الفصل 162
**************
بالكاد بدأت دموعي تنهمر، ولم تُبدِ أي نية للتوقف.
“مولاتي…”
جلست دِلفينا بجانبي ومسحت دموعي.
ارتميت في حضنها، وانفجرت بالبكاء.
“بهذا الشكل، ستؤذين جسدك.”
“أمم…”
منذ رحيل سيزار، لم أستطع تقبّل هذا الواقع، فكررت الانهيار باكيةً مرارًا وتكرارًا.
حتى الآن، تمامًا كما في ذلك الوقت، تغمرني الدموع ولا تتوقف.
كان طعم فمي مرًّا وكأنني مضغت شيئًا سامًّا، وأحشائي ملتوية كجذع شجرة يابسة، لدرجة أنني كنت أتقيأ فور ابتلاع أي شيء، حتى القليل.
وفي النهاية، لم أتمكن حتى من بلع الحساء الخفيف، فتم إبعاد الطبق عني.
لم يكن من الغريب أن تقلق دِلفينا عليّ، ولكن اهتمامي في تلك اللحظة كان منصبًا على شيء واحد فقط.
“يا ترى… أين يكون سيزار الآن؟”
“في هذا الوقت، لا بد أنه قد تجاوز حدود أسيتيريا وتخطى البوابة الثالثة.”
أخبرتني ديلفينا بما سمعته منذ أيام قليلة.
جدار الدفاع الخاص بالإمبراطورية يتكوّن من سبع بوابات، وتجاوز جميع تلك البوابات يعني الخروج من أراضي الإمبراطورية.
ومع مرور سيزار بكل بوابة، كانت روحي تتداعى تدريجيًا حتى سقطت في قاعٍ سحيق.
تساقطت الشظايا الحادة، تمزق الظلام من حولي، وأدركت أن هذا الألم كان بسبب ذلك.
عندها، شعرت بمنقار صغير ينقر راحة يدي بلطف، ومعه ضوء ناعم يشع.
“آبر؟ كيف وصلت إلى هنا…؟”
ظهر آبر، الذي تحوّل إلى كتكوت ذهبي، بجناحيه الصغيرين، وكأنه يواسي حزني.
“ألم تذهب مع سيزار؟”
هزّ آبر رأسه نافيًا.
في تلك اللحظة، أحسست بألم حاد في صدري، حتى اضطررت إلى الإمساك بملابسي.
“هل طلب منك سيزار البقاء إلى جانبي؟”
أومأ آبر برأسه بصمت، ثم عض بلطف ظاهر يدي بمنقاره الصغير.
“آه…”
تنهدت بضحكة قصيرة، وانهمرت دموع كانت محبوسة في عيني.
في قلبي، الذي ظننت أنه تحطم بالكامل، بدأت تتدفق شرارة صغيرة من الدفء.
شعرت بحرارة تسري في جسدي البارد، وكأن قلبي المتوقف بدأ ينبض مجددًا.
كان سيزار، الذي ظننته رحل ببرود، قد ترك روحه المقدسة خلفه من أجلي.
وحين أدركت قصده، شعرت وكأن ومضة من النور سطعت داخلي.
كان ضوءًا باهرًا مؤلمًا، حتى أنني لم أتمكن من فتح عينيّ.
انحنيت أمام الكتكوت الصغير، وانهمرت دموعي مجددًا.
لكن سرعان ما استعادت روحي رشدها.
لم يكن الوقت مناسبًا للبكاء وإضاعة الوقت بلا جدوى.
كان عليّ أن أتماسك.
لذا، تحدثت إلى الكتكوت بحزم.
“آبر، اذهب إلى سيزار.”
مال آبر برأسه، وسألني بعينيه:
“هل ستكونين بخير؟”
مسحت دموعي بظهر يدي وابتسمت.
“نعم، المكان الذي يجب أن تكون فيه آبر الآن، هو بجانب سيزار، لا هنا.”
بلا شك، تركني سيزار بحماية آبر لأنه كان قلقًا عليّ.
وكنت ممتنة لذلك من أعماق قلبي.
