فصل 182
**********
كانت الكلمات المفاجئة التي قيلت لي صادمة إلى حد أنني لم أدرِ كيف يجب أن أُظهر ردة فعلي.
خُيّل إليّ أن كل هذا ربما يكون حلماً، فعضضت داخل فمي لأتأكد، وعندما شعرت بطعم الدم المعدني أدركت أن ما يحدث واقع لا محالة.
لم أستطع كتمان الكلمات التي فاضت من داخلي، ففتحت فمي قائلاً:
“ماذا… ماذا قلتِ؟”
عندها ابتسمت جيوفينيتا بثقة.
“سيزار هو من اختارني. لذا فأنتِ قد تُركتِ.”
شعرت كأن شيئاً ثقيلاً يهوي على رأسي، وكأن ضربة هائلة قد حطمت جمجمتي.
بدأ رأسي يطنّ “دونغ، دونغ”، وانتابني ألم في كل جسدي كما لو أنني ضُربت بقسوة.
رغم أنني كنت جالسة على كرسي، شعرت وكأن الأرض تحت قدمي تتهاوى، فلم أستطع التوازن.
لم يكن بمقدوري إلا أن أتشبث بمسند الكرسي الذي كنت أجلس عليه.
كانت عيناي تؤلمانني ولم أستطع فتحهما جيداً.
أردت أن أقول شيئاً، لكن الكلمات لم تخرج، واكتفيت بالنظر إلى جيوفينيتا بصمت.
“هل سمعتِ عن الوسم؟ الأشخاص مثل صاحب السمو سيزار لا يختارون إلا شريكاً واحداً طيلة حياتهم.”
صدى صوتها تردد في أذني.
كانت رؤيتي ضبابية، فرأيت وجه جيوفينيتا يتكرر أمامي مرتين وثلاثاً.
ألم أسمع عن هذا الوسم للتو من إيشيليلنور؟ لو كان مجرد صدفة، فهي صدفة عجيبة فعلاً.
رفعت جيوفينيتا شعرها ببطء لتكشف عن عنقها، فبدا عليه أثر الوسم واضحاً.
كان أشبه ببقعة حمراء على شكل بتلات زهور.
لم يكن هناك شك في أنه هو الوسم الذي تحدثت عنه إيشيليلنور.
“لقد قال إنه يحبني. أليس هذا سبب الوسم؟”
فتحت فمي متنهّدة، لكن لم تخرج الكلمات بسهولة.
شعرت وكأن لساني يندفع إلى داخل حلقي، واعتقدت أنني سأغيب عن الوعي في أية لحظة.
لذا لم يصدر مني إلا صوت ضعيف ومهتز:
“آه… آآه…”
“لذا…”
اقتربت جيوفينيتا مني، وأنا أرتجف على الكرسي، وأمسكت بكتفي.
أظلم ظل أسود على وجهها، وشعرت بألم حين غاصت أظافرها الطويلة في كتفي.
في تلك اللحظة، سُمِع صوت طنين يشبه صوت الحشرات.
“آه…”
تشوهت رؤيتي كأن الورق يتجعد.
أصبت بدوار، وامتلأت أذناي بصمت خانق كأن الماء ملأها، فلم أعد أسمع كلمات جيوفينيتا جيداً.
لم أستطع أن أفهم ما تقوله.
“هل لم تسمعي كلامي جيداً؟”
هززت رأسي ببطء.
في الحقيقة، لم يكن الأمر أنني لم أفهم، بل إن كل كلمة منها كانت تؤلمني، وكل جملة كانت كخنجر ينغرس في قلبي.
لم تنزل دموعي رغم الألم القاطع، ولعلي كنت ممتنة أنني لم أبكِ أمامها.
“يبدو أنك لم تفهمي جيداً، سأكرر. أرجو أن تتخلي طواعية عن مكانك كأميرة ولي العهد وترحلي.”
“أ… أرحل؟”
إلى أين؟ لم يكن لدي أي مكان أذهب إليه.
