الفصل 185
**********
بالكاد تمكنت من تحريك ساقيّ المتخشبتين، فانخفضت بجسدي إلى الأرض وبدأت أزحف بصعوبة.
المكان الذي وصلت إليه أخيرًا كان عشبًا كثيفًا ومخبأً منعزلاً.
في تلك اللحظة، دوّى صوت صراخ الرجال في الأرجاء:
“هيه! العربة فارغة؟”
“فتش جيدًا!”
“اللعنة، ما الذي تباطأت لأجله؟ أسرع!”
كان خياري صائبًا.
قد يُقال إنني بالكاد نجوت من الموت، لكنني لم أستطع تصديق ذلك تمامًا، فلم أكن قد خرجت من الخطر بعد.
أغمضت عيني بقوة ثم فتحتهما.
العجيب أنني لم أصرخ.
ربما كان ذلك بسبب القلق العميق داخلي، إذ لم أكن متأكدة إن كان اختبائي هنا هو القرار الصائب.
ربما كل ما فعلته هو تأجيل موتي الذي سيأتي لا محالة.
بل ربما، بسبب هروبي، أثرت غضبهم أكثر، فصار في انتظاري موت أشد بؤسًا ووحشية.
تسللت القشعريرة إلى جسدي بالكامل.
هل سأموت هكذا؟ بهذه الطريقة، من دون أي مقاومة؟
رغم أنني قررت مسبقًا التخلي عن كل شيء وقضاء بقية حياتي في الدير، فإنني لم أتمنّ أبدًا أن تكون هذه نهايتي.
“لا… لا يجوز…”
تمتمت وكأنني أوبّخ نفسي.
لم أرد أن أموت بهذا العجز.
منذ أن غادر سيزار، وُضعت في عزلة داخل القصر الإمبراطوري، بالكاد أعيش.
كل الأيام كانت وكأن الجميع يهمس لي أن أموت.
ومع ذلك، حاولت بكل قوتي أن أغلق أذني وأواصل الحياة.
مهما كانت السكاكين التي مزقت قلبي حادة، فقد قاومت، قاومت بعناد حتى النهاية.
كان هناك سبب واحد فقط لذلك.
لأنني لم أرد أن أموت عبثًا.
لأنني تمنيت الحياة بصدق.
علي أن أعيش… من يبقى على قيد الحياة هو الأقوى…
هكذا قالت لي “آناليسا” ذات مرة، ثم رحلت.
الكلمات التي تركتها خلفها لذلك الطفل الصغير العاجز، هي ما جعله يصمد في هذا العالم القاسي.
وربما، حتى هذه اللحظة، أنا لم أُنْهِ حياتي المؤلمة بيدي، بسبب تلك الكلمات.
“آناليسا طلبت مني أن أعيش…”
البقاء، النجاة، ربما كانت وصيتها الأخيرة هي التي أصبحت عقيدتي الوحيدة في هذه الحياة.
لذا، وتحت هذه القناعة، تشبثت أكثر بالحياة.
أخرجت الخنجر الذي لم أفارقه أبدًا من بين ثيابي.
كنت قد تركت كل شيء خلفي في القصر الإمبراطوري، باستثناء هذا الخنجر.
كان هذا الخنجر هدية زفاف قدمتها لي “جيوفينيتا” في وقت ما، وقد استخدمته ذات مرة عندما اضطررت لنقل دم إلى سيزار.
لم أستطع التفريط به بسهولة.
وربما، الآن، كان وسيلتي الوحيدة للبقاء.
يدي التي أمسكت بالخنجر راحت ترتجف بشدة.
كان جسدي مبتلًا بمياه المطر، وباردًا حتى الرعب.
لم أستطع التفريق، هل هذا برد أم خوف؟ هذا الارتعاش الذي غزا كل جسدي.
أن أواجههم بخنجر صغير كهذا…
إنه لأمر يبعث على اليأس.
حينها، صرخ أحد القتلة:
“إنها هناك! بين العشب!”
هبط قلبي.
بدأ القتلة يقتربون مني واحدًا تلو الآخر.
مددتُ يدي ولوّحت بالخنجر:
“لا تقتربوا!”
لكنني لم أستطع منع نفسي من التفكير كم أبدو مثيرة للشفقة.
أنا، بخنجر صغير لا يُجدي، لا يمكنني أن أهددهم أبدًا.
كما هو متوقع، ضحك أحدهم ساخرًا.
“لا وقت لدينا، اقتلها بسرعة!”
ألحّ عليه زميله.
أيديهم كانت ملطخة بالدماء.
كانت مياه المطر تغسلها، مكونة نهراً أحمر.
في تلك اللحظة شعرت بالذنب لشكّي في أحد حراسي.
شعرت بشيء بارد يلامس عنقي.
“لا تلومينا كثيرًا.”
قال ذلك الرجل الذي يحمل السيف.
كتمت شهقة، وسألت بصوت مرتعش:
“مَن… مَن أرسلك؟”
حتى لو كان هذا هو الوداع الأخير، أردت أن أعرف من دبّر كل هذا.
ومع ذلك، خفت من معرفة الحقيقة، فتشبثت بتوتري.
كان أسوأ احتمال، ومع ذلك، لم أستطع التوقف عن التفكير فيه منذ اللحظة التي غادرت فيها القصر في العربة.
في اللحظة التي هاجمني فيها القتلة، كان أول من خطر في ذهني… هو خيانتك أنت.
كنت خائفة أن ينطق ذلك الرجل باسمك…
“إنه… ―”
لكن كلماته لم تكتمل.
لأن كل شيء حدث بسرعة بالغة.
صوت غريب ومقزز دوّى،
وغريزيًا، عرفت أنه صوت الموت.
من فم الرجل الذي كان يهددني، خرج نصل طويل، وانسكب الدم.
“أه…؟”
تجمد رأسي كالجليد.
ما الذي حدث؟ المشهد أمامي كان مروعًا. لم أستطع استيعابه.
لكن كان هناك شيء واحد واضح:
الرجل الذي حاول قتلي، طُعن، ودمه الدافئ غمر الأرض.
الموت، موت حقيقي واضح.
رائحة الدم المعدني الكريهة جعلتني أشعر بالغثيان.
اندفع القيء من معدتي.
لم يكن في بطني شيء يُذكر، فخرج ماء صافٍ مع دموع، ملوّثًا الأرض لفترة.
بعد أن تقيأت كل شيء بداخلي، رفعت رأسي بصعوبة لأرى القتلة جميعًا مطروحين على الأرض.
كان المشهد فظيعًا.
“رين…”
وكان هناك… أنت.
“سـ… سيزار؟”
كان سيزار. حقًا، كان يقف أمامي.
اقترب سيزار مني بخطوات سريعة.
الدهشة، والارتباك، والخوف… شعور غريب بلا واقعية، لكن الخوف وحده كان واضحًا بما يكفي لأجبر جسدي على التراجع.
لكنه لم يتحرك، فقد تجمد من الخوف والبرد.
لماذا هو هنا؟ ألم يكن عليه أن يكون مع جيوفينيتا في حفلة الاحتفال بانتهاء الحرب الآن؟تراخى توتري قليلًا.
هل من الممكن أنه جاء لإنقاذي؟
تسلل هذا الأمل الغريب إلى رأسي.
لكن لا، يجب أن أستيقظ.
هذا لن يحدث.
ليس لديه أي سبب ليقوم بذلك.
فهو الآن مرتبط بجيوفينيتا.
لقد رأيت بأم عيني كيف تبادلا المشاعر كرفيقين لمدى الحياة.
حتى أنني رأيت الختم على عنق جيوفينيتا، فأي أمل أحمق ذاك الذي أتمسك به؟
أنا الآن لا أساوي شيئًا.
مجرد شبح باهت بينهم.
قالت جيوفينيتا إن سيزار اختارها.
وأنا صدّقت ذلك.
لكن، ماذا إن لم يكن الأمر كذلك؟
ارتجفت فجأة من الرأس حتى أخمص القدمين.
أطراف أصابعي كانت ترتجف.
لا، لا… يجب أن أتماسك.
كم من مرة خلّف لي هذا الأمل الزائف خرابًا؟
الإيمان، الرجاء، والتردد، ثم ينهار كل ذلك تحت وطأة اليأس.
تذكّري تلك الأيام الباردة.
الإيمان المملوء بالأمل هو الأخطر على الإطلاق.
رغم أن مجرد التفكير بذلك كان مؤلمًا، إلا أنني لم أملك سوى نتيجة واحدة.
“لِـ… لما أتيت؟”
سألت أخيرًا، بصوت خافت بالكاد خرج من فمي.
رغم أنني كنت أعرف الإجابة.
لا شك أنه جاء ليشهد موتي بنفسه.
موتي الذي سيكون البقعة الوحيدة في طريقه المزين بالورود.
الدم على سيفه بدا مخيفًا، شديد الحمرة.
وفي تلك اللحظة، شعرت بذلك الإحساس العجيب.
ربما، الموت على يد سيزار ليس بالأمر السيئ.
أن أراه مرة أخيرة قبل أن أموت… ربما يكون هذا أفضل نهاية بالنسبة لي.
لقد كان وجهه هو الوجه الذي طالما تمنيت رؤيته.
رغم أنني لم أرد لنهايتي أن تكون هكذا، إلا أنه كان الرجل الذي أحببته بكل جوارحي ذات يوم.
إذا ما قارنت هذا بموت مخزٍ على يد القتلة، فهذه نهاية أفضل بكثير.
“……”
لكن سيزار لم يقل شيئًا.
يا ليتَه قال أي شيء.
لماذا لا يجيب؟
الانتظار جعله وكأن الوقت توقف.
كنت أشعر بالدوار.
يبدو أن جسدي المنهك قد بلغ حدّه الأقصى.
بدأ صوت المطر يخفت شيئًا فشيئًا.
لم تكن الأمطار قد توقفت، لكن أذني أصبحتا كأنهما تحت الماء.
رؤيتي بدأت تظلم، كأن ستارًا أسود يغمر عيني.
وفي النهاية، كأنني أنجرف نحو الظلام…
انهرت.
كانت قطرات المطر الباردة ترتطم بخدي.
**************
اندفع سيزار خارج قاعة الاحتفال في القصر الإمبراطوري وامتطى حصانه.
كان خروجه المفاجئ قد جعل القاعة في فوضى.
لكنه نجح في انتزاع اعتراف من جيوفينيتا، مفاده أن “إيرينيا” قد غادرت القصر متوجهة إلى دير “سيكليكا”.
إيرينيا؟ إلى الدير؟
“لماذا بحق السماء…؟”
الواقع كان عبثيًا إلى درجة لم تسمح حتى بالسؤال عن السبب.
كل ما استطاع فعله هو الانطلاق للعثور عليها.
تلك الهواجس التي راودته طيلة عودته من ساحة المعركة إلى العاصمة…
ذلك الشعور السيئ، قد تحقق الآن.
الطقس كان عاصفًا والمطر جعل الرؤية شبه معدومة.
لكن سيزار كان يعلم إلى أين يجب أن يذهب.
لم يكن أمامه سوى أن يتبع حدسه.
التعليقات لهذا الفصل " 185"