فصل 184
********
كان الجو في كل مكان مفعمًا بأجواء احتفالية بهيجة.
تفتحت ابتسامات الناس كالزهور على وجوههم.
كان يُرمى الكونفيتي من فوق الشرفات، وتتناثر قصاصات الورق الملونة كأنها ثلوج في كل مكان يمر به الناس.
يوم سعيد تتراكم فيه الأفراح.
لكنني وحدي فقط، كنت أمسك بقلبي الموجوع والمتألم، وأذرف الدموع في وحدتي.
“يا له من وغد…”
مسحت دموعي التي انهمرت رغماً عني بظهر يدي، ثم حدقت مباشرة تحت برج الجرس.
من بعيد، بدا الغبار يتصاعد. لقد وصلت فرقة فرسان القمر الأسود حتى أمام بوابة القصر.
كان من الممكن تمييزهم حتى من هذه المسافة البعيدة.
كان من يقودهم في المقدمة هو سيزار.
سيزار، الابن الأول لإمبراطورية أستيريا وزوجي… لا، بل يجب أن أقول الآن: زوجي السابق.
عاد سيزار بعد حملة استمرت عامين.
فرقة الفرسان التي يقودها، “القمر الأسود”، أظهرت قوتها بانتصارات متتالية بلا هزيمة في كل معركة شاركت فيها، وفي النهاية حققت نصرًا ساحقًا.
وفقًا للشائعات، فإن الإمبراطور غيدو كان سعيدًا جدًا بهذا النصر، ووعد بمنح وسام الصليب الحديدي الأول للأمير سيزار الذي عاد كقائد منتصر.
وهو ما يعادل عمليًا تعيينه وريثًا رسميًا للعرش.
أعلنت العاصمة يوم النصر هذا كعيد وطني، وأعلنت الأسبوع الذي يعود فيه فرسان القمر الأسود فترة احتفال غير رسمية.
خرج الجميع لرؤية وجه البطل.
أرادوا رؤية الأمير الأول سيزار، ذاك الذي كان يُعتقد سابقًا أنه وحش بسبب لعنة التنين المجنون، لكنه يُمتدح الآن لكونه أقوى وأجمل من أي شخص آخر.
كان مظهر سيزار، وهو يرتدي درعًا فضيًا ورداءً أرجوانيًا داكنًا، شامخًا كالحاكم المحارب في الأساطير القديمة.
وأخيرًا، خلع خوذته.
وعلى الفور، دوّت تصفيقات وهتافات كالرعد.
“يحيا الأمير سيزار!”
“يحيا يحيا!”
تطاير شعره الداكن، الأغمق من عتمة الغروب، مع الرياح.
ملامحه الحادة والواضحة، بشرته البيضاء النقية كالثلج، وعيناه الحمراوان كثمار العنب البري التي سقطت على بشرته.
لم يكن وجهه وجه قائد شاب خاض العديد من المعارك المنتصرة، بل كان أقرب إلى شاعر متجول يعزف على العود.
كان وجهه الذي لم أره منذ زمن طويل، جميلاً للغاية.
وفي النهاية، سقطت الدموع المتجمعة في عيني على الأرض.
وما إن بدأت، حتى لم أستطع التوقف.
فبكيت بشدة، واقفة في مكاني كأنني مسمرة في الأرض.
إذ لم يكن مسموحًا لي سوى أن أراقبه من هذا البرج البعيد.
كانت هتافات الناس صاخبة لدرجة أنها غطت بكائي، وذلك كان حسنًا.
فلن يصل إليه نحيبي هذا على أية حال.
في تلك اللحظة، استدار سيزار فجأة.
“…”
انحنيت دون وعي.
ربما كانت مصادفة، لكن شعرت وكأنه نظر إلى ناحيتي.
مع أن من المستحيل أن يراني من هذه المسافة.
في تلك اللحظة، اقتربت مني الكونتيسة إلفيرا وخادمتها.
