فصل 174
*********
“كل شيء يسير بسلاسة.”
تمتمت جيوفينيتا لنفسها كما لو كانت تؤكد ذلك لنفسها، ثم أومأت برأسها.
حقًا، كانت الأمور كلها تسير بانسيابية كالسحر.
أكثر ما كانت تخشاه بعد ذلك الحادث هو أن تقوم إيرينيا بالإبلاغ عنها،
لكن بسبب حالتها غير الواعية، ثم التزامها الصمت كصدفة المحار بعد أن استعادت وعيها،
لم يتم حتى الكشف عن الفاعل.
“الآنسة إيرينيا سقطت من الدرج مجددًا نتيجة لتصرفها غير الحذر، أليس كذلك؟”
“كما كانت تفعل عندما كانت صغيرة.”
قالت الخادمة مارتا تلك الجملة وأضافت بكلمات معسولة تخاطب بها جيوفينيتا.
“هل من شيء آخر؟”
“يقولون إن عظم معصمها قد كُسر.”
“معصمها؟”
عندما سمعت جيوفينيتا أن معصمها قد كُسر، خطر في بالها أمر واحد فقط:
“ماذا لو لم تتمكن إيرينيا من إرسال الرسائل؟”
“أي معصم؟”
سألت جيوفينيتا، فأجابت مارتا على الفور:
“لحسن الحظ أنه المعصم الأيسر.”
قيل إن التعافي التام يحتاج إلى عدة أشهر حتى يلتئم العظم.
“نعم، هذا فعلاً جيد.”
شعرت بالارتياح عندما علمت أن يدها اليمنى بخير.
فما دام يمكنها استخدام يدها اليمنى للكتابة، فلا بأس.
لكن تعبير وجه مارتا كان لا يزال يبدو قلقًا.
“لكن، يبدو أن حالة الآنسة الصغيرة سيئة للغاية.”
“لقد مر وقت طويل منذ أن سقطت، فلماذا لا تزال على هذه الحالة المتدهورة؟”
نظرت مارتا حولها بحذر، ثم أخبرت جيوفينيتا أن إيرينيا قد أجهضت طفلها.
أظهرت جيوفينيتا ملامح الدهشة لكنها لم تقل شيئًا.
ثم أضافت مارتا أن إيرينيا قد أصيبت بمرض في النفس نتيجة لذلك،
وأنها تموت ببطء ويأس،
عندها فقط تمتمت جيوفينيتا بهدوء:
“لقد أصبحت حالتها مؤسفة.”
رغم أن أحدًا في القصر الإمبراطوري لم يهتم بأن إيرينيا تحتضر،
فإنه من المفارقات أن جيوفينيتا، الأخت غير الشقيقة التي كانت في عداوة معها،
هي الوحيدة التي أظهرت تأثرًا بذلك.
“مارتا، اذهبي إلى قصر الزمرد، وأحضري طعامًا مغذيًا لإيرينيا.”
“عذرًا؟”
شكّت مارتا في أنها سمعت خطأ، لكنها أومأت بسرعة خوفًا من أن تُوبَّخ.
وشعرت في نفسها بنوع من الإعجاب، مفكرة أن السيدة رغم كل شيء، تهتم بأختها.
“يا آنستي، أنتِ حقًا كريمة.”
“بالطبع، هكذا أنا.”
ابتسمت جيوفينيتا برضًا، يا لها من تصرف ناضج!
امتلأ قلبها بالفخر، ولم تستطع كبح ابتسامتها.
نعم، هذا هو الفرق بين إيرينيا وجيوفينيتا.
أن تكون في الأعلى دومًا وتعتني بالغير بتسامح،
هذا هو الدور الذي خُلقت له جيوفينيتا،
أما أن تزحف في القاع، فهذا هو قدر إيرينيا الحقير.
لذا، كان هذا طبيعيًا.
رغم الشائعات عن أنها على وشك الموت،
ورغم وصول أنباء حالتها الحرجة إلى مسامع جيوفينيتا،
كانت إيرينيا لا تزال ترسل الرسائل إلى سيزار بلا توقف،
وكأنها تحاول إثبات أنها لم تمت بعد.
