145
**********
بصوت ماتياس القاسي، حتى بيرتوتشيو الذي خدمه طويلاً لم يستطع إخفاء ارتباكه للحظة.
لكنه لم يكن يستطيع التراجع الآن عما قاله للتو.
فقد علمته التجارب أن التراجع في مثل هذه اللحظة لا يؤدي إلا إلى تأجيج غضب سيده ويكرّس حلقة مفرغة من العنف.
ولذا، شحذ بيرتوتشيو عزيمته واعترف بالحقيقة:
“لقد استدعت جلالة الإمبراطورة الصانع خصيصًا لتكليفه بالأمر.”
وأشار بيرتوتشيو بذقنه للغلام ليقترب، وكان الغلام يحمل شيئًا وُضع على وسادة زرقاء مزينة بالمخمل وشراشيب ذهبية، بدا من أول نظرة أنه فخم بشكل مبالغ فيه.
تجعد وجه ماتياس بشدة وهو ينظر إليه.
“قطعة فنية من صنع الحرفي، صُنعت من خشب الأبنوس الجنوبي المذهّب، ومطعمة بالعاج والأحجار الكريمة.”
كانت أداة لتثبيت المعصم مصنوعة بعناية بالغة، تختلف كليًا عن تلك الأداة النحاسية الخشنة التي اعتاد ماتياس ارتداءها.
شكلها المتوهج والمزين بالذهب والأحجار الحمراء والزرقاء كان كفيلاً بإثارة أعصابه أكثر.
“ما هذا الهراء؟!”
لم يتمالك ماتياس نفسه من شدة الغضب، فأمسك الأداة بيده وقذفها على الأرض بقوة.
أطلق الخدم من حوله أنفاسًا حزينة، لكن المكان عاد إلى سكونه التام بسرعة.
تنفس ماتياس بغضب من صدره، ووجهه محمرّ، ثم صرخ:
“أمّنا الإمبراطورة تود أن تتفاخر في كل مكان بأن ابنها أصبح معاقًا؟!”
وبدا كأنه يريد أن يُظهر مدى الغضب الذي يملأه، فأمسك مزهرية من على طاولة صغيرة ورماها على الأرض، فانفجرت وتناثرت شظاياها في كل مكان.
فانحنى الخدم أرضًا بسرعة، محاولين تفاديها.
لم يبقَ واقفًا في المكان سوى بيرتوتشيو وماتياس.
انحنى بيرتوتشيو بصمت، التقط القطعة التي رماها سيده، وناولها له مجددًا، وهو يتمتم:
“إنها أوامر من جلالة الإمبراطورة.”
“أي أوامر هذه؟ إن كانت نيتها أن تُعلن للناس أن ابنها معاق، فقد نجحت!”
اشتعلت شرارات زرقاء في عيني ماتياس، وكان يزمجر كحيوان مفترس، بينما بقي بيرتوتشيو صامتًا.
“وإن لم يكن هذا مقصدها، فهل تريد مني الاعتراف أنني هُزمت على يد ذلك الوغد؟ هل هذا ما تريده؟!”
ظهرت عروق زرقاء على عنقه، واشتعل وجهه كالتفاح الأحمر.
“لا فائدة فيك ولا في غيرك!”
صار ماتياس يلتقط أي شيء تقع عليه يده ويقذفه نحو بيرتوتشيو.
إحدى القطع تحطمت وتناثرت شظاياها، واحدة منها شقت خد بيرتوتشيو وخلّفت جرحًا غائرًا.
سال الدم من الجرح، ومع ذلك لم يرف لماتياس جفن، واستمر في رمي الأشياء عليه.
“أيها الوغد اللعين…”
لكن استخدام يد واحدة فقط في تكسير الأشياء كان له حد، فانهار ماتياس أخيرًا، مستسلمًا لنفاد طاقته.
“سيدي، هل أصابك مكروه؟”
اقترب بيرتوتشيو من ماتياس، دون أن يبالي بجرحه، وتفقد يده اليسرى، ثم استأنف علاجه الذي توقف عنه.
وضع المرهم وبدّل الضمادات.
خلال ذلك كان ماتياس يصرّ على أسنانه ويزمجر:
“…أيها الحقير…”
لكن لا يمكنه أن يظل غاضبًا إلى الأبد.
بمرور الوقت، هدأ غضبه تدريجيًا.
ارتدى رداءً خفيفًا واقترب من الشرفة وهو يمسك بسيجارة ملفوفة، إذ شعر أنه بحاجة لهواء نقي لتهدئة صدره المضطرب.
استنشق دخان السيجارة بعمق.
كان الطقس بالخارج مشرقًا بشكل يتناقض كليًا مع حالته المزاجية، وكانت الشمس مشرقة ببريقها.
نفث الدخان بعصبية.
تراقص الدخان الأزرق، وبين خيوطه، لاح له ظل امرأة… وجه مألوف للغاية.
“تلك المرأة…”
ضاقت عينا ماتياس كما لو أنه اكتشف شيئًا مسليًا.
استنشق من سيجارته مرة أخرى، ثم نفثها دفعة واحدة حتى غطى الضباب المكان.
كانت السيجارة تحتوي على مادة مهدئة للأعصاب، فشعر بجسده يرتخي قليلاً. ربما لهذا السبب استمر في مراقبة تلك المرأة بشغف غريب.
“عليّ أن أذهب إليها.”
لمع بريق في عينيه، كأن وحشًا جائعًا يستيقظ في داخله.
