كلما اختلّت خطواتي، كانت السخرية تشتد من حولي.
رغم أنني أعرج، أبقيت ظهري مستقيماً، كأنني لم أسمع الضحك الخافت المتناثر في الأرجاء. لم يكن هذا جديداً عليّ. لطالما اعتدت على مثل هذه النظرات.
ركعت بهدوء، محافظةً على وقاري، وانحنيت احتراماً.
“المجد لصليب النور… أحيّي جلالة الإمبراطورة الصغيرة.”
كانت كورنيليا تحدّق بي بصمت منذ البداية، حتى طال الصمت وخارت ركبتي من الألم.
في تلك اللحظة، لمعت عيناها الزرقاوان ببرود وقالت:
“…المجد لصليب النور.”
أذنت لي أخيراً بالوقوف.
لكن، قضيت وقتاً طويلاً منحنيةً لدرجة أن الوقوف مجدداً كان صعباً.
“تشه…”
سمعت صوت تذمّرها، قبل أن تشدّني ذراع ناعمة إلى الأعلى.
“سموّ الأميرة.”
كانت دلفينا، تلك الفتاة التي كادت تُدان ظلماً صباح اليوم.
“شكراً لك.”
اتسعت عيناها بدهشة، ثم خفضت رأسها بسرعة.
“من هذا الطريق، من فضلك.”
جاء صوت الكونتيسة إلفيرا، أقرب المقرّبين إلى الإمبراطورة. غادرت كورنيليا المكان دون أن تنبس بكلمة.
________
أُعدّت مائدة الشاي في الدفيئة الزجاجية للإمبراطورة. جدران من البلور الهندسي المنقوش تعكس الضوء كحُليّ راقصة.
زهور بألوان لم أرَ مثلها من قبل، وسناجب وطيور بأجنحة ملونة، وحتى قرود صغيرة، تتنقل وسط ذلك البهاء.
جلست كورنيليا إلى طاولة قرب النافورة، وعلى كتفها ببغاء بألوان ساحرة يلاعبها، فيما كانت تطعمه البسكويت، غير مبالية باقترابي.
لم أجرؤ على الجلوس دون إذنها، فظللت واقفة أراقب المكان بعينيّ القلقتين.
طال الصمت حتى دخلت وصيفة تدفع عربة شاي.
“ماذا تنتظرين؟ اجلسي.”
“أمرك، جلالتك.”
جلست. صبّت الشاي الأحمر الدافئ، تفوح منه رائحة تعبق بالفخامة.
لكني لم أذقه. نظرت إليه فقط.
قاطعتني الإمبراطورة بصوتها الثاقب:
“كيف تجدين الحياة في القصر؟ مريحة؟”
رغم أن عينيها ما زالتا على الببغاء، شعرت بأنها تراني تماماً.
بلعت ريقي. يداي تتعرقان. قبضتهما وفتحتهما أكثر من مرة.
ثم، دون مقدمات، رفعت كورنيليا نظرها نحوي. تلك العينان، الباردتان الجميلتان، أضعفتا عزيمتي.
لكنني لم آتِ إلى هنا لأتراجع. استجمعت شجاعتي أخيراً.
“جلالتك… هناك أمر مهم عليّ إبلاغك به.”
“وما هو؟”
جاء ردها مباغتاً، أقرب إلى المرح، ما هدّأ قلبي قليلاً.
“الأمر يخص الأمير… الأمير سيزار.”
“تابعي.”
فبدأت أروي ما شهدته بعينيّ، بصوت مرتجف.
“هناك من يعتدي عليه… ربما أحد الحراس، أو خادم. جلالته كان مقيّداً، ومُعنّفاً… جسده مغطى بالجراح، وقد رُبط بالسلاسل، حتى كمامة كانت على فمه.”
استمعت بهدوء، ثم لوّحت بيدها. جاءت إحدى الوصيفات بصينية فضيّة، تحمل سيجارة. أشعلتها لها، فاستنشقت كورنيليا الدخان بعمق ونفثته بكسل.
ضاق صدري، وسعلت.
“ثم ماذا؟”
قالتها بازدراء وهي تضع السيجارة المشتعلة على الصينية.
“ماذا تريدين مني بالضبط؟”
“عفواً؟”
تمدّدت على كرسيها، راحتها تفيض استهزاءً.
“ألم تسمعي؟”
سمعت، لكني لم أصدق. أردت الرد، لكن لساني عجز.
“الاحترام يُمنح لمن يستحقه. من كان جديراً به.”
قالتها هامسة وكأنها تكلّم نفسها.
“كيف تعرّفين الإنسان؟ ما الذي يجعله كذلك؟”
سؤالها المباغت أخرسني.