تلك المشاعر وحدها منحتني الشجاعة.
استطعت النهوض من تحت أنقاض الحزن والألم.
في الحقيقة، التهديدات التي كانت تحيط بي لم تكن بالأمر الكبير.
فقد كنت محاطة بالحماية من جميع الجهات، وفي أكثر الأماكن أمانًا في الإمبراطورية، القصر الإمبراطوري.
من كان بحاجة لآبر حقًا، ومن يواجه خطرًا حقيقيًا، هو سيزار، الذي توجه إلى ساحة المعركة.
“أرجوك، آبر. اذهب وساعد سيزار.”
عند توسّلي، رمش آبر الذهبي بضع مرات، ثم نقر يدَي مرة أخيرة بمنقاره، وعاد إلى هيئته الأصلية.
تحوّل إلى شكله الضخم والمهيب، أبراكساس، ونظر إليّ للحظة وكأنه يودعني، ثم اختفى وسط هالة ذهبية.
“… شكرًا، آبر.”
نظرت إلى المكان الذي كان فيه، وابتسمت بخفة.
وسط أنقاض قلبي المتهاوي، انبثق ضوء أمل صغير.
لقد كان هذا كافيًا.
منذ رحيل سيزار، كانت أفكاري متجمدة، لكن الآن بدأت تعود إلى مسارها الصحيح.
حتى تلك اللحظة، كنت مسجونة في دوامة اليأس ولم أرَ شيئًا بوضوح.
“صحيح، لا يزال هناك ما يمكنني فعله…”
لماذا نسيت ذلك؟ كان هناك أمر يمكنني فعله.
أفكاري التي كانت متعثرة كأنها آلة صدئة، بدأت تدور بسلاسة وكأنها تم تزييتها.
نعم، هناك شيء واحد فقط أستطيع فعله.
إن كنت قد تنبأت بموت سيزار بفضل “بصيرة المصير”، فربما يمكنني استخدام هذه القوة لإنقاذه بدلاً من ذلك.
“يمكن تغيير المصير.”
ريشار قال لي إن المستقبل متغير.
ولم يكن ذلك فقط، بل لقد استخدمت هذه القدرة بالفعل أكثر من مرة لتجاوز الأزمات.
“سأحميه.”
ربما ظهرت لي هذه القدرة، “بصيرة المصير”، لأجل هذا الغرض بالضبط.
كان أمرًا لا يستطيع أحد غيري القيام به.
التنبؤ بخطر سيزار مسبقًا، وتحذيره منه.
كان هذا هو واجبي.
قدرٌ تجاوزَ المصير نفسه.
“حتماً، سأحمي سيزار.”
همست بذلك وكأني أعاهد نفسي.
حتى وإن رحل دون أن يقول كلمة واحدة، فلا يمكنني خسارته بهذه السهولة.
رغم أنها حرب، إلا أنه يمكن إرسال الرسائل.
إذًا، إن استطعت توقع الخطر الذي سيتعرض له مسبقًا، يمكنني تنبيهه ومساعدته، أليس كذلك؟
“نعم، هذا هو الأمر…”حتى الآن، كنت أسير في طريق مظلم كأنني أتلمس طريقًا في حقل من الأشواك.
كنت أزحف، منهكة من الألم الذي لا يُحتمل.
ولكن الآن، شعرت وكأن الفجر قد لاح.
بعد ذلك، بذلت كل ما في وسعي لتفعيل “بصيرة المصير” من جديد.
كان عليّ رؤية لحظة حاسمة، قد تغيّر مصير سيزار.
بحسب مصدر موثوق، كانت أول معركة في هذه الحرب على وشك أن تبدأ في وادٍ يُدعى “رودريون”، يقع على حدود تجاوزت البوابات السبع للإمبراطورية.
“ركزي، إيرينيا…”
مرّت ساعات عديدة وأنا أكرّس نفسي للتأمل في “بصيرة المصير”.
كنت منهكة لدرجة أنني لم أعد أقوى على الوقوف، لكنني لم أستسلم.
لم يكن الأمر سهلاً بالطبع.
فقد تطلّب رؤية ما أريد الكثير من الطاقة الذهنية.
