فصل 173
***********
ارتعدت جيوفينيتا خوفًا وابتعدت على عجل عن ماتياس، رافضةً إياه.
كان في عينيها الزرقاوين أثرٌ من الارتباك.
وحين لاحظ ماتياس ذلك، طبع قبلة بطيئة على خدها.
“هذ، هذا الأمر خاطئ.”
عندها، بدأ ماتياس يهدئها بصوت ناعم ولطيف:
“شش، لا تقلقي على الإطلاق.”
كان صوته ناعماً إلى درجة بدا وكأنه يقطر عسلاً من شدة حلاوته.
“جونيه، ألستِ تحبين ولي العهد الأول؟”
“ن، نعم.”
“وذلك الأمير يحب زوجته وليّة العهد.”
“ذلك…”
اخترقت كلمات ماتياس القاسية قلب جيوفينيتا كأنها خنجر.
فامتلأت عيناها بالدموع.
“إذاً، أليس ذلك مؤسفًا للغاية؟”
“م، ماذا تقصد…؟”
اقترب ماتياس من جيوفينيتا وعانق كتفيها بلطف.
“الرجال عادةً ما يشعرون بالعبء من النساء عديمات الخبرة. ولا أعتقد أن ولي العهد الأول سيكون استثناءً.”
صدمت جيوفينيتا وسألت بقلق:
“هل هذا صحيح؟”
“أنا أفهم أمور الرجال والنساء أكثر من أي شخص. وبما أن أخي قد تزوج بوليّة العهد، فقد لا يشعر بأي انجذاب نحو فتاة مثلك لم تختبر شيئاً بعد.”
“أنا بلا جاذبية؟”
لم تكن جيوفينيتا تملك خبرة في الحب، لذا لم تستطع تمييز ما إن كان كلام ماتياس صحيحًا أم لا.
“أ، أنا بلا جاذبية؟”
“غالباً، الرجل الذي سبق له أن احتضن امرأة يفضّل من تقوده بمهارة في الفراش.”
كانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها شيئاً كهذا.
فقد كانت والدتها دائماً تقول إن عفّة المرأة أهم شيء، لكن ماتياس قال عكس ذلك.
ومع ذلك، لم يسبق له أن كذب عليها من قبل.
وعلى أي حال، كان هذا مجالاً مجهولاً بالنسبة لها، لذا لم يكن أمامها سوى أن تصدقه.
بل إن ماتياس أضاف:
“عندما يعود ولي العهد الأول، يجب أن تصبحي أنتِ زوجته، أليس كذلك؟”
“أ، أنا؟ زوجة ولي العهد؟”
إغواء جيوفينيتا المترددة كان أسهل من شرب الماء.
فماتياس كان يقول لها دومًا ما تحب سماعه.
“بالطبع، هل من المنطقي أن تصبح إيرينيا، تلك اللقيطة، زوجة ولي العهد؟”
احمرّ وجه جيوفينيتا بتأثر من كلماته العذبة.
“زوجة ولي العهد…”
“نعم، هذا المقام هو لكِ.”
“هل هذا… حقًا؟”
همس ماتياس بصوت حاسم في أذن جيوفينيتا التي لا تزال مترددة:
“لذا، لا تقلقي.”
“آه…”
وبتلك الكلمات، أغمضت جيوفينيتا عينيها بهدوء.
امتدت يد ماتياس تتحسس ظهرها
“سأعتني بكل شيء.”
كل كلمة كان ينطق بها ماتياس بدت حلوة كالعسل، حلوة لدرجة أن الفم ينقبض منها.
لكن جيوفينيتا شعرت بالطمأنينة من تصرفاته.
فذلك القلب القلق بعد الجريمة المروّعة التي حدثت، وجد أخيراً بعض السكون.
كانت تخشى أن شيئًا ما كان خاطئًا، لكن هذا الشعور بالاضطراب لم يعد يخصها وحدها.
