فصل 187
***********
سمعت صوت ضحك.
إنه ذكرى من أيام دافئة ومليئة بالحنين.
لحنٌ يُدندن به، متقطع كأنه سينقطع في أي لحظة.
كانت لحظة عذبة وناعمة، كما لو أن مجرد تلامس بيننا سيذيب قطعة سكر في أفواهنا.
كنت أضحك مع سيزار تحت الشمس في حديقة قصر الزمرد، نحدّق في وجوه بعضنا البعض.
الإحساس بالعشب وزهور الربيع على راحة اليد.
رائحة نضرة كما لو كانت تسحق، وعطر الأزهار الخفيف الذي يسير مع النسيم. كل شيء كان جميلاً.
أشعة الشمس المتناثرة انعكست على البركة فأبهرت عيناي، ومن بين أصابع سيزار التي حجبت تلك الأشعة شعرت بدفء الشمس.
وفي تلك اللحظة، شيء ناعم ودافئ مجهول الهوية تسلل إلى صدري.
شعرٌ مجعد يثير بشرتي كلما تحرك.
ذلك الشيء الصغير والثمين كان يصدر رائحة طفل، كرائحة الحليب المكثف، أو قماش الكتان المجفف تحت الشمس، أو ندى عالق على عشب يابس.
لحظات حلوة، ناعمة، تشعرك وكأن فمك امتلأ بالعسل.
حتى اليد الصغيرة التي تمسك بطرف ثوبي.
كنا نتأمل تلك المعجزة الصغيرة الجميلة، وتبادلنا ابتسامات خجولة.
ثم اقتربنا من بعضنا أكثر، ثم أكثر.
نفس دافئ مؤسف يلامس وجهي.
حينها، شعرت به.
آه، هذا حلم.
الأحلام دائمًا ما تعكس شظايا الواقع.
تظهر لنا ما نشتاق إليه بشدة.
كان هناك سبب واحد جعلني أدرك أن هذا حلم: هذا الشعور الدافئ لا يمكن أن يكون إلا ذكرى باهتة من الماضي.
لا يمكن أن تكون حياتي الحالية بهذا القدر من الدفء والسكينة.
لذا فهو حلم.
أن أحلم بحلم كهذا، يعني أن ذكرياتك قد عبرت للأبد إلى الضفة الأخرى من الذاكرة.
طفلٌ، أكان هناك طفل؟ كيف يمكن لذاك الطفل الذي اختفى أن يكون موجودًا في هذا الحلم؟
بمجرد أن أدركت أنني أحلم، أصبح كل شيء، وكل أولئك الثلاثة المستلقين على العشب، بعيدًا جدًا.
حاولت أن أركز لأبقي على الشكل قدر المستطاع.
لكن كلما حاولت أكثر، تلاشت المشاهد أكثر وأكثر.
صار ذلك المنظر الجميل بعيدًا بحيث لا يمكنني لمسه.
ومع ذلك، حاولت التمسك بالحلم بأي وسيلة.
أردت فقط أن أرى وجه الطفل.
لكن الأحلام لا تستطيع إظهار ما لم نختبره.
لذا، مهما حاولت، لم أستطع رؤية وجه الطفل.
كان ذلك مؤلمًا جدًا حتى بكيت.
لهذا، إن كان ممكنًا، أردت ألا أستيقظ من هذا الحلم، إلى الأبد إن أمكن.
“… رين.”
سمعت صوتًا يناديني عند أذني.
صوتٌ ملحّ ومليء باللوعة.
فتحت عيناي ببطء.
شعرت بشيء مألوف وغريب في الوقت نفسه.
عيناي تتأرجحان، وقلبي يتقلب، فأغمضتهما وفتحتهما عدة مرات.
لم أستطع التنفس جيدًا، فسعلت عدة مرات وشعرت حينها بضغط على جسدي.
قوة شديدة تحاصر جسدي كأنها لبلاب ملتف.
كان من الواضح حضن من كان.
هذه الرائحة المألوفة جدًا.
ودرجة الحرارة الأعلى من حرارة الإنسان العادي.
“… أهه.”
ارتعبت فجأة وحاولت أن أتحرك، لكني كنت ضعيفة للغاية.
لا أعرف كيف فسر سيزار حركتي الضعيفة، لكن قبضته اشتدت أكثر.
عانقني بقوة واحتكّ بجسدي.
لم أستطع فهم ما الذي يحدث.
أين أنا؟ ولماذا أنا هنا؟
ولكن جسدي كان بارداً بشكل لا يُحتمل.
كنت أرتجف من البرد لدرجة أني شعرت أن جسدي كله سيقع.
مع صوت الطقطقة، تطايرت شرارات نارية حمراء.
عندما لمحت ألسنة النار الصفراء والحمراء تترنح، بدأت أشعر بالواقع.
وفهمت أخيرًا ما حدث لي.
كان هناك من يحاول قتلي.
وسيزار… سيزار هو من…
في تلك اللحظة، ارتعبت بشدة وبدأت أصرخ.
“اتركني!”
لكن سيزار لم يكن ينوي تركي.
كلما قاومت، ازدادت قبضته التي كانت كالفخ ضيقًا.