“حان وقت المغادرة الآن.”
“…فهمت.”
كنت أخطط اليوم لمغادرة العاصمة إلى دير سيكليريكا حيث توجد ديلفينا.
وقد تحقق رجائي الأخير بأن أرى سيزار مرة واحدة فقط قبل الرحيل.
تأكدت أيضًا من عودته سالمًا دون أن يُصاب بأي أذى، فشعرت ببعض الارتياح في قلبي.
تماسكت وعدلت ملامحي، ثم بدأت أخطو ببطء خطواتي الثقيلة.
“سمو الأميرة.”
أمسكت بي الكونتيسة إلفيرا.
وضعت يدها الشاحبة فوق يدي.
“أرجو أن تحافظي على صحتك حتى في المكان الذي تذهبين إليه.”
“…نعم.”
كانت كلماتها الأخيرة دافئة لدرجة أنها منحتني بعض العزاء.
ثم اقتربت مني وهمست لي بشيء في أذني.
لكن قبل أن أتمكن من الرد، صاح السائق بصوت عالٍ:
“علينا المغادرة الآن!”
نظرت مجددًا إلى الكونتيسة إلفيرا.
لكنها لم تنظر إليّ مجددًا، واستدارت عائدة إلى القصر.
ما الذي كانت تقصده بكلماتها الأخيرة؟ لم يكن لدي وقت للتفكير.
ركبت العربة بمرافقة فارس الحراسة، كما قال السائق.
****************
مغادرة العاصمة كانت أسهل مما تخيلت.
استقللت عربة موكلة من القصر متوجهة نحو أطراف البوابة.
لقد كانت نيتهم الأصلية هي طردي، فكان من الطبيعي أن يسهلوا ذلك.
كانت أمتعتي بسيطة للغاية، مجرد حقيبة صغيرة.
وكان هناك عدد قليل من الحراس المرافقين، ظاهريًا لحمايتي، لكن في الحقيقة لمراقبتي.
رغم أنني كنت في يومٍ ما زوجة الأمير، إلا أن هذا التحرك كان بسيطًا ومتواضعًا للغاية.
وكأنه تذكيرٌ لي بحالتي البائسة.
لطالما شعرتُ، بشكلٍ مبهم، أن الأمور ستؤول إلى هذا.
هكذا كانت حياتي دومًا.
لم أملك شيئًا، وكل ما امتلكته انتُزع مني.
لذلك كنت أواسي نفسي مرارًا بأنه أمر متوقع.
ثم خطرت في بالي صورة سيزار، الذي قد لا أراه مجددًا.
لم يعد ذاك الوحش القبيح.
لقد خلع جلده البشع، وأصبح رجلاً وسيمًا يثير إعجاب الجميع.
لقد قاد حربًا لا يمكن الفوز فيها، وانتصر.
وكان من الطبيعي أن يرث وسام الصليب الحديدي.
كانت تلك حربًا مستحيلة الفوز، والجميع اعتقد أنه سيموت، حتى أنا.
ولهذا السبب لم يكن لدي خيار سوى الإمساك به في ذلك الوقت.
سيزار، إن ذهبت ستموت.
أرجوك، لا تذهب.
كان يستمع لي دومًا، ظننت أنه سيصغي إن رجوتُه ألا يذهب.
لكنه تغير تمامًا، كما تغير مظهره.
دفع يدي المتمسكة بثوبه ببرود.
“سأعود حتمًا.”
قالها بوجهٍ حازم دون أن يواسي بكائي، وانطلق في طريق الرحلة الوعرة.
كنت أعرف أنني أنانية، لكنني تمنيت لو أنه أصيب بجروح.
تمنيت لو أصبح عاجزًا مثلي، ليعود إلى حضني نادمًا، يبكي ويصرخ بأنه كان عليه الإصغاء لي.
لو حدث ذلك، لما تركني بهذه الطريقة.
