عندما سمعت كلمة “الطبيب المرافق”، فزعتُ وصحتُ على الفور.
كان الأمر خطيرًا جدًا، إذ لو ظهر جسدي بشكل خاطئ واكتُشف أنني حامل، فإن العواقب ستكون وخيمة.
“ل… لا داعي لذلك!”
صرختُ عاليًا وأنا أستدير مبتعدة.
لكن المكان كان قد امتلأ بالفعل بالمتفرجين الذين جذبهم هذا الصخب.
يمكنني أن أتخيل كم بدا موقفي مثيرًا للسخرية في أعينهم، وهو ما جعلني أشعر بمرارة شديدة.
“ما الذي حدث لتصرخ بذلك الشكل؟”
“الأمير الثاني تصرّف بلطف، لكن زوجته مغرورة للغاية.”
“ألم تروا كيف عاملت أختها وكأنها خادمة؟”
“إنها لا تستطيع حتى الاعتناء بخادمتها…!”
كانت أصوات الهمس والتذمر توجّه لي الانتقادات بشكل صريح.
لم يكن هذا يهمني كثيرًا، لكن حين بدأت الشائعات تطال دلفينا، شعرت بقلبي يتألم بشدة وبؤس شديد.
ظلّ همس الناس يدوي في أذني، فأخذت أبحث عن مكان يمكنني البقاء فيه وحيدة.
واستغرق الأمر بعض الوقت حتى أتمكن من لقاء لوسيا من جديد بعد تلك الحادثة.
كانت لوسيا تشعر بذنب كبير تجاهي.
“أنا آسفة… لو أنني وصلتُ أسرع قليلًا، لما حدث كل هذا.”
هززت رأسي بسرعة.
“لا، بفضلكِ أنقذنا حياة دلفينا.”
قالت لوسيا:
“والدتي تواصلت معي سرًّا وأخبرتني بكل التفاصيل، وخلال انتقالي إلى القصر الإمبراطوري، ساعدني كاهنان في الأمر.”
رغم أن لوسيا أصبحت أكثر نضجًا مما كانت عليه، إلا أنها ما زالت فتاة صغيرة.
لم تكن تملك القدرة الكافية لتولي محاكمة بهذه الحساسية، لكنها كانت ذكية، وحققت نتائج رائعة، وهو ما زاد من امتناني لها.
“لا تقلقي على دلفينا. سأعتني بها بنفسي.”
“لا، يكفيني أنك أنقذتِ حياتها.”
كان دير سيكليكا يتبع مباشرة للفاتيكان، ويقوم على مبدأ الصمت والتأمل.
هذا يعني أن دلفينا ستكون في أمان طالما أن لوسيا لها نفوذ هناك.
ولكن حتى وإن لم تكن هناك مخاطر حقيقية، فإن دلفينا كانت تُعتبر مجرمة وتم نفيها إلى الدير، ما جعل التواصل معها أمرًا صعبًا جدًا.
“ومع ذلك، أنا ممتنة حقًا…”
رغم أن الوضع كان يبعث على اليأس، فإن مجرد نجاتها كان أمرًا يستحق الحمد والشكر، حتى وإن أدى ذلك إلى عزلي التام.
ربما في تلك اللحظة، كان الشعور بالارتياح لأن دلفينا بخير، أقوى من خوفي من البقاء وحيدة.
أو ربما لم أكن مستعدة للاعتراف بالحقيقة: أنني الآن أصبحت فعلًا وحيدة في هذا القصر الإمبراطوري الشاسع.
“لا، هذا غير صحيح…”
هززت رأسي، ووضعت يدي بلطف على بطني.
لم أكن وحيدة.
كان لدي طفل سيزار.
هذا الطفل الذي يجب أن أحميه مهما حدث.
حتى لو كانت الأيام القادمة ستكون بمثابة عبور حفاة وسط نيران الجحيم، كان عليّ الصمود.
ومع ذلك، كان شعور التشاؤم يلاحقني كحشائش لزجة لا تنفك تلتصق بثيابي، كشوكة مزعجة عند أطراف أظافري، لا تفارقني أبدًا.
لم أعد أرى ما حولي بوضوح.
كنت أشعر أنني أعيش في هوّة عميقة من اليأس، أتدحرج فيها يومًا بعد يوم.
كان غياب دلفينا مؤلمًا للغاية.
وربما كانت هي من ساعدتني على تحمّل كل ما مررت به حتى الآن.
والآن، وقد فقدت آخر دعم لي، لم يكن أمامي سوى الاستمرار في هذا الترحال المجهول، كطفوّة تتلاعب بها الأمواج في نهرٍ عكر.
شعرت كأنني أختنق.
أردت التنفس، لكن لم يكن ممكنًا، ففتحت فمي مرارًا، لكن كل ما خرج منه كان أنينًا مكتومًا.
كل شيء بدا مؤلمًا وبائسًا للغاية.
العزاء الوحيد لي كان زيارات كونستانشا، التي كانت تفحصني طبيًا أحيانًا.
كنت أعدّ الأيام إلى أن تأتي مجددًا.
وبالنظر إلى وضعي، أرسلت الإمبراطورة من خلال الكونتيسة إلفيرا خادمة جديدة لتكون برفقتي.
اسمها سانتشا، وكانت قليلة الكلام، باردة في تصرفاتها، ولا تقترب مني بسهولة، ولهذا لم أتمكن من معرفة أصولها أو خلفيتها.
لكنني لم أعد أهتم بذلك.
ربما كانت سانتشا واحدة ممن زرعتهم الإمبراطورة لمراقبتي.
لذا، كان من الأفضل الحفاظ على المسافة بيننا.
