فصل 188
***********
“……ل، لا تكذب.”
لساني يشبه لسان الأفعى، يطلق كلمات ماكرة بلا توقف.
لا، بل كان عليّ أن أكون كذلك الآن.
حتى لا يُلقى بي مجددًا.
لن أُخدع أو أتعذب مرة أخرى.
لذا كان لا بد لي أن أنفث سمًّا حادًا وقاتلًا قدر الإمكان.
لأنه إن لم أفعل، فلن أتمكن من الصمود.
جسدي يغلي بحرارة.
لساني يلتوي مرارًا وتكرارًا حتى بتُّ لا أستطيع الكلام بشكل سليم.
فضلت أن أصبح باردة قاسية.
فتحت غمد الخنجر الفضي الذي لم أتوقف عن تحسسه بأطراف أصابعي.
ظهرت شفرة لامعة فضية.
“ذلك خطر، رين.”
قال سيزار بهدوء واقترب مني أكثر.
“لا، لا تقترب!”
صرخت بعصبية موجهة الخنجر الفضي نحوه.
لكنني كنت أعلم.
أنني لن أتمكن من إيقافه بمجرد خنجر كهذا.
ومع ذلك، لم يتبق لي سوى هذا الشوك.
وجهت الخنجر نحوه بكل قوتي.
كان جسدي يرتجف بقوة.
“كم، كم أنا…….”
سرت رعشة مؤلمة في أنحاء جسدي.
وقشعريرة غطتني بالكامل.
بالكاد شعرت بأطراف أصابعي.
كان الخنجر المهتز عديم الثبات أشبه بامتداد ليدي لا فرق بينهما.
بدأت التشنجات من أطراف أصابعي، ثم انتقلت إلى ساعدي وكتفي وصولًا إلى مؤخرة رأسي.
هذا التوتر لم يكن ليخفّ.
اقترب سيزار مني خطوة أخرى.
بدا وكأنه لا يهتم أبدًا بما أحمله.
رغم أنني أملك سلاحًا يمكن أن يؤذيه.
“لو، لو اقتربت…….”
تذكرت أول مرة التقيت فيها بسيزار.
تلك الليلة الأولى في غرفة الزفاف، حين تركنا وحدنا.
حتى في تلك الليلة التي قضيتها في خوف وتوتر، ألم أوجه نحوه هذا الخنجر أيضًا؟
تمتمت بكلمات لم أستطع قولها حينها.
“……سأطعنك.”
لكن يبدو أن سيزار لم يسمعني.
“إنه خطر، لذا ضعيه.”
كان يكلمني بهدوء فقط وهو يقترب.
في تلك الليلة كان هو من فقد عقله وانقضّ عليّ، والآن نحن بعكس المواقع.
يدي التي كانت تمسك بالخنجر باتت كأنها جزء مني، لا يمكن فصلها بسهولة.
في تلك اللحظة، مدّ سيزار يده نحوي.
أمسك شفرة الخنجر بيده مباشرة.
صرخت من المفاجأة.
كانت الكهف مجوفًا، فرجع صدى صوتي عاليًا.
“لماذا، ما الذي، أنت…….”
لم أدرِ ماذا أقول من شدة الصدمة.
خرج صوتي حادًا ومتقطعًا.
لم أستطع أن أفهم لماذا يفعل سيزار هذا.
لقد جرح يده عمدًا.
سال الدم من شفرة الخنجر الحادة.
تسرب دمه إلى مفاصل أصابعي.
بدا وكأن خيوطًا حمراء تهبط.
بدأت رفيعة، ثم ازدادت سمكًا، لتتجاوز ظهر يدي وتغمر مرفقي وتسقط على الأرض.
“ا، اترك هذا!”
في الحقيقة، كان ينبغي أن أكون أنا من يترك الخنجر..
فقد وجهته إليه بنية الأذى.
لكن جسدي لم يتحرك.
لو أنني استطعت فقط أن أترك الخنجر، لكان سيزار أقل ألمًا.
لكن سيزار شدّ قبضته على الخنجر أكثر.
وكأنه لا يشعر بأي ألم على الإطلاق.
“س، ستؤذي نفسك إن……”
كنت على وشك قول: “ستؤذي نفسك”، لكنني تذكرت أنني من حاول إيذاءه، فأغلقت فمي.
كم هو متناقض.
رعب هذا الموقف يربكني، لا أدري ماذا أفعل، فلم أتمكن سوى من اللهاث بشدة.
مدّ سيزار يده الأخرى ووضعها فوق يدي.
ثم بدأ يفصل أصابعي عن مقبض الخنجر، واحدًا تلو الآخر.
ومع تراخي قبضتي المتشنجة، سقط الخنجر من يدي أخيرًا.
خلال كل هذا، لم أقاوم ولو مرة واحدة.
نظر سيزار إلى يده الملطخة بالدماء دون أن تظهر عليه أية مشاعر، ثم رمى الخنجر بعيدًا.
سمعت صوت ارتطامه بالأرض وتدحرجه.
“آه…….”
رنين المعدن الحاد دوّى في أذني، لكن رأسي ظل مشوشًا.
تحدث سيزار مجددًا:
“أخيرًا، التقينا.”
في تلك اللحظة، انفجرت دموعي.
لم يكن يجب أن يقول ذلك.