“كان بإمكانك أن تعيش ناقصًا فحسب…”
تسللت الكلمات المليئة بالحقد من بين شفتيّ.
لو أنه عاش مع اللعنة، ناقصًا، لربما لم يحدث كل هذا.
وربما، فقط ربما، لما ذهب إلى امرأة أخرى… وخصوصًا تلك، جيوفينيتا.
بدأ المطر يتساقط من نافذة العربة، بعد أن كان الجو مشرقًا. وكأنه يعكس ما في قلبي، تحول الطقس فجأة إلى كئيب ومظلم.
وبللت دموعي المتساقطة ملابسي.
“…وغد لعين.”
لقد تخلى عني سيزار.
في الحقيقة، رغبت بالركض إليه الآن والاحتجاج، أن أضرب صدره وأصرخ.
أنت، على عكس الآخرين الذين كرهوني واحتقروني من البداية، لم تكن كذلك.
لم يكن يُفترض بك أن تفعل هذا بي.
كنت تخاف الناس، وتهاب الرعد، وتزمجر في وجه الجميع، لكنك كنت تجد الأمان في حضني وحدي.
ومع زوال اللعنة… تركتني ورحلت.
الآن، في القصر، حتماً هناك حفلة ضخمة احتفالاً بانتصار سيزار وعودته سالماً. وبجواره، ستكون جيوفينيتا المتألقة.
“كل شيء كان مقدرًا…”
كنت أرغب في تقبل الواقع بلا مبالاة، على أنه اختياري أنا بالذهاب إلى الدير.
لكن، للأسف، لم أستطع منع دموعي.
في تلك اللحظة، ومع صوت اهتزاز عنيف، توقفت العربة فجأة.
كان الجو في الخارج مضطربًا للغاية. نظرت عبر النافذة، لكن المطر والظلام حالا دون رؤيتي لشيء.
ثم فُتح الشباك الصغير داخل العربة، وصاح السائق بلهفة:
“هجوم!”
“هـ… هجوم؟ لصوص؟”
سألت بفزع وأنا أنظر إلى وجه السائق وفارس الحراسة الجالس بجانبي.
لكنهم اكتفوا بهز رؤوسهم.
“ابقي هنا. سأتحقق من الوضع بالخارج.”
لم ينتظر حتى ردي، وأخرج سيفه من خصره، ثم فتح باب العربة بعنف وخرج.
خفق قلبي بجنون.
وضعت يدي على فمي، خشية أن تنفلت صرخة.
من بعيد، سمعت صراخ رجال قساة.
ربما كانوا لصوصًا يطمعون في الأمتعة، أو ربما… قتلة أرسلهم أحدهم لاغتيالي.
“هل هي الإمبراطورة؟ أم ربما…”
كان هناك الكثير من الأعداء المحتملين.
كثيرون تمنوا موتي.
تسلسلت أفكاري، وارتعد جسدي من الخوف.
تذكرت كلمات الفارس حين قال لي ألا أخرج أبدًا، لكن شيئًا ما في قلبي لم يطمئن.
هل يمكن الوثوق به حقًا؟
سمعت صوت تصادم المعادن من بعيد.
وإن كان هذا الهجوم يستهدف قتلي، فهل البقاء داخل العربة آمن فعلًا؟
هل لا يزال الفارس حيًا؟ أم أنه كان متواطئًا مع المهاجمين منذ البداية؟
وفجأة، كأنما لمحو تلك الهواجس، دوّى صرخة مفزعة من مكان ما.
اعتبرتها إشارة، فاندفعت خارج العربة.
سمعت صوت معركة شرسة تدور في مكان ما، لكن الظلام والمطر حالا دون أن أرى شيئًا.
ربما كانت هذه فرصتي الوحيدة للهروب.
هطل المطر الغزير فبللني بالكامل، لكنني لم أكن أملك ترف التفكير بذلك.
ولكن… إلى أين يجب أن أهرب؟
التعليقات لهذا الفصل " 184"