“أميرة ولي العهد؟ ألم يكن ذلك أعلى مما تستحقين منذ البداية؟ كل شيء يعود إلى طبيعته فقط.”
في تلك اللحظة، لم أستطع قول شيء سوى الإيماء برأسي.
نعم، كانت كلمات جيوفينيتا صحيحة.
صحيحة تماماً.
عندما أتأمل، أدرك أن هذا المكان كان فعلاً أكثر مما أستحق.
كلماتها كانت منطقية فعلاً.
لذا لم يكن أمامي سوى أن أومئ برأسي وأتمتم:
“هكذا إذاً…”
نظرت إليّ جيوفينيتا وقالت ببرود:
“كل هذا تقرر بأمر من والدتك وجلالة الإمبراطورة. لذا سنمنحك خياراً خاصاً. الخيار الأول هو―”
لم أستطع الاستماع أكثر، فقاطعتها بسرعة:
“سأقرر بنفسي إلى أين أذهب.”
لم أخبر أحداً بذلك، لكنني فكرت فيه منذ وقت طويل.
كنت أتوقع مجيء هذا اليوم.
لذا، اعتقدت أن الوقت قد حان.
فصرحت بسرعة بما أرغب فيه:
“أريد أن أذهب إلى دير سيكليريكا، حيث تقيم ديلفينا.”
كان ذلك أملاً دفيناً في داخلي منذ أن أصبحت وحيدة في القصر.
فكرت فيه باستمرار بعد أن فقدت طفلي.
عندها صرخت سانشا.
لعلها كانت المرة الأولى التي تُظهر فيها مشاعراً حادة:
“لا، سيدتي أميرة ولي العهد، لا يمكنكِ!”
تصريحي بالذهاب إلى الدير كان يعني أنني أتنازل عن كل حقوقي.
لكنني في الأصل لم أكن أمتلك شيئاً.
لم أشعر بشيء بعدها.
بل لم أرد حتى أن أفكر.
عندها ردّت جيوفينيتا فوراً:
“فكرة جيدة. سمو الأمير سيزار سيصل إلى القصر قريباً، لذا من الأفضل أن تخلي قصر الزمرد قبله.”
نعم.
سيزار كان الآن بطلاً انتصر في تحالف الإمبراطورية، وعاد مظفراً بجنود النصر.
كان ألمع شخصية في هذا العالم، وعاد إلى الوطن مكللاً بالمجد، فلم يكن ليتطلع إلى ماضٍ حقير مثلي.
“تخيلي كم سيخيب أمله إن علم أن فتاة مثلك لا تزال هنا. هو من رتب رحيلي أولاً.”
“…هكذا إذًا.”
ظننت أنه لم يعد هناك ما يمكن أن يصدم قلبي، لكنني كنت مخطئة.
عندما قالت إن كل هذا كان بقرار من سيزار، انخفض رأسي وتمتمت:
“…حسناً، فهمت.”
لم تصلني منه أي رسالة طوال سنتين من الحرب.
أدركت أنه اختار أن يقطع كل صلة بي منذ تلك اللحظة.
كما كان الجميع ينظر إليّ بازدراء، فلا بد أنه كان يفعل الشيء ذاته.
بعد أن تحرر من اللعنة وحقق إنجازات عظيمة، حصل على دعم الناس، فلم يعد يتحمل وصمة أنه تزوج من فتاة مثلي.
منبوذة عائلة فلوريس.
اللقيطة التي كانت تعمل كخادمة.
والعرجاء التي تجرّ ساقها بصعوبة.
كنت أنا الشريكة المثالية للأمير الوحش، الذي قيل إنه قتل نساءً عدة.
لكن سيزار الآن أمير حقيقي لائق، ولم أعد سوى وصمة عار، لا ينبغي أن أبقى بجانبه.
*********
بعد ذلك، كان ما عليّ فعله بسيطاً للغاية.