لم يكن عليه أن يقول ذلك، فلماذا يؤلمني قلبي هكذا؟
جسدي كله كان يرتجف، وطاقتي توشك على النفاد، وشعرت أنني سأغيب عن الوعي في أية لحظة.
مسح سيزار وجنتي برفق، وقال:
“لماذا أصبحتِ هزيلة هكذا…….”
كان صوته الأخير مشوبًا بالرطوبة، غامضًا إلى حد الألم.
أوجع قلبي ذلك الصوت.
لكنني لم أكن لألين بسهولة هكذا.
ومع ذلك، كان غريبًا.
للدموع قوة عجيبة.
شعرت وكأن عقدة كبيرة في داخلي قد انفكت.
وفي ذات الوقت، اجتمع التوتر والدوار، وبدأ بصري يضطرب.
ومع الدوخة، سقطت يدي على الأرض كما تسقط كيسًا من الرمل.
وغبت في غيبوبة.
في ضبابية الوعي، رأيت وجه سيزار القلق.
كم هو سخيف… هل يظن الآن أنني سأغفر له فقط لأنه ينظر إليّ هكذا؟
ثم أحسست بحرارة على شفتي.
شيء مالح ومعدني انساب في حلقي.
أبقيت عيني مفتوحتين بصعوبة، لكن النعاس كان أقوى.
شعرت أن لساني يغمره سائل لزج.
كانت رائحة الحديد النفاذة مقززة، لكن كلما ابتلعت منه، شعرت بأن الدفء يعود إلى أطرافي، وكأن شعلة الحياة توقد من جديد.
“هممم……”
شعرت بلمسة أصابعه الخشنة المتشققة على شفتي المرتعشتين.
لم تكن يده هكذا من قبل، فمتى أصبحت بهذه الخشونة؟
مر السائل في حلقي مجددًا، تاركًا رائحة قوية.
عرفت تلك الرائحة جيدًا.
الرائحة التي كانت لا تفارق جسدي يومًا ما.
أصل الحياة، مذاق معدني لزج.
ما الذي يُطعمني إياه سيزار الآن؟
حين أدركت الحقيقة، فتحت عيني.
رأيت سيزار ينظر إليّ بتعبير أشبه بالانتشاء.
“حين تتوقف الأمطار، سأصطاد لكِ شيئًا حقيقيًا. لكن حتى ذلك الحين، عليكِ أن تأكلي هذا.”
في تلك اللحظة، عرفت ما الذي في فمي.
تمامًا كما فعلت أنا له ذات مرة.
كان سيزار يعصر دمه من جراحه ويُطعمني إياه.
لكنني لست وحشًا يتغذى على دماء البشر.
لماذا يفعل هذا؟
“لماذا…….”
كان هذا كل ما استطعت قوله.
لكن سيزار استمر في فرك رأسي بلطف، ودفع ذلك السائل في حلقي.
“أريد أن أمنحكِ كل شيء فيّ.”
شعرت بشيء حينها.
بمجرد أن تذوقت دمه، اندفع دفء من أعماق جسدي.
حرارته تدفقت إلى وجهي.
بدأت برودة جسدي تختفي تدريجيًا.
لماذا؟ لا أفهم، لكنني لم أستطع أن أقاوم ذلك.
كما هاجم هو دمي ذات مرة، وجدتني الآن أفعل مثله تمامًا، كأنني فقدت وعيي.
ربما لأنني كنت جائعة لفترة طويلة جدًا.
أو ربما لأني فقدت عقلي بالفعل.
ربما، تمامًا مثله، أصبحت وحشًا يتوق إلى دم الإنسان.
نظرت إلى وجه سيزار من طرف عيني.
ملامحه المتناسقة، وحاجباه المنتصبان، وعيناه الحمراوان تلمعان من بين أهداب مظللة.
وجنتاه وأنفه بدا أكثر نحولًا من السابق، حادًا ومصقولًا حدّ الخطر.
تجمع الدفء في وجهي، كأنني طفل صغير ضبط وهو يلعب لعبة محرمة.
كان سيزار ينظر إليّ بإعجاب.
كنت أبلع دمه كله دون أن أترك قطرة واحدة.
لا أدري لماذا، لكنني شعرت بلذة غريبة.
شعور بالامتلاء لم أحسه منذ وقت طويل.
“أحسنتِ.”
قال وهو يمسح على رأسي.
زوايا عينيه الحمراء صارت أضيق، فزاد اللون عمقًا، تمامًا كلون الدم الذي كنت أشربه.
جفوني أصبحت ثقيلة.
حاولت فتح عينيّ، لكنهما كانتا تغلقان من تلقاء نفسيهما.
كأن جفوني التصقت ببعضها.
ثم سمعت صوتًا ناعمًا عند أذني.
صوتًا لطالما حلمت بسماعه حتى في منامي.
ردد سيزار الكلمات مرارًا، لكن بعقلي المشوش لم أستطع تمييزها. حاولت التركيز، لكنني لم أتمكن.
ومع ذلك، كان ذلك الصوت كأنّه يحمل عبيرًا منعشًا، يتسلل إلى أعماق صدري، ويحررني من كل ثقل طالما خنقني.
شعرت أنني إن نمت الآن، فلن أرى أي كابوس.
فأغمضت عيني ببطء.
التعليقات لهذا الفصل " 188"