فصل 186
********
إلى أي مدى ركض تحت المطر؟ من بعيد، رأى العربة التي كانت إيرينيا تستقلها تتعرض لهجوم.
مسافة لا يمكن لشخص عادي أن يدركها بأي حال.
لكنه استطاع أن يدرك كل تلك الوقائع بحواسه السمعية والشمّية الخارقة.
حركة الرياح.
رائحة التوتر.
وحتى النذر الطفيفة للموت المتسلل بين الحين والآخر.
في تلك اللحظة، شعر سيزار بغضب عارم كأن دمه كله قد انقلب في عروقه.
“ما هذا الذي يفعلونه بحق الجحيم؟”
كان يرى الفرسان المهاجمين على ظهور خيولهم يتجمعون واحدًا تلو الآخر خلف العربة البائسة، يلاحقونها بإصرار.
كأنهم قطيع من الذئاب خرج للصيد الجماعي.
وفي النهاية، لم تجد العربة المحاصَرة بُدًّا من التوقف، وخرج منها فرسان الحماية.
ما إن فُتحت العربة، حتى تنهد سيزار تنهدًا قصيرًا.
رغم أن المطر ينهمر بغزارة ويجعل الرؤية ضبابية، إلا أنه كان يستطيع أن يشمّ بوضوح.
رائحة إيرينيا التي اشتاق إليها طويلًا كانت تفوح من هناك.
ما إن أدرك أن إيرينيا موجودة في ذلك المكان حتى شعر أن دمه يغلي.
ألمه خلف عينيه، ودموعه على وشك أن تنهمر.
الغضب الذي اجتاحه كان لا يُحتمل.
لحظة حرجة لا مجال فيها للخطأ، فلو تأخّر قليلاً، قد يقع ما لا يُمكن إصلاحه.
ظل يصرخ بلعنات وهو يركض على جواده بأقصى سرعة.
لقد صبر كل هذا الوقت فقط ليلتقي إيرينيا.
تحمّل كل ذلك الألم الذي يمزق الجسد بصبر مرير، فقط لأجل هذه اللحظة.
لكن أن تكون النتيجة هكذا…
لم يكن يصدق ما يحدث له، فتشبث بسيفه الطويل عند خصره بعدما كبح يده المشتعلة بالغضب.
كان حذاؤه مبللًا تمامًا، يصدر أصواتًا عند الحركة.
جسده الذي ركض بلا توقف كان يصرخ من التعب والتوتر، وكأن أوزانًا ثقيلة قد علقت به.
حتى ثيابه الحريرية التي تبللت بالأمطار بدت كأنها أشواك تلف جسده.
لكنه لم يكن يعير لذلك أي اهتمام.
كان ينظر نحو هدف واحد، ويركض باستمرار نحوه.
كان يعلم بالفطرة أن ضياع هذه اللحظة سيُخلّف ندمًا يرافقه مدى الحياة.
ظل يردد اسم “إيرينيا” في قلبه مرارًا وتكرارًا.
لكنه، مهما أنصت، لم يسمع صوتها.
حثّ جواده بعصبية لينطلق بكل ما أوتي من سرعة.
“تبا…”
عضّ على أسنانه، وبدأ يقتل واحدًا تلو الآخر من المطاردين خلفه.
كانت حركاته سريعة كالبرق، حتى إن بعضهم لم يدرك موته إلا عندما رأى رأسه يطير في الهواء.
ومع ذلك، لم يشعر بالاكتفاء رغم قطعه لرؤوس كثيرين.
كان يشعر بأن هناك شيئًا غريبًا منذ لحظة دخوله العاصمة.
لم يتوقع أبدًا أن يحدث مثل هذا الأمر، وتلك كانت خطيئته.
كان يلعن نفسه مرارًا من الداخل، لكن الوضع كان طارئًا لدرجة أنه لم يستطع الانشغال بمشاعره.
وصل جواده إلى حدوده، ولم يعد بإمكانه الاستمرار.
