142

*********

“لـ، ليس الأمر كذلك!”

أسرعتُ ألوّح بيدي في محاولة لإيقافهم. 

حاولت أن أشرح وأنا أُحرّك رأسي سريعًا، لكن فجأة شعرت وكأن شوكة ما علقت في حلقي، تعيقني عن الكلام.

إن فكّرتُ في الأمر، فقد تجاوزنا بالفعل نقطة معيّنة تجعل من المستحيل توضيح الأمر بوضوح لريشار…

“آه…”

العار الذي كنت أشعر به بدأ يتضخم مثل كرة الثلج، حتى أنني رغبت بالفرار إلى أي مكان.

وبينما كنت أرتجف من الخجل، أخبرنا ريشار أن حالة سيزار قد تحسّنت بشكل ملحوظ.

“تبدو حالة التآكل الناتجة عن اللعنة مستقرة جدًا. بهذا الشكل، يمكن القول إن حالته عادت كما كانت قبل الإصابة باللعنة.”

انتصبت أذناي عندما سمعت ذلك.

“أحقًا؟”

أومأ ريشار برأسه بوجه جاد، ثم أضاف قائلاً:

“لو أنهما قاما بفعل التزاوج في وقتٍ مبكر، لكان من الأفضل، ولكانا تجنّبا كل ذلك العناء…”

“يا إلهي!”

في تلك اللحظة، بذلت كل ما بوسعي لإغلاق فم ريشار، الذي لا يملك أي ذرة من اللباقة أو مراعاة للمقام، ونشب بيننا جدال بسبب ذلك استمر لفترة.

ثم بدأ ريشار الحديث عن اجتماع الممالك الثلاث القادم، مما هدّأ من فوضى الموقف قليلًا.

“اجتماع الممالك الثلاث؟”

“نعم، يجتمع زعماء كل تحالف مرة كل عشر سنوات. وهذا العام يصادف مرور عشر سنوات.”

تبادلنا نظرات حذرة. 

وقد قيل إن ريشار وسيزار ناقشا هذه المسألة عدة مرات وتبادلا الآراء بشأنها.

قال سيزار وهو يمرر يده عبر مقدمة شعره بهدوء:

“وفقًا لتوقعي، فإن الإمبراطور غيدو سيُعلِن ولي العهد، أي وريث وسام الصليب المقدس، في هذا الاجتماع.”

“إعلان ولي العهد، إذن…”

كنت أتفق مع رأيه. 

فقد أخبرني سيزار شخصيًا سابقًا عن الحالة الذهنية للإمبراطور غيدو. 

وكان وصفه أن الإمبراطور قد أصبح بالكامل تحت تأثير السحر الأسود الذي ألقته عليه الإمبراطورة، لدرجة أنه فقد قدرته على التفكير السليم.

“وفي مثل هذه الظروف يُعلَن ولي العهد…”

رغم أن الأمير الأول، سيزار، قد بلغ سن الرشد وأصبح راشدًا، إلا أن منصب ولي العهد ظل شاغرًا طوال الوقت.

 وكان السبب، كما يظن الجميع، هو مشكلته الذهنية.

 فسيزار كان الأمير الملعون بـ”لعنة التنين المجنون”، وكانت حالته العقلية تحت تأثير تلك اللعنة، مما أدى إلى تأجيل إعلان تنصيبه مرارًا.

وعندما نظرت إلى سيزار بقلق، أمسك بيدي بصمت. 

لا شك أنه كان يتوقع هذا الوضع مسبقًا.

“من المؤكد أن جلالة الإمبراطور سيُعلِن الأمير الثاني، ماتياس، كولي للعهد في اجتماع الممالك الثلاث.”

جميعنا اتفقنا مع هذا الرأي، ولكن لم يجرؤ أحد على التفوّه به. 

فهو في الواقع الهدف النهائي للإمبراطورة كورنيليا وخطتها المشوّهة.

لقد استخدمت كورنيليا السحر الأسود من أجل تنصيب ابنها ماتياس كولي للعهد، وألقت لعنة على سيزار، وارتكبت عددًا لا يُحصى من جرائم القتل والمذابح. 

وهي أفعال لا تُغتفر أبدًا.

رفع سيزار رأسه وحدّق في الفراغ بعينين متقدتين، ثم أغلقهما بإحكام وهو يضغط على أسنانه.

“حتى لو قرر جلالة الإمبراطور دعم الأمير الثاني، لا يمكننا التنبؤ بكيفية رد فعل زعيمي التحالفين الآخرين، أو رد فعل الفصيل المحافظ الذي يدعمني كولي شرعي للعهد.”

خصوصًا أن المحافظين والمتشددين الذين يؤيدون حق سيزار الشرعي في الخلافة لن يقبلوا بأن يصبح الأمير الثاني ماتياس وليًا للعهد. 

فماتياس وُلِد عندما كانت كورنيليا لا تزال عشيقة الإمبراطور غيدو، ومن حيث النسب، لا يُعترف به كأمير شرعي.

وإذا ما تم تعيين الأمير الثاني وليًا للعهد رغم وجود الأمير الأول، فستكون تلك فضيحة تهزّ كيان الإمبراطورية، وتُكتب في صفحات التاريخ كفصل من الانقلاب السافر.

أيد ريشار هذا الرأي أيضًا.

“ولهذا السبب، هناك قاعدة تقضي بوجوب الإجماع بالإجماع التام من قادة الممالك الثلاث عند تعيين الحكّام.”

