقد كنت في حالة يرثى لها و لم أفهم حتى ماذا كنتُ أقول.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 189"