اضطررت لمشاهدة الكثير من المشاهد غير المجدية، وإذا ما تشتّت تركيزي قليلًا، تشوّشت رؤيتي.
لذا، بذلت كل ما لدي، مستذكرة ما تعلّمته من ريشار، كي لا أفوّت لحظة من رؤى البصيرة.
كان عليّ فعل ذلك.
تعهّدت بذلك مرارًا لنفسي.
لأنه إن لم أتمكن من قراءة مستقبل سيزار الآن… فسيموت.
وهذا أمر لا يمكن السماح بحدوثه.
حين أتمسّك بهذه الفكرة، يعود إليّ تركيزي، ويتوهّج عقلي كما لو أنه سُنّ كسيف.
تنتصب شعيرات جسدي، والقشعريرة تَعُمُّني.
وأخيرًا، تنفتح الرؤية التي كنت أطلبها أمامي.
رأيت أشخاصًا.
ضيّقت عينَيّ لأبحث عن سيزار.
غريزيًا، أدركت أنني أنظر إلى “وادي رودريون”.
كان في تضاريس هذا الوادي نقطة ضعف لجيشنا.
أولها أن الاتجاه كان مقابلًا للشمس، ما جعل من الصعب رصد العدو الكامن.
كانت هذه خطة من خطط الشياطين.
في المعركة الأولى، استخدموا تضاريس الوادي لشن كمين مباغت.
وكانت النتيجة مرعبة.
جحافلنا، التي لم تكتشف الكمين، انهارت بفعل هجومهم العنيف.
ثم رأيت… رأيت رمح شيطاني يخترق عنق سيزار، الذي كان يقود الهجوم في المقدمة.
“هاه… هاااه… هاه…”
في تلك اللحظة، سقط جسدي على الأرض.
كنت قد ابتللت تمامًا، وثيابي التصقت بي، وقطرات العرق تنهمر من جبهتي.
“مولاتي الأميرة!”
هرعت ديلفينا نحوي مذعورة.
كانت قلقة من أن ينهار جسدي في أي لحظة، فظلت تراقبني طوال فترة تأملي.
“مولاتي، هل أنتِ بخير؟”
لم أستطع الرد على الفور، لكنني أومأت برأسي.
أصابعي شاحبة، ورأسي يدور، ومع ذلك نظرت إلى دِلفينا وابتسمت بانتصار.
قامت بمسح العرق عن جبهتي.
ثم تمتمتُ، لاهثة:
“… نعم، أنا بخير.”
هذا لم يكن شيئًا يُذكر.
كانت نشوة الإنجاز أقوى من الإعياء الذي أحسست به.
لقد فعلتها أخيرًا.
كان هذا أول قفزة نحو إنقاذ سيزار.
تنبأت بمستقبله كي أغيّره.
سابقًا، كنت أعتمد فقط على رؤى البصيرة، أما الآن، فقد أصبحت قادرة على استكشافها بنفسي.
“يجب أن أرسل رسالة إلى سيزار حالًا.”
دفعت جسدي المثقل بالحركة، لكنني فقدت توازني وسقطت على الأرض.
“مولاتي!”
أسرعت دِلفينا نحوي وأسندتني.
ابتسمتُ بخجل.
“هاها… أنا في حالة يرثى لها.”
“عليكِ أن تأكلي شيئًا.”
حقًا، لم أكن قد أكلت أو نمت منذ أيام، وكنت أستنزف طاقتي في استخدام البصيرة.
لم يكن من الغريب أن تقلق دِلفينا.
“حسنًا، سأفعل.”
“سأحضّر لكِ حساءً دافئًا.”
كنت منهكة تمامًا، فلم أستطع إلا الإيماء برأسي.
كان جسدي محطمًا، لكن إرادتي لم تكن أقوى مما هي عليه الآن.
بعد قليل، عادت ديلفينا بطعام دافئ ناعم، ورسالة وصلتني.
حين أخبرتني أن هناك رسالة، سألت بلهفة:
“هل هي… من سيزار؟”
التعليقات لهذا الفصل " 162"