ولكن حتى مع نظام الإجماع الكامل، فإن صوت إمبراطور آستريا، غيدو، سيكون حتمًا لصالح ماتياس.

 لذا فإن العامل الحاسم سيكون في صوتي زعيمي التحالفين الآخرين. ففكّرتُ مليًا وسألت ريشار بحذر:

“ريشار، هل تعلم ما هو موقف زعيم قِسم الإلف، الذي يحكم غابة هيبفيليوم؟”

كان ريشار نصف إنسان ونصف إلف من هيبفيليوم.

 ولذلك ربما يكون له صلة سرّية بجماعة الإلف.

ضحك ريشار بمرارة عندما سمع سؤالي.

 مرر يده على شعره الفضي الطويل، ثم بدأ بالكلام ببطء.

“الأمر هو…”

في تلك اللحظة، خيّم جو بارد وصامت على جانبه الجميل.

 تردد لبرهة، ثم بدأ يحكي قصته.

“والداي لم يكونا عاديين. الإلف، كما تعلمين، شعب طويل العمر، حيث يعيشون عادةً ما يقارب الألف سنة.”

“ألف سنة؟”

مئة سنة وحدها تبدو خيالًا، فما بالك بألف! لم أستطع حتى تخيّل مدى طول ذلك الزمن.

 ابتسم ريشار قليلاً عندما رأى ردة فعلي، ثم تابع:

“أن يرتبط أحدهم، ممن يعيش ألف عام، بإنسان لا يعيش سوى مئة عام بالكاد، هو أمر نادر وغريب في نظر الإلف.”

شدّد ريشار على كلمة “غريب”. ورغم نبرة صوته الهادئة، شعرت بوضوح بوحدة عميقة وعجز كامن في كلماته. 

لا بد أنه حارب طويلاً ضد هذا “الاختلاف”.

قال إن والده كان إلفًا، وقد وقع في حب امرأة بشرية منذ زمن بعيد.

 وُلِد ريشار من تلك العلاقة، لكنه لم يُقبل يومًا لا من قبل عالم الإلف ولا من قبل عالم البشر.

 فشرح مشاعره بصدق ووضوح.

كان وجه ريشار متماسكًا أثناء حديثه عن ماضيه، ولكن عينيه البنفسجيتين كانتا ترتجفان بهدوء، ما أظهر اضطرابه العاطفي.

“أمضى والدي حياته بأكملها في دراسة السحر وشؤون البشر، وكان يشتاق لأمي الراحلة طوال حياته. أما أنا، فقد نشأت في عالم البشر منذ ولادتي.”

اسم إقطاعية “غابة أشجار البتولا الفضية”، التي منحها الإمبراطور السابق لريشار، لا بد أنه مستوحى من حنين والده لوطنه.

قال إنه لم تطأ قدمه أرض الإلف، هيبفيليوم، وليس له صلة مباشرة بجماعة الإلف النقية.

 لم يعش معهم، كما أنه لا يعرفهم جيدًا، تمامًا مثلي.

“لكن والدي كان الشقيق الأكبر لزعيم الإلف، إيسيلينور. وقد تخلى عن كل حقوقه في هيبفيليوم ليتزوج من إنسانة، ولهذا نُبذ طوال حياته من جماعته.”

قال إن كلمة “إلف” تعني “الذين يولدون من الشجرة”.

 فهم يُولَدون من فروع شجرة العالم التي تنمو في الغابة التي يحكمها الإلف، لا من أرحام النساء.

 فكرة الولادة من الشجر بدلاً من الرحم كانت غريبة ومقلقة. 

هل يعتبرون أولئك المولودين من نفس الفرع إخوة؟ كلما فكّرت في الأمر ازددت حيرة ودهشة.

كان ماضي ريشار أعقد مما ظننت، وقد عانى طويلًا كونه خليطًا من أعراق مختلفة.

أدركت كم هو صعب أن تكون بلا انتماء، بلا جذور. 

وقد شعرت بذلك لأنني أنا أيضًا وُسمت بأنني الابنة غير الشرعية لدوق، فعشت دائمًا حياة غير مرتبطة بمكان.

أخبرني ريشار عن طبيعة جماعة الإلف، وعن مدى تعاليهم وغرورهم نتيجة لطول أعمارهم.

“تخيلي كيف يرون أولئك الذين لا يعيشون سوى مئة عام مثل البشر… كم سيكونون بنظرهم ضعفاء ولا قيمة لهم…”

شبّه علاقات الإلف بالبشر وكأنها علاقة بين البشر والنمل.

“بحسب معرفتي، فإن جماعة هيبفيليوم ينظرون للبشر ككائنات تافهة تمامًا.”

“تافهة…؟”

اهتزّت عيناه البنفسجيتان بهدوء، ثم نظر إلي بلطف.

“نعم، إنهم يرون الإنسان ككائن حقير لا أكثر. وليس البشر فقط، بل كل الأجناس قصيرة العمر. وحتى أنا، في نظر الإلف النقيين، أُعدّ نوعًا من المتحوّلين.”

ابتسم ريشار ابتسامة ساخرة، ثم قال:

“لكن، رغم كل ذلك، فإن الزعيم إيسيلينور يظل عمي، وهذه حقيقة لا تتغير.”

تبدلت تعابير وجهه بشكل يصعب وصفه، فلم أستطع إدراك كل ما كان يشعر به. فسألته بهدوء:

“وهل ستقابله؟”

“لابد أن أفعل. عليّ أن أقابل عمي.”