وطبعًا، كانت جميع تلك الرسائل تصل إلى جيوفينيتا،
وكانت كلما شعرت ببقايا من الشفقة في قلبها تجاه إيرينيا،
تفتح إحدى تلك الرسائل الموجهة إلى الأمير سيزار وتقرأها.
“انظري إلى هذا.”
لكن الرسائل الأخيرة لم تكن كالسابق.
كانت سيئة للغاية لدرجة تدعو للضحك.
كان واضحًا منها إلى أي مدى انهار قلب إيرينيا.
في البداية، كانت تتظاهر بأنها بخير،
أما الآن، فقد كان كل سطر في رسائلها يحمل صرخة دامية.
فما كان من جيوفينيتا إلا أن قبضت على الرسالة فجأة،
وطوتها بعنف، ثم حشرتها في جيبها.
“لا يمكن أن أرسل شيئًا بهذا الشؤم والبؤس إلى الأمير سيزار في ساحة المعركة، أليس كذلك؟”
ومع هذا التبرير، شعرت بالراحة التامة.
ففكرت أن كل ما تفعله إنما هو من أجل الأمير سيزار،
وذلك منحها شجاعة كبيرة.
أحيانًا، كانت الرسائل التي تُرسل من قصر الزمرد إلى الجبهة تنقطع فجأة.
وفي تلك الأيام، كانت تشعر برعب داخلي:
ماذا لو ماتت حقًا؟
ماذا لو امتلكت نوايا سيئة؟
حتى إنها فكرت أن تذهب بنفسها للاطمئنان.
لكن، لسبب ما، لم تستطع أن تخطو تلك الخطوة بسهولة.
كان وجه إيرينيا الذي رأته آخر مرة لا يفارق ذهنها،
لم تستطع احتمال نظرات عينيها الخضراء،
ولا حتى آثار الدماء المرعبة.
لم تستطع جيوفينيتا أن تواجه تلك الأشياء وجهاً لوجه.
لذا، كانت تتجول ليلًا حول قصر الزمرد،
وتتفقد غرفة نوم إيرينيا المظلمة التي انطفأ نورها.
قصر الزمرد كان مظلمًا وصامتًا، كما لو لم يكن فيه خادم واحد يحرسه.
هزّت جيوفينيتا رأسها بعنف.
“لماذا أشعر بهذه المشاعر؟”
في كل مرة تواجه هذا الموقف،
كانت الأحاسيس التي دفنتها عميقًا في قلبها تطفو على السطح.
تزعجها وتؤلمها، لكنها لا تعرف مكنونها.
شيء مظلم، لزج، يحاصرها دون أن تستطيع طرده.
كأن كل شيء حولها مغطى ببقع سوداء لزجة.
كان هناك شيء خاطئ،
لكن لم يأتِ أحد ليصحح الوضع.
أحيانًا، كانت تظن أن كل شيء على ما يرام،
ثم فجأة، ينتابها شعور بأنها ستسقط في هاوية لا قرار لها.
في تلك اللحظات، كانت تلجأ إلى ماتياس باكية.
كانت تبوح له بكل قلقها وخوفها.
“…ماتي، ماذا أفعل؟”
“هشش، جونيت، ما الأمر؟”
كلما ذهبت إليه،
كان ماتياس يعاملها بلطف لا مثيل له، ويواسيها بإخلاص.
وبمرور الوقت، أصبحت تبكي أمامه كثيرًا.
كان ما يفعلانه سويًا في الخفاء، ذلك العمل السري والمليء بالرغبة،
يُظهر جيوفينيتا على حقيقتها تمامًا،
وفي الوقت نفسه، يوهمها بأن كل شيء يسير بشكل جيد.
كان يمنحها شعورًا بأن كل شيء تحت سيطرتها.
وعندما تكون معه، كانت تتلاشى مشاعر الذنب في داخلها.
لذلك، وجدت فيه راحة كبيرة ولم تستطع الاستغناء عنه.