والأسوأ أن العربة دخلت إلى غابة يصعب فيها الركض بسرعة.
دخل إلى الغابة المليئة بالعوائق، فنزل عن ظهر جواده وبدأ يركض بنفسه.
عثر سيزار على العربة التي كانت تستقلها إيرينيا.
كان بابها مفتوحًا، فهرع ليتفقد الداخل، لكنه وجده فارغًا.
“تبا…”
رغم أنه قتل ثلاثة عشر قاتلًا، لم يعثر بعد على إيرينيا.
لكن رائحتها كانت لا تزال عالقة بوضوح في داخل العربة، لذا لم تكن قد ابتعدت كثيرًا.
أخذ ينظر حوله بقلق.
حينها، سمع صرخة حادة من مكان قريب.
كانت صوت إيرينيا.
“م، من الذي أمركم؟!”
في تلك اللحظة، اشتعلت عيناه بنار متقدة.
شعر أن دمه ينقلب مجددًا.
كان سلاح حاد يلامس رقبة إيرينيا الرقيقة، شيء لا يجب أن يحدث أبدًا.
من تجرأ ولمس جسدها؟
لم يعد بوسعه الاحتمال، فانقضّ كالسهم، وغرس سيفه في عنق الرجل الذي حاول إيذاءها.
ولم يكن هذا الرجل الوحيد.
كان هناك الكثير من القتلة يخرجون من كل مكان، كالذئاب الجائعة.
لكن بالنسبة لسيزار، الذي حقق انتصارات لا تُحصى على الشياطين طوال عامين، كانوا مجرد خصوم هزليين يسهل التغلب عليهم.
وبعد أن سقط جميع القتلة أرضًا، لم يتبقَّ سوى هو وهي.
“رين…”
أخيرًا، تمكن من رؤية إيرينيا بوضوح.
لكنها كانت في حالة يُرثى لها.
“…س، سيزار؟”
لكن مظهرها كان غريبًا.
ظنّ أنها ستفرح لرؤيته، لكنها بدت كمن رأى الموت ذاته.
كان وجهها شاحبًا وهي تتراجع للخلف بخطوات مرتعشة، كما لو كانت خائفة منه.
عيناها الخضراوان، المملوءتان بالرعب، جعلت قلب سيزار يهتز بقوة.
كأن شفرة مجهولة قد غرست في قلبه وتركته مثخنًا بالجراح.
لم يكن يعلم ما الذي جرى خلال فترة غيابه عن القصر الإمبراطوري.
“آه…”
في تلك اللحظة، أدرك أنه لا يزال ممسكًا بسيفه الملطخ بالدماء.
هل كانت خائفة من هذا الدم؟
حين فكر بالأمر، تذكّر أن مشهدًا عنيفًا كهذا لا يُفترض أن تراه امرأة عادية تعيش بعيدًا عن ساحة المعركة.
حتى وإن كانت إيرينيا شجاعة.
في الحقيقة، لم يكن يريد أن تُرى بهذه الهيئة.
أرادها أن ترى منه فقط الجانب الطيب والدافئ، فما الذي ارتكبه من حماقة؟
أعاد السيف إلى غمده على الفور.
وفجأة، سقطت إيرينيا على الأرض منهارة.
“رين؟”
أصابه الذعر وركض نحوها.
كان جسدها الصغير يرتجف كمن يعاني من نوبة.”استفيقي!”
ناداها مرارًا، لكنها لم تفتح عينيها.
عيناها كانتا متجهتين نحو السماء، وتخوضان في نوبة عنيفة.
كان خائفًا من أن تعض لسانها أو يحدث شيء أسوأ، وجسدها كان يفيض حرارة.
كان عليه أولًا أن يجد مكانًا يحتمي فيه من المطر.
بسرعة، حمل جسدها وركب بها على الحصان.
وفجأة، شعر بصدمة.
جسد إيرينيا كان أخفّ بكثير مما يتذكر.
رغم أن ثيابها مشبعة بالماء وكان ينبغي أن تكون أثقل.