لم يمانع أن تهدأ نيران غضبه لتشتعل بأخرى.
التقط معطفه الملقى على الأرض.
بيرتوتشيو حاول اللحاق به بشكل طبيعي، لكن ماتياس منعه:
“إن ظهرت بتلك الهيئة الدامية، ستهرب المرأة فزعًا. عالج جراحك.”
مرر ماتياس يده على جبينه وأومأ برأسه. لم يكن من اللائق أن يراه أحد بهذا الشكل الدموي.
“…مفهوم.”
وبعد أن تأكد من انسحاب بيرتوتشيو، ابتسم ماتياس كاشفًا عن أسنانه البيضاء.
كانت ابتسامته بريئة كطفل وجد لعبة جديدة.
نعم، إن لم يستطع الحصول على الشيء الحقيقي، فلا بأس بأن يلعب بشيء يشبهه.
وكان هذا الشيء في متناول يده.
بل وقد يكون، من بعض النواحي، أكثر قيمة من الحقيقي.
أطلق زفيرًا لزجًا ولعق شفتيه.
**************
كانت جيوفينيتا تحاول العودة إلى مسكنها ممسكة بيد مارتا، تحمل في قلبها ألمًا غائرًا.
لكن رجلاً وقف في طريقها.
لم تكن ترغب في أن يرى أحد وجهها المتورم المبلل بالدموع، لذا سارعت جيوفينيتا إلى إخفاءه خلف كتف مارتا.
رفعت مارتا يدها بتلقائية لتمنع الاقتراب.
“مـ..ماذا؟ ماذا تريد؟”
أطلق الرجل المقابل ضحكة خفيفة.
وحينها فقط أدركتا من هو.
“صـ… صاحب السمو الأمير؟”
لم تستوعب الاثنتان سبب وجود الأمير الثاني ماتياس في هذا المكان فجأة.
ولم يكن برفقته أي مرافق كما يليق بمقامه، وكان مظهره غير مرتب. بدا وكأن في وجهه ابتسامة مشاكسة.
انسحبت جيوفينيتا خطوة إلى الوراء تحت ضغط حضوره الطاغي.
وهنا، لمعت عينا ماتياس بحدة.
“لمَ كنتِ تبكين؟”
في تلك اللحظة، استعاد ماتياس ذكرى لقائه الأول مع إيرينيا.
كانت عيناها الخضراوان تلمعان بالدموع يومها…
ويبدو أن الشقيقتين، حتى لو لم تكن الدماء كاملة، تتشابهان في ذلك.
ابتسم لا إراديًا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.
فقد لاحظ وجود قطرات دم صغيرة على راحة يد جيوفينيتا.
وجد أن الظروف تتشابه بشكل مذهل.
“هاه…”
وقف ماتياس مذهولًا للحظة، ثم انحنى ضاحكًا ممسكًا ببطنه.
فضول وذهول جيوفينيتا ومارتا كان واضحًا.
كبح ماتياس ضحكه أخيرًا، وابتسم بابتسامة مدروسة، تلك التي تدرب عليها مرارًا أمام المرآة، لتمنح الثقة لمن يراها.
“على أي حال…”
أمسك ماتياس برفق بمعصم جيوفينيتا.
“آه… آه…”
فزعت جيوفينيتا وحاولت سحب يدها، لكن ماتياس لم يبدِ نية لتركها.
تمتم وهو ينقر بلسانه:
“بهذا الجرح…”
ثم نظر إلى مارتا بنظرة ناعمة وقال:
“مولاتكِ مصابة، ألن تقومي بعلاجها؟”
كان صوته ناعمًا مهذبًا، لدرجة أن مارتا، التي تتميز عادة بالجرأة، احمر وجهها ولم تستطع الرد فورًا.
“ذا… ذلك لأنها جُرحت فجأة…”
ارتبكت مارتا ولم تعرف كيف تجيب. ابتسم ماتياس بلطف.
“لديّ مسكن قريب من هنا. اطلبي من الخدم أدوات الإسعاف.”
“نـ… نعم…”
أجابت مارتا وكأنها مسحورة بصوته، الذي بدا كعسل ذائب.
لكنها لم تتحرك فورًا.
“أسرعي.”
قالها ماتياس بصوت أكثر جدية.
أومأت مارتا مرارًا ثم ركضت مغادرة المكان.
الآن، لم يبقَ سوى ماتياس وجيوفينيتا.
اقترح ماتياس عليها أن يتمشيا قليلًا.
“لقاؤنا هذا مصادفة، ما رأيك بنزهة قصيرة؟”
ترددت جيوفينيتا وهي تشهق بأنف أحمر، لكنها حين نظرت في عينيه، لم تستطع الرفض، فخفضت رأسها خجلًا.
مدّ ماتياس يده، فوضعت معصمها الصغير على كفه.
ساد دفء رطب فوق موضع التلامس بين أيديهما.
احمرّ خد جيوفينيتا كما تتفتح زهرة في ربيع دافئ.
نظرت خلسة إلى جانب وجه الأمير، فرأت خط الفك الرجولي وأنفًا بارزًا.
لم يكن وسيمًا بقدر الأمير الأول، لكنه كان كافيًا ليجعل قلبها يخفق.
“شـ… شكرًا جزيلاً على مساعدتك….”
لكن ماتياس التفت إليها، وعيناه الزرقاوان صافيتان إلى درجة أن حدقتيه بدتا سوداويتيْن من شدة وضوحهما.
التعليقات لهذا الفصل " 145"