بطبيعة الحال، أصبحت حذرة، لا أسمح لأحد بالاقتراب مني، ولا أخرج من غرفتي.
ورغم كل ذلك، لم تفارقني مشاعر القلق.
كل ليلة، أعاني من قشعريرة الوحدة حتى أنام.
وإذا استيقظت، يكون من أثر كابوس، أبحث حولي باكية، ولا أجد إلا سريرًا فارغًا.
في تلك اللحظات، كنت أمسح دموعي بأكمام ثوبي، وأجلس إلى مكتبي.
الملجأ الوحيد الذي كان يمنحني القوة للاستمرار، كان كتابة الرسائل إلى سيزار.
لم يكن هو فقط من أكتب له، بل كل من أحبني أو تذكّرني.
كنت أكتب لهم كل ليلة، تلك الرسائل كانت تهدئ نيران قلبي المشتعلة.
ربما كانت تلك الكتابات هي وسيلتي الوحيدة للتواصل مع العالم.
في بعض الليالي، كنت أكتب بحرقة، وأنا أذرف الدموع، أروي ما جرى: أنني أحمل طفله، وأنني خُدعت بمؤامرات الإمبراطورة، وفقدت دلفينا، وأنني الآن وحيدة في هذا القصر الواسع.
لكن في صباح اليوم التالي، يتملكني خجل شديد، فأسرع إلى تمزيق الرسالة وإلقائها في المدفأة.
كيف لي أن أرسل رسالة كهذه إلى سيزار، وهو يقاتل في الصفوف الأمامية مخاطراً بحياته لأجلي؟ في الوقت الذي يجب أن أكتفي بدعمه، لا يمكنني إزعاجه بمشاعري التافهة.
وفي أيام أخرى، كنت أكتب بكل طاقتي:
“أنا بخير هنا، ولا أنتظر سوى يوم عودتك. أزهار حمراء تفتحت مؤخرًا في حديقة قصر الزمرد، تذكّرني بلون عينيك، فاشتقت إليك كثيرًا…”
كتبت بكل ما في قلبي، وكنت أقاوم اليوم عبر التعلق بالأمل، أكتب رسالة أخرى أُرسلها، ولا أدري كم عدد المرات التي فعلت ذلك.
لكن الوقت كان يمر، وسيزار لا يرد.
ومع ذلك، وصلت أخبار عن المعركة: كانت شرسة جدًا.
والمفارقة أن تلك الأخبار، رغم قسوتها، منحتني بعض السكينة. لأني ظننت أن السبب في عدم رده هو أنه في موقف حرج.
“سيزار يخوض الآن معركة أصعب بكثير…”
وبينما كنت أتحرق شوقًا لجواب، سألت سانتشا إن وصلت رسالة، لكنها هزت رأسها نفيًا فقط.
وكانت كونستانشا دائمًا قلقة على صحتي، تصف لي أدوية، لكن الطعام لم يكن يستقر في معدتي.
كلما حاولت أن آكل، تقيأت.
ومع ذلك، في بعض الأيام، شعرت بجوع لا يُحتمل، كما لو أن وحشًا ينهش أحشائي.
في تلك اللحظات، كنت أذهب إلى المطبخ تحت الأرض، مرتدية ملابس خفيفة، ألتهم الخبز اليابس، اللحم المقدد، والفواكه المجففة.
كنت أتحاشى البهارات التي قد تحتوي على مكونات منع الحمل، وهكذا أقنعت نفسي أنني آمنة.
وفي كل مرة، كنت أصادف خادمات المطبخ ينظرن إليّ بعيون متوسعة كالارانب، لكني لم أعد أبالي.
في الأحلام، كنت ألتقي بسيزار الذي أفتقده بشدة.
لكن دائمًا ما تنتهي أحلامي بمشهد موته.
أراه غارقًا في الدماء، مغمض العينين…
دوّى صوت رعد قوي، ففتحت عينيّ.
كان الجو صاخبًا، والمطر يهطل بغزارة.
تفوح رائحة الأرض المبتلة في الأرجاء.
“هاه… هاه…”
تنفستُ بصعوبة.
عندها فقط أدركت أن الحلم الذي رأيته كان نبوءة جديدة، ستغير مصير سيزار.
مسحت دموعي بأكمامي ونهضت متوجهة إلى المكتب.
“يجب أن أكتب رسالة…”
كان ذلك أمرًا محزنًا ومثيرًا للسخرية في آن.
رأيت سيزار في المنام مجددًا.
لا أعلم إن كان يجب أن أفرح لأنني رأيته، أم أنني أجزع من محتوى الحلم.
لكنني كنت أدعو دومًا لسلامته.
وكنت أؤمن أن هذه المعاناة هي السبيل الوحيد لحمايته.
كتبت رسالتي مجددًا، مبللة بالدموع.
دوى الرعد مرة أخرى.
غطّيت أذنيّ بيديّ وغنيت التهويدة التي اعتدنا أن نغنيها معًا.
لكنني نسيت كلماتها، وانتهى الأمر بهمس متقطع ونشيج باهت.
شعرت بالبرد يتسلل إلى كتفيّ، ففركتهما بقوة، لكن الدفء لم يعد إليّ.
تذكرت الليالي التي كنا نتعانق فيها ونحن نغني، ندفئ بعضنا البعض.
كنت أؤمن أن تلك اللحظات ستكون حياتي الأبدية، لكنني كنت مخطئة.
توجهت إلى السرير، ودسست نفسي في الشراشف الباردة، أمسكت قطعة قماش قد تكون ما تزال تحتفظ برائحته الخفيفة، وبكيت حتى طلوع الفجر.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات