146
**********
ماتِياس اصطحب جيوفينيتا إلى جناحٍ خارجي.
كان هذا هو المكان الذي صفعته فيه إيرينيّا على وجنته ذات يوم.
ما إن تذكّر ذلك الموقف حتى شعر بتدفّق دافئ من الدم نحو أسفل جسده.
ابتسم ماتِياس بخبث، فيما كانت جيوفينيتا، التي لا تعلم شيئًا، تميل برأسها بحيرة وتحرك شفتيها بصمت عدة مرات.
ثم، وبعد تردّد طويل، انحنت برأسها مرة واحدة أخيرًا.
“أنا… حقًّا أشكرك.”
قالتها بصوتٍ خافتٍ ورقيق، مرسلة نظرةً حزينة ووجهًا بريئًا.
عندما فكّرت في حالها البائس شعرت مجددًا بأن الدموع تترقرق في عينيها.
في تلك اللحظة، شعر ماتِياس بوخزٍ غريب وألمٍ خفيف في صدره.
لم يستطع تحديد طبيعة هذا الإحساس الغامض، لكنه لم يكن من النوع الذي يحلل مشاعره.
فكل هذا لم يكن سوى نزوة عابرة أو لهوٍ مؤقت.
وإن استطاع أن يفرغ ما بداخله من كبتٍ من خلال هذه اللعبة، فذلك يكفيه.
وفوق كل ذلك، فإن جيوفينيتا كانت حفيدة الإمبراطورة.
فإن تجرّأ ولمسها، فكيف ستكون نظرة والدته؟ من المؤكد أنها ستكون أكثر غضبًا بكثير مما كانت عليه مع الفتاة السابقة.
عندما تذكّر هذا، خفّ قليلاً شعور الإذلال الذي انتابه عندما تلقّى سوار المعصم الذهبي الذي قيل إن والدته أرسلته إليه.
خرج صوته ناعمًا دون أن يقصد.
فإن أراد أن يغرز أنيابه في عنق فريسته، فعليه أولاً أن يظهر اللطف، حتى لا تشعر بالخطر. فالصيد الحقيقي هو أن تكتم أنفاسك حتى تقترب الفريسة منك بما يكفي.
“إذاً، لماذا كنتِ تبكين؟”
في الحقيقة، لم يكن يهتم بسبب دموعها.
لكنه ما إن نطق السؤال حتى أدرك أنه سبق وسأل إيرينيّا نفس السؤال تحت هذا الجناح بالذات.
“هُه… ههئ… ههئهه…”
لكن جيوفينيتا كانت تجهش بالبكاء دون توقف، كتفيها يهتزان.
كان ردّ فعلها مختلفًا عن إيرينيّا، مما جعل الأمر يبدو جديدًا، لكن البكاء الزائد مزعج ولا يبعث على المتعة.
مع ذلك، إن فقد أعصابه الآن فستفرّ الفريسة التي اقتنصها بصعوبة.
ولم يكن يرغب بتكرار نفس التجربة مرتين.
تذكّر وجه إيرينيّا المتعجرف، وتلك اللحظة حين هربت من بين ذراعيه.
فكتم غيظه بصعوبة وعضّ على أسنانه.
لكن جيوفينيتا لم تهتم، بل استمرت بالبكاء.
لم تعرف كيف تعبّر عمّا بداخلها، فلم تجد إلا دموعها وسيلة لذلك.
فزفر ماتِياس تنهيدة عميقة ثم عانقها ببطء.
كان احتضانًا مفاجئًا، لكنه لم يكن مشوبًا بأي نية خبيثة، بل فقط دفء يده على ظهرها.
عندها، لم تستطع إلا أن تذوب بين ذراعيه وتنفجر بالبكاء.
بدأ يربّت على ظهرها بصوت ناعم كالريش.
“ما الذي جرى، حتى جعل فتاةً جميلة مثلك تبكي هكذا؟”
في تلك اللحظة، شعرت جيوفينيتا بشيء يطفو من أعماقها.
صورة إيرينيّا وهي مع الأمير سيزار عادت لتلوح أمام ناظريها، مما جعل قلبها ينكمش مجددًا.
كان الأمر أقسى لأن الأمير الذي لطالما تجاهلها، بدا في منتهى اللطف مع إيرينيّا.
تنهد ماتِياس، وكأنه أدرك كل شيء، ثم سأل فجأة:
“دعيني أرى… هل هو أمر يتعلق برجلٍ ما؟”
كان وكأنه قرأ مشاعرها بوضوح.
كأنه زار قلبها وعرف سبب حزنها وتخبطها.
شعورها بالدهشة والارتياح من فهمه جعلها تتوقف عن البكاء، وتناولت المنديل الذي قدّمه لها.
شعرت وكأنها قد تلقت عزاءً عميقًا من روحه.
“ك… كيف عرفت ذلك؟”
فردّ ماتِياس بأعذب صوتٍ في العالم:
“ربما سمعتي عني، أنا روح حرّة إلى حد كبير.”
“ن… نعم…”
لم يكن ينوي خداعها، لكن مع أنه استخدم تعبيرًا مخففًا، فهمت تمامًا ما يقصده بـ”الحرية”.
والدتها حذّرتها مرارًا من وليّ العهد الثاني العابث.
لكن كلمات ماتِياس، الذي بدا خبيرًا في أمور الحب، جذبت اهتمامها رغمًا عنها.
“حين يتعلق الأمر بالحب، فأنا خبير. يبدو أنك تُعانين وحدك بصمت، أليس كذلك؟”
لم تكن ملاحظته خاطئة، لذا عادت جيوفينيتا للبكاء مجددًا.
“ذ… ذلك لأن…”
ضحك ماتِياس ضحكةً عالية عندما رآها ترد بصدق.
كان يتعمق باكتشافها بدافع الفضول، والآن بدأ يجد الأمر ممتعًا أكثر مما ظنّ.
“أوه! كنت أمزح فحسب، فهل كان الأمر حقيقيًا إذًا؟”
ثم نظر إليها ماكرًا كطفلٍ شقي، وأخذ ينقر بأنامله طرف أنفها.
عندها أدركت أنها كانت تتعرض للمزاح، فاحمرّ وجهها بشدّة.
“ه… هل تسخر مني؟”
تراجعت إلى الوراء بخوف، فنظر إليها ماتِياس وهو يمرر يده عبر شعره الأحمر وحرّك رأسه نافيًا.
كان في داخله يوشك أن ينفجر ضحكًا، لكنّه قرّر مجاراتها.
“لا… فقط لأنك لطيفة.”
ثم، بهدوء، أمسك بيدها وسحبها نحوه.
كان هناك الكثير ليعرفه من هذا اللمس.
هل ستسحب يدها؟ أم ستدعها؟ كل ردّ فعل سيكون مثيرًا للاهتمام، لذا راقب وجهها بعناية.
لم تستطع جيوفينيتا أن تقاوم إطلاقًا.
حتى عندما اقترب منها وقبّل ظهر يدها.
صوت القُبلة كان واضحًا، وارتفعت حرارة وجهها فجأة، حتى ازدادت وجنتاها توهّجًا.
كانت تعرف أن وليّ العهد الثاني مشهورٌ بكونه زير نساء، ومع ذلك فقد أذهلها بلطفه للحظة، مما جعلها تتراخى.
كان تمامًا كما تصفه الشائعات. عندها، استشاطت جيوفينيتا غضبًا.”أنت… أنت تسخر مني حقًّا!”
كل ما استطاعت فعله هو مقاومة الانجراف خلفه.
أمثال هذا الرجل يستطيعون التهامها بلقمة واحدة، لذا كان يجب أن تحذر منه منذ البداية…
عندها، تراجع ماتِياس خطوة إلى الوراء.
لم يعد يبدو بنفس القدر من التهديد، بل أظهر الآن سلوكًا نبيلًا. التقط يدها وقلبها برفق، يتفحّص الجرح في يدها وهو يتمتم:
“أن تصاب يد جميلة هكذا… يؤلمني قلبي.”
كان صوته رقيقًا إلى درجة أنها كادت أن تضعف.
تلاقى نظره الأزرق بعينيها، رمش عدّة مرات، ثم انحنى وقبّل الجرح.
اتسعت عينا جيوفينيتا بدهشة.
لم تكن قد اقتربت من رجلٍ بالغ بهذا الشكل من قبل، باستثناء والدها وأقاربها.
حتى قريب ملك إيتاكا حاول لمسها ذات مرة، لكنه كان مقززًا كزحف الأفاعي، فهربت منه.
أما هذا الأمير، فقد كان مختلفًا.
قلبها أخذ يخفق بسرعة هائلة. فكرت في نفسها:
استفيقي، جيوفينيتا فلوريس.
هذا الرجل زير نساء.
أنا أحب الأمير سيزار!
لكن الجرح الذي تركه سيزار في قلبها، جعل غزو ماتِياس المفاجئ والسريع وغير المحتشم أمرًا لا يمكن الهروب منه بسهولة.
صار قلبها يخفق بجنون لم تعد تستطيع التحكم به.
سألها ماتِياس بصوتٍ كالحلم:
“ترى، من هو الرجل الذي سرق قلبك؟”
“ذا… ذلك…”
فتحت فمها بسرعة لكنها عضّت لسانها خطأً، فلم تستطع الردّ من الألم والخجل، مما دفع ماتِياس للضحك من جديد.
في الحقيقة، كان يعلم الجواب مسبقًا من خلال جواسيسه.
ابنة دوق فلوريس التي تتجول في قصر الزمرد، تنتظر ظهور الأمير الأول بلا خجل.
ذلك الأمير، المزعج جدًا، الذي لطالما التفت حوله النساء.
تفكيره بالأمير الأول جعل يده اليسرى تنبض بالألم، فعبس.
لكنه لم يُظهر شيئًا، بل تابع ببرود وقال لها:
“هل يمكن أن تكوني تحملين مشاعر لا يجب أن تُحمل؟”
“ك… كيف عرفت؟!”
تراجعت جيوفينيتا مرتجفة كأوراق الشجر.
كانت مثيرة للشفقة حقًا.
لا تعرف كيف تخفي مشاعرها، بل لا تدرك حتى أهمية إخفائها.
كزهرة دفيئة، لا عقل لها سوى رأسها الذي لا يزن شيئًا.
لم يكن غريبًا أن تبالغ دوقة فلوريس في حمايتها.
فكّر في الأمر: لو أنه أغوى هذه الفتاة الساذجة، كيف ستكون ردة فعل والدته والآخرين؟ شكلها كان جميلًا بالفعل.
بل كانت تشبه إيرينيّا، زوجة وليّ العهد، إلى حدّ ما، مما زاد من إعجابه بها.
مجرد هذا التفكير أرسل قشعريرة لذيذة في جسده كله.
التعليقات لهذا الفصل " 146"