كنت أكثر حيرة لأنه لم يكن لدي أدنى فكرة لماذا يفعل هذا بي.
كنت أظن أنه لم يعد يرغب في أي شيء مني.
ظننت أنه رحل عني.
ثم أدركت أن ملابسي قد خُلعت.
شعرت برفض فطري، كأن جسدي كله انكمش.
“قلت لك، اتركني!”
تذكرت أنه حاول قتلي.
تلك اللمعة المخيفة للشفرة، وحتى الدم الأحمر القاني.
تذكرت كل شيء.
لكن لو كان ينوي قتلي، لكان فعلها منذ وقت طويل…
“قلت لك، ابتعد!”
كنت عاجزة عن الفهم، حزينة ومكسورة، فقط دموعي كانت تسقط بصمت.
وعندما سقطت تلك الدموع على ساعد سيزار، أرخى ذراعيه التي كانت تقيّدني.
جمعت ملابسي على عجل وابتعدت عنه.
نظرت حولي فوجدت مكانًا مظلمًا ورطبًا.
يبدو أنه كهف.
“أين… أين نحن؟”
“…”
سألته لأتغلب على خوفي.
لكنه لم يجب.
كان يطأطئ رأسه وينظر إلى الأرض فقط.
خصلات شعره الأمامية الكثيفة كانت مبتلة تغطي جبينه، ملقية ظلًا كثيفًا على وجهه.
لم يكن هناك مصدر ضوء سوى موقد ناري خافت، فلم أستطع رؤية ملامحه.
لكن على الأقل، أدركت أنه لا ينوي قتلي الآن.
لو كان يريد ذلك، لفعلها.
كنت فقط في حالة من الفوضى الذهنية.
لماذا أحضرني إلى مكان كهذا؟
حينها، رفع سيزار رأسه ببطء واقترب نحوي.
“لا، لا تقترب.”
صرخت بخوف.
وفي تلك اللحظة، مرت على وجهه تعابير متعددة.
لكني لم أكن مركزة على تلك التعابير، بل على شيء آخر.
رأيت سيفه موضوعًا جانبًا، وهذا يعني أنه غير مسلح.
كما رأيت معطفي الذي خلعته، ومعه الخنجر الذي كنت أتمسك به حتى اللحظة الأخيرة، موضوعًا بيني وبينه.
الجوهرة الملونة في الخنجر عكست ضوء النار المرتعش، فأطلقت بريقًا غريبًا.
كأن نثار نجوم تناثر في عيني.
مددت يدي وأمسكت بالخنجر.
لا أعرف لماذا فعلت ذلك، لكنني لم أجد خيارًا آخر.
اجتاحتني مشاعر الخطر، وشعرت أن هذا الخنجر هو طوق النجاة الوحيد لي.
لامست غمده البارد بأطراف أصابعي وراقبت سيزار بحذر.
خلال كل هذا، لم يقل سيزار شيئًا.
فقط نظر إلي بتعابير تتغير ثم تختفي.
لم أكن أظن أنني أستطيع التغلب على قوته.
لكنني كنت خائفة إلى درجة أنني لم أستطع التخلي عن الخنجر.
“ماذا… ما الذي يحدث؟”
أنا، التي لم أتحمل مشاعر القلق والضغط، فتحت فمي أولًا. بدا أن سيزار يريد قول الكثير، لكنه بقي صامتًا يحدق فيّ.
“وال… والاحتفال؟”
كان يفترض أن يكون هناك احتفال بانتصاره.
في الحقيقة، كنت أريد أن أسأله عن جيوفينيتا، لكنني خفت، فطرحت سؤالًا تافهًا عن الاحتفال بدلًا من ذلك.
لكنه ظل صامتًا. ساد صمت طويل وثقيل بيننا.
ثم، وكأنه اتخذ قرارًا، رفع سيزار رأسه.
انعكست ألسنة اللهب على وجهه، وفي عينيه الحمراوين، رأيت لهبًا شبيهًا بصهر الحديد.
لا أعرف لماذا، لكن لم أستطع النظر في عينيه مباشرة.
ارتجفت أصابعي، وشددت قبضتي على الخنجر.
فتح سيزار فمه ببطء وقال:
“لقد اشتقت إليك حقًا.”
في تلك اللحظة، شعرت وكأن مطرقة ثقيلة سقطت في قلبي.
لم أكن سندانًا من حديد لأتحمل ذلك، فكان الألم لا يُحتمل.
حلقي جف في لحظة.
دمي تدفق بعنف.
ضجيج كأن الديدان تغلي في جسدي.
أحسست بالغثيان.
شعرت بالعطش.
ومع ذلك، كانت كلماته تلك مشتهاة بشدة.
مجرد تلك العبارة جعلت قلبي يتأرجح، وكرهت نفسي لأني لم أستطع فعل شيء.
شعرت بالقرف من ذاتي.
“رين.”
صوته مجددًا ضرب صدري بقوة.
شرارة تطايرت مع ذلك الصوت.
اشتعلت النيران فوق حطام جاف.
كان ألمًا يشبه تمزق جرح لم يُشفَ منذ زمن طويل.
التعليقات لهذا الفصل " 187"