فالرجل الذي أمامها كان يلهث، يحمل في قلبه شهوة.
لقد أعطاها ما يكفي من المبررات لتغفر لنفسها.
وأعاد مراراً وتكراراً القول إن كل شيء سيكون كما تشتهي.
نعم، لم تكن جيوفينيتا تشعر بأي تردد في تلك اللحظة.
كل شيء كان يسير على ما يرام، فلم يكن هناك خطأ على الإطلاق.
*************
حين فتحت عينيّ، اجتاحتني دوخة شديدة جعلتني أشعر بالغثيان، وحين أغمضتهما مجددًا، تفجّرت الحمى في جسدي وصرت أقول هذيانًا.
كانت الحرارة تتصاعد وكأن فرنًا ضخمًا قد اشتعل بداخلي، تغلي وتغلي بلا توقف.
كانت ذاكرتي مثقوبة، ومشوشة، وصار من الصعب التمييز بين الحلم والواقع.
كل ما أتذكره هو أنني سقطت نتيجة صدمة هائلة، لكن ما الذي حدث لي بالضبط؟ لم أكن أعرف.
أو ربما كنت أرفض ببساطة تصديق الواقع المؤلم.
كنت أفيق وأغيب مراراً، ومع كل مرة تتغير المشاهد أمامي.
نظرات الخادمات المليئة بالهمس والجدية.
ثم عتمة جديدة.
ثم ضوء ساطع يعمي العيون.
كنت أشعر بدوار شديد، ونعاسٍ لا يُقاوم، يجبرني على إغماض عينيّ مرارًا.
لكن كان عليّ أن أتماسك.
وعندما شعرت ببرودة المعدن على جلدي، فتحت عينيّ فرأيت طبيب البلاط الإمبراطوري.
هذا ليس جيدًا.
حاولت أن أهز رأسي، لكنني لم أستطع حتى تحريك إصبعي.
كأنني مسجاة تحت صخرة هائلة، ضيق في الصدر، ولم أكن أتنفس بشكل طبيعي.
“آه، آه…”
كنت أهذي من شدة الحمى، وحاولت إصدار صوت، لكن حتى ذلك لم يكن ممكنًا.
صوت أنين امرأة تتألم كان يتردد في أذني، صوت عنيف يشبه صراخ الوحوش، حتى أنني لم أعد أميّز إن كان صوتي أم صوت شخص آخر.
“آه، أغغ…”
الشيء الوحيد الذي كنت أستطيع التركيز عليه هو جسدي.
حاولت جاهدةً أن أحرّك نفسي، أن ألتف، لكن دون جدوى.
كلما حاولت، ازداد الشعور وكأنني وقعت في فخ يزداد إحكاماً كلما تحركت.
وتركز الألم في يدي اليسرى، كأن شوكاً حاداً انغرس في الداخل.
جفّ ريقي تمامًا.
لساني التصق بسقف فمي، وحين حاولت ابتلاع ريقي لترطيب حلقي، شعرت بحرقة حادة كأن حلقي احترق.
بدأت أفقد وعيي، أو بالأحرى، كنت أقاوم النوم الثقيل.
حاولت جاهدة أن أفتح عينيّ لأرى بوضوح.
حينها، رأيت كونستانتشا.
مددت يدي نحوها، لكن يدي بالكاد تحركت.
ثم لمست يدها خدي، وسرعان ما شعرت برطوبة تشبه المطر المنعش تبلّ شفتيّ.
إحساس المعدن البارد وقطرة ماء حلوة.
كان ذلك هو الماء الذي كنت أبحث عنه طويلاً.
مددت لساني ألهث شرباً، لكن نصف الماء سقط على ذقني دون أن أتمكن من بلعه.
عندما ابتلت ملابسي الأمامية، ارتعش جسدي من شدة الحرارة والبرودة المفاجئة.
لعقت قطرات الماء على شفتي بصعوبة، وتمتمت بكلمات مبهمة.
لم أكن متأكدة إن كنت أتحدث بلغة البشر حقاً، لكن كان عليّ أن أسأل.
كان هناك شيء أريد التأكد منه.
“…الط، الطفل…”
ما الذي حلّ به؟ لم أتمكن من إكمال السؤال.
مسحت كونستانتشا رأسي ببطء وبلعت دموعها.
في تلك اللحظة، شعرت بشؤم.
“لا تفكري في مثل هذه الأمور الآن، عليكِ أن تتعافي أولًا.”
ثم أرطبت شفتي بالماء مجددًا، وأخبرتني بإيجاز بما حدث.
قالت إن عظمة معصمي قد كُسرت، لكنها كانت اليسرى، ولحسن الحظ تم إسعافها بسرعة، فلن تترك ضررًا دائمًا.
أطلقت صوت سعال مكبوت، كأنني أعصر نفسي لأخرج الكلمات.
وسألت مرة أخرى، برجاء:
“…والط، طفل…”
لم تقل كونستانتشا شيئاً.
اكتفت فقط بمداعبة جبيني ببطء.
لكن من خلال ذلك، وصلني المعنى كاملاً.
ابتلعت دموعي وأغمضت عيني.
بدأ صدغي ينبضان بالألم، كأن شخصاً ما يسحق جمجمتي.
تمنيت لو أنني لا أستفيق مجددًا.
لكنه لم يكن بالأمر السهل.
بدأت الحرارة تتصاعد مجددًا في محيط عينيّ.
لا أعرف ماذا أفعل.
تمنيت فقط أن أختفي.
أردت أن أرتمي في هاوية لا نهاية لها تؤدي إلى الأبد.
عقلي بدأ يضعف، وأغلقت عيني ببطء.
ارتفع بصري إلى الأعلى حتى تحوّل المشهد إلى بياض، وبدت أصوات كونستانتشا المستعجلة كأنها صدى بعيد.
أنا آسفة، آسفة جدًا.
حتى وسط المأساة، كنت أطلب الغفران بلا انقطاع.
لم أكن أعرف حتى لمن أعتذر.
هل للطفل الذي لم يُولد ولم يرَ نور الحياة؟ أم لسيزار الذي تخلّى عني بقسوة؟
لكن لم يكن الأمر طبيعيًا.
لم أكن أشعر بوجود الطفل أصلًا.
كل ما حدث هو أنني تأكدت من وجوده، ولم أشعر به يومًا.
فلماذا إذًا كنت أغرق في الحزن؟ لم يكن ذلك منطقيًا.
شعرت وكأن ثقبًا قد انفتح في قلبي، بدأ صغيرًا جدًا، ثم أخذ يتفتّت ويكبر حتى تحوّل إلى حفرة هائلة ابتلعت كل شيء.
حين تهبّ نسمة باردة مزرقة، كانت القشعريرة تسري في صدري، تبرد حتى تخدش أعماقي وتترك ندوبًا دامية على قلبي.
لم أعد أتحمّل هذا الشعور بالفقد.
لقد كان ثقيلًا وقاتلاً، ولا يبدو أنه سيتلاشى بسهولة.
بل لا يجب له أن يتلاشى.
أردت أن أصرخ.
لكن شيئًا ما كان يسدّ حلقي، فلم أستطع إصدار صوت.
ربما نسيت حتى كيف أصرخ.
كل ما استطعت فعله هو اللهاث بصعوبة والبكاء.
ومع مرور الوقت، صار حتى ذلك أصعب.
كأنني نسيت كيف أبكي، كيف أتكلم، كيف أعيش.
كنت منهكة وعاجزة.
الريح التي تهزّني كانت تعصف بلا رحمة، ولم يكن لي مهرب من هذا التآكل العنيف.
سقطت في الظلام دون أن أمسح الدموع التي سالت على خدي.
وإن استطعت، لتمنيت أن أنام إلى الأبد.
التعليقات لهذا الفصل " 173"