وفجأة، نطق الببغاء: “إنسان!”
ضحكت كورنيليا بسخرية.
“بالضبط. من يشبه الإنسان، نطلق عليه إنساناً. هل رأيتِ يوماً الأمير الأول يتصرّف كإنسان؟”
غرست أظافرها الطويلة على الطاولة:
“الإنسان… يمشي على قدمين.”
هبط الببغاء وسار على الطاولة بخفّة.
“ويستخدم الأدوات.”
حلّ رباط كيس طعام بمنقاره، وأخرج قطعاً صغيرة من الفاكهة المجففة.
“ويتحدث بلغة البشر، أليس كذلك؟”
نقرته، فراح يقول: “قبعتك جميلة!”، “أتمنى لك ظُهراً سعيداً!”
كانت نبرته مدهشة.
“إذن، هل ترين الفرق بين الأمير… وهذا الطائر؟”
لم أجب. كانت الرسالة واضحة.
وفجأة، قبضت الإمبراطورة على الببغاء بكلتا يديها.
ارتعب، صرخ، وخفق بجناحيه.
“أنظري… هذا الطائر يمكنني السيطرة عليه.”
قالتها وعيناها تلمعان ببرودة مرعبة.
ثم أطلقت سراحه.
طار عائداً إلى كتفها، كأن شيئاً لم يحدث.
“أما الأمير؟ كيف تسيطرين على وحش لا يفهم العقل؟”
“لكن… لكنه إنسان!”
صرخت، ووقفت منفعلة. اهتزت الطاولة، وارتجّت فناجين الشاي.
“ماذا قلتِ؟”
نظرت إليّ بجمود. أدركت حينها أنني تجاوزت الخط.
لكنها لم تعلّق. ضحكت فقط.
ضحكة طويلة، مؤلمة.
ثم، تنفّست دخان سيجارتها وقالت:
“أنتِ تملكين موهبة خفية… تجعلين الناس يضحكون. هذه أفضل نكتة سمعتها هذا العام.”
خفضت رأسي، وقبضت على حافة فستاني بشدة.
“كما قلتِ يا جلالتك…”
“همم؟”
“إنه ليس كغيره….”
في الحقيقة، لم أكن أؤمن باللعنات قبل أن أراه. كنت أظنها خرافات لا أكثر، شيئًا أقرب إلى الأساطير.
لكن بعد أن التقيت به بنفسي… تغيّر كل شيء. لم يكن هناك وصف أنسب من كلمة “ملعون”. رجل فقد صوابه، يستجيب لرائحة الدم كالحيوانات، ينقضّ كالمسعور، ويده اليسرى… تحوّلت إلى شيء أقرب إلى مخلب زاحف. وتلك النظرات أحيانًا، نظرات مفترس كامن خلف عينيه… لم أعد واثقة إن كان سيعود يومًا لطبيعته.
عضضت شفتي السفلى بصمت. ومع ذلك، لم أستطع طرد صورته من ذهني—تلك الابتسامة الدافئة، وملامحه حين ينظر إليّ بعينين وديعتين.
“لكنه… لا يزال إنسانًا.”
“مشاعركِ تجاه زوجكِ تستحق الاحترام.”
اتسعت عينا الإمبراطورة كورنيليا بشيء من الدهشة، وهي تطفئ سيجارتها الفاخرة على طبق فضي.
“مع أنني أتفهم الأمر. فأنتِ، ابنة غير شرعية دون سند، من الطبيعي أن تتشبثي حتى بزوج ناقص العقل كهذا.”
“…عفواً؟”
رفعت رأسي بحدّة، مصدومة من وقاحتها. لكنها فقط اكتفت بابتسامة مائلة، ساخرة، كمن يستمتع بإثارة الغضب.
ساد صمت ثقيل، كاد يسحق أنفاسي.
اختلطت زقزقة طيور غريبة بصوت مياه النافورة المتدفقة، فيما أطلت بعض الحيوانات الصغيرة برؤوسها من بين الشجيرات الكثيفة، تراقب المشهد بصمت.
وفي وسط هذا الجنون الجميل، جلست الإمبراطورة كأنها جزء لا يتجزأ من اللوحة. انسجمت تمامًا مع المكان، بجمالها البارد الذي بدا أقرب إلى البراءة… براءة فتاة لم تدنسها بعد قذارة هذا العالم.
كل شيء بدا متوهجًا، أقرب إلى الحلم. لذلك، لم أنتبه حين لفظت تلك الشفاه القرمزية سمّها بسلاسة.
التعليقات لهذا الفصل " 15"
نووو ابي فصول زيادة ارجو يتم ارجو
واو صح انها كلبه بس هوتي🥵🥵