في أحد الأيام، جاء في رد سيزار أن خط الرسائل تغير،
وسأل بطريقة غير مباشرة عما إذا كان هناك أمر ما.
بالطبع، ذلك لأن خط يد إيرينيا ومحتوى الرسائل قد تدهور بشدة،
حتى لم يعد هناك نموذج يمكن الرجوع إليه.
لكن، لمجرد قراءة تلك الجملة، أصيبت جيوفينيتا بالخوف الشديد.
“ماذا أفعل؟ هل يشك بي الأمير سيزار؟”
ولم يكن لديها ملاذ تلجأ إليه سوى واحد: ماتياس،
مساعدها الوحيد الموثوق.
فأعطاها إجابة واضحة وسريعة.
“يمكنك إرسال خصلة من شعر إيرينيا معه.”
“بشعرها؟”
في الآونة الأخيرة، كان من الرائج في العاصمة
أن يتبادل العشاق مشابك زينة تحتوي على شعر بعضهم،
فكانت فكرة مناسبة.
لذا، أمرت مارتا أن تقطع خصلة من شعر إيرينيا.
وسرعان ما عادت مارتا بشعرها الأشقر الجميل،
لكن وجهها كان يحمل شيئًا من القلق.
“آنستي… يبدو أن الآنسة إيرينيا…”
“ماذا بها؟ ماذا حدث؟”
قالت مارتا إنها ذهبت بنفسها لتقص شعرها بالمقص،
لكن إيرينيا لم تبدي أي مقاومة أو حتى رد فعل.
“حقًا؟”
حاولت جيوفينيتا التظاهر بالهدوء مجددًا،
لكن لم تستطع إخفاء العرق البارد الذي بلل جبهتها وظهرها.
وفي تلك الليلة، وجدت نفسها تبكي مجددًا في غرفة ماتياس.
بينما كانا ينسجان الزينة من خصلة الشعر والزهور،
استمر ماتياس في طمأنتها:
“على أية حال، فإن لقب زوجة الأمير سيكون من نصيبك في النهاية، فما المشكلة؟”
“أ-أجل، أليس كذلك؟”
كان ماتياس يقول دومًا ما تود سماعه،
ولذا، حتى عندما اجتاحها القلق بأن هذه السعادة لن تدوم،
لم تستطع إنهاء علاقتها به.
لأن ذلك قد يجلب كارثة أكبر.
********
وصلت دوقة فلوريس إلى قصر القمر حيث تقيم الإمبراطورة،
وهي متوترة بشدة.
في الآونة الأخيرة، أصبحت مزاج الإمبراطورة معكرًا وعصبيًا لدرجة
أنه لا يمكن توقع متى قد تصب غضبها على سيليستينا.
“هاه…”
تنهدت بعمق.
كان السير إلى قصر القمر يشعرها بالثقل.
قلب الدوقة كان مليئًا بالغيوم والظلمة منذ البداية.
كان السبب وراء ذلك هو طلب الإمبراطورة المتكرر.
كالعادة، تعاملت سيليستينا مع الأمر بسرعة.
فكانت تظن أن الأمور ستهدأ لفترة.
لكن يبدو أنها كانت مخطئة.
“الأمر يتسارع…”
لم يمضِ حتى نصف شهر منذ المرة الأخيرة،
والآن يتم استدعاؤها مجددًا،
مما يدل على أن هناك مشكلة فعلية.
حتى معدل التكرار والطلب بدأ يتزايد تدريجيًا،
ولم يحدث مثل هذا من قبل طيلة فترة خدمتها للإمبراطورة.
حينها، خرجت إحدى وصيفات قصر القمر مسرعة لاستقبال الدوقة.
“صاحبة الجلالة تطلبكِ.”
ومن تعبير وجه الوصيفة الكئيب،
أدركت سيليستينا كل ما يجري.
“اذهبي أنتِ الآن.”
“نعم.”
تراجعت الوصيفة بخطى حذرة ووجه متوتر.
لقد مر أكثر من عشر سنوات على انخراط سيليستينا في هذا الأمر،
وكان بديهتها تخبرها:
أن هناك أمرًا غير طبيعي يحدث بالفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 174"