“ما الذي…”
كان جسدها خفيفًا للغاية كأنما يحمل وسادة من الريش.
لم يكن من المعقول أن ينخفض وزنها إلى هذه الدرجة.
عضّ على أسنانه بقوة، ولف جسدها بعباءته، ثم انطلق بحثًا عن مأوى يحميها من المطر الغزير.
***************
ظلّ سيزار يتنقّل في الغابة إلى أن عثر على كهف مهجور، بدا وكأنه كان مأوىً لدب أثناء بياته الشتوي.
لحسن الحظ، لم يكن فيه أحد حاليًا، فقط بعض الخفافيش التي كانت ترفرف من حين إلى آخر.
لم تكن الأمطار تنوي التوقف.
وسط صوتها المستمر، كان سيزار يبذل قصارى جهده لإعادة الحرارة إلى جسد إيرينيا البارد.
حاول تدفئتها بجسده، بمسحها وفركها، لكن كل ذلك لم يكن كافيًا.
خلع عباءته وفرشها على الأرض ليمنع برودة الأرض من التسرّب، ثم وضعها فوقها.
عندما رأى زوجته بعد غياب، بدت له صغيرة وضعيفة لدرجة أنه خاف حتى من لمسها.
لكنه كان يعلم أن هناك أمورًا عليه إنجازها أولًا.
كان عليه إضاءة الكهف وتجفيف ملابسها.
البقاء في ثياب مبتلّة قد يؤدي إلى نزلة برد أو حتى التهاب رئوي.
لحسن الحظ، كانت هناك أغصان جافة متناثرة في الكهف.
رغم أن الطقس الرطب جعل إشعال النار صعبًا، إلا أنه نجح أخيرًا بعدما أقنع نفسه أن فشل ذلك سيعرض إيرينيا للخطر.
ورغم الدخان الكثيف الناتج عن الحطب غير الجاف، إلا أن الدفء بدأ ينتشر.
لكن إيرينيا التي لا تزال ترتدي ثيابها المبلّلة، كانت ترتجف بقوة.
الملابس الرطبة تسحب الحرارة من الجسد.
لذلك، كان عليه أن يخلع ملابسها حتمًا.
بيدين مرتجفتين، أمسك سيزار بحافة فستانها.
كان مبللًا جدًا، مما جعل ملامح جسدها واضحة تحت القماش. أطلق تنهيدة قصيرة.
“هاه…”
جسدها النحيف من الأصل أصبح مختلفًا تمامًا.
نحفٌ مفرط وصل إلى حدّ الهزال.
لم يصدق الأمر، فأخذ يفكّ الرباط ببطء شديد وحرص بالغ.
ظهرت بشرتها الشاحبة، وقد تحولت من زرقة البرد إلى لون رمادي باهت، كأن الجلد والعظام وحدهما بقيا.
جسدها الصغير كان يرتجف كما لو أنه سيتحطم في أية لحظة.
خلع ملابسه المبتلّة، وغطى جسدها العاري بجسده لينقل إليها بعض الدفء.
ما إن التصق جسده بها حتى بدأت حمرة خفيفة تظهر على وجنتيها، لكن شفتيها البنفسجيتين لم تستعيدا لونهما بعد مهما فعل.
كلما لامس جسدها، شعر بعظامها البارزة بوضوح، وبين أضلاعها كانت الفراغات شديدة الاتساع، لدرجة أن أصابعه كانت تنزلق بينها.
كل مرة يحدث ذلك، كان قلبه يتحطم ألف مرة.
“ما هذا بحق الجحيم…”
شعر بغصّة حارة تغمر صدره.
لكنّه كان يعلم أن وقت البكاء لم يحن بعد.
“رين…”
كل ما يمكنه فعله هو أن ينفخ الحياة في هذا الجسد الضعيف.
عليه أن ينتظر حتى تفتح عينيها.
كانت إيرينيا تتنفس بصعوبة، كأنها توشك على أن تنطفئ في أية لحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 186"