كتبت أولاً رسالة إلى القديسة لوسيا لأعرب عن رغبتي في دخول دير سيكليريكا حيث تعيش ديلفينا.
في الحقيقة، لم أكن بحاجة لانتظار الرد.
سارت الأمور بسرعة مذهلة.
منذ البداية، لم يكن لدي أية سلطة كأميرة ولي العهد، لذلك كان من السهل تنفيذ كل الإجراءات.
لم يكن هناك الكثير لأتنازل عنه.
وأكثر من احترم رغبتي بالتنحي عن مكاني كأميرة ولي العهد، كانت الإمبراطورة كورنيليا.
«قضاء ما تبقى من حياتك في الدير؟ نهاية مناسبة تماماً لفتاة مثلك.»
رغم أنها لم تلتقِ بي مباشرة، أرسلت الإمبراطورة هذه الرسالة عبر الكونتيسة إلفيرا.
لم أستطع الرد، واكتفيت بالإيماء بصمت.
ماذا كان يمكنني أن أفعل في مجرى هذه الأمور، التي تسير بسلاسة كجريان الماء؟
تولت الكونتيسة إلفيرا كل الإجراءات: وثيقة التنازل، التصديق الرسمي، والتخلي عن جزء من جهازي.
لكنها، عندما كنا وحدنا، حاولت إقناعي:
“مولاتي، لا يجب أن تذهبي إلى الدير.”
كان في ملامحها قلق شديد، لكنني كنت قد اتخذت قراري بالفعل، ولم تلامس كلماتها قلبي.
“هذا قراري.”
أومأت برأسي، ووقّعت على كل الأوراق، ثم شققت إصبعي لأختم بختم دمي.
“حقاً…”
بدت على الكونتيسة إلفيرا مشاعر معقدة، لكنها جمعت الأوراق ووضعتها في الحافظة.
كنت أعلم أنها لا تملك وسيلة لتغيير الأمور، فلم أشعر تجاهها بأي حقد.
“كونتيسة، لدي طلب أخير.”
“ما هو؟”
علمت في يوم رحيلي أن سيزار سيعود.
“حتى لو من بعيد جداً، أريد فقط أن أراه للحظة واحدة قبل أن أغادر.”
أردت أن أراه للمرة الأخيرة.
لم يكن ذلك مطلباً تعجيزياً، فقد كان أمنيتي الوحيدة.
لم يكن لدى الكونتيسة سبب لرفض طلبي.
“حسناً. سأبذل جهدي.”
“شكراً لكِ.”
قيل إن هناك حفلاً بمناسبة عودة سيزار.
لم يكن لي أي علاقة بذلك.
كان مجرد ترحيب بالبطل العائد.
سيكون حفلاً ضخماً، فالناس جميعاً يتطلعون لرؤية البطل.
“ربما كان هذا أفضل.”
بالنظر إلى مستقبل سيزار، كان اختياره لجيوفينيتا هو الخيار الأنسب.
“فقط… أريد أن أراه مرة واحدة أخيرة…”
نعم. هذا كل ما أريده.
لم أطمح لأكثر من ذلك.
افتقدته فحسب بعد عامين من الغياب.
أردت فقط أن أطمئن عليه.
هل أصيب؟ هل تركت الحرب ندوباً عليه؟ فقط هذا.
لم أرد أن أتمسك به.
ولم أكن أستطيع.
من البداية، كنا هكذا.
علاقة خاطئة من البداية.
مجرد انحراف مؤقت عن المسار الصحيح.
ورغم ذلك، تمنيت ألا يحمل سيزار عني انطباعاً سيئاً.
تمنيت أن تكون ذكرياتي معه، ذكريات جميلة بالنسبة له أيضاً.
“سأحترم قرارك.”
تلك المشاعر التي حملها لي، كانت صادقة في وقتها.
كنت بحاجة لأن أصدق أنني أستطيع أن أعيش على ذكراها وحدها لبقية حياتي.
التعليقات لهذا الفصل " 182"