135
**************
في تلك اللحظة، شعرت بعيني تحترقان.
لقد اختفى ماتياس أيضًا، لذا من المفترض أن يكون كل شيء على ما يرام الآن، ولكن لا أعلم لماذا تستمر الدموع بالانهمار بغباء.
قال: “لقد بكت رين”.
وبمجرد أن سمعت تلك الكلمات، تحوّل شهقي الخفيف إلى بكاء مرير.
أمسكت بطرف ملابس سيزار بكلتا يديّ ودفنت رأسي في صدره.
كانت الدموع تتساقط بلا توقف.
مزيج من الحزن والأسى، والخوف والطمأنينة، كوّن دوامة ضخمة في قلبي.
كانت كفّ سيزار تربت على ظهري ببطء، وكأنها تخبرني بأن كل شيء سيكون على ما يرام، بأن لا شيء سيئ سيحدث.
تلك اللمسة الحنونة كانت تنقل لي ذلك الشعور.
بعد أن بكيت كثيرًا، بدأت دموعي تجف تدريجيًا.
شعرت بالحرج من بكائي كالأطفال فلم أرفع رأسي، بل اكتفيت بشهقة خفيفة، وإذا بسيزار يعانقني فجأة بشدة.
“رين، أنا آسف”.
“هاه؟”
ما الذي عليه أن يعتذر منه؟ لم أفهم ما قصده، فرفعت رأسي وأنا أشهق.
“كونك تورطتِ مع ذلك الوغد، فهذا كله بسببي”.
“ذاك… ذلك…”
لم أتمكن من إكمال كلامي، وهززت رأسي بسرعة.
أن يكتشف ولي العهد الثاني الموقف في ذلك الوقت لم يكن شيئًا يمكننا تفاديه.
من كان ليتوقع أن يفتح ماتياس باب الغرفة في ذلك اليوم؟
ولسببٍ أجهله، كان ماتياس مهووسًا بي.
“هذا ليس خطأك يا سيزار…”
وعندما قلت ذلك، عانقني سيزار بقوة أكبر.
بدأ صدري يضيق من شدة العناق، لكن الغريب أنني شعرت براحة عميقة.
بما أننا متلاصقان هكذا، استطعت أن أشعر بتنفسه، وبرعشة صوته عندما يتكلم.
“اللعنة، لم أتوقع أن يحاول فعل شيء كهذا. كان علي أن أراقبه عن كثب أكثر…”
لم أكن أظن أن سيزار يمكن أن يقول شيئًا كهذا.
لم تكن هذه أول مرة يغضب من أجلي، لكنه لم يسبق له أن واجه أحدًا بهذه البرودة والاتزان من قبل.
“سيزار، لقد تغيرت حقًا”.
نطقت بتلك الكلمات دون أن أشعر، فتوقف سيزار فجأة.
بدا كأنه يفكر في شيء ما للحظة، ثم سألني:
“…هل… هل تكرهين ذلك؟”
“هاه؟”
لم أكن أتوقع منه رد الفعل هذا، ففوجئت بدوري.
تمعنت في وجهه.
كانت نظراته كلها تنتظر ردي فقط، بعينين مليئتين بالألم.
نعم، لقد تغير سيزار حقًا بشكل مذهل.
لم يعد ذاك الشخص الذي كان يضع مشاعره فوق كل شيء.
التغيّر الذي طرأ عليه كان ملحوظًا بوضوح.
ما حدث للتو كان فرصة لرؤية جانب آخر منه لم أكن أعرفه من قبل.
هل أكره هذا التغير؟ بالطبع لا.
لقد أنقذني وأنا في ورطة، ويبذل جهده من أجلي، فكيف لي أن أكرهه؟
صحيح أنني شعرت بشيء من الغرابة وعدم الألفة.
لقد تغير فجأة بعد شهرين من البعد.
لكن عيناه القلقتان وهما تنظران إلي، وتلك النظرة التي لا ترى أحدًا سواي… كيف لي أن أكرهه؟
هززت رأسي ببطء.
“كيف لي أن أكرهك يا سيزار؟”
“حقًا؟”
ابتسم سيزار ابتسامة مشرقة عندما سمع كلامي.
كانت ابتسامته تخفق لها القلوب.
في كل مرة يبتسم، تتشكل تجاعيد جميلة حول عينيه، وتتلألأ عيناه بلون أعمق.
“بالطبع لا”.
وعندها عانقني سيزار بقوة وهمس في أذني:
“أحبك، رين”.
في تلك اللحظة، شعرت كأن قلبي يُعتصر بشدة من يد غير مرئية.
أصابني الدوار فجأة، وكل شيء من حولي أصبح واضحًا أكثر من اللازم.
كأن ريشًا ناعمًا نبت في بطني وبدأ يتحرك في كل مكان، شعرت بوخز خفيف بين أضلعي، ثم تملكتني قشعريرة رائعة وكأن جسدي بأكمله قد ارتفع عن الأرض.
كان يجب أن أقول شيئًا فورًا، لكن شفتاي لم تتحركا، فظللت أحدّق في عنقه بذهول.
تحركت تفاحة آدم في حلقه، ثم سمعت ضحكته الهادئة.
طبع قبلة خفيفة على جبيني.
كان من المفترض أن أجيبه قائلة: “وأنا أحبك أيضًا”.
لكن لا أعلم لماذا لم أستطع قولها كما في السابق.
ومع ذلك، أمسك سيزار بيدي دون أن يعبأ بالأمر، وقال لي:
“لنعد”.
“أ- أجل…”
اضطررت لخفض رأسي حتى أخفي احمرار وجهي خجلًا.
لم أستطع سوى اللحاق به، رغم أنني لم أجب بوضوح.
“هناك حجر على الأرض، انتبهي”.
كان سيزار يسير ببطء ليناسب سرعتي، وإذا كان هناك خطر في الطريق، ينبّهني مسبقًا.
وسألني أكثر من مرة إن كانت ساقاي تؤلمانني، أو إن كنت عطشى.
وأشار أحيانًا إلى سنجاب فوق شجرة، أو زهرة جميلة خلف الشجيرات.
كانت تلك اللفتات في غاية اللطف والدفء، حتى إن قلبي لم يتوقف عن الخفقان.
كان شعورًا دافئًا ومحرجًا، كالدغدغة.
حاولت التظاهر بالهدوء خوفًا من أن يلاحظ أحد نبض قلبي المتسارع، لكن الأمر لم يكن سهلًا.
وظلت أيدينا متشابكة حتى وصلنا إلى قصر الزمرد.
عند وصولنا، كانت ديلفينا بانتظاري.
ركضت نحوي وقالت:
“جلالتك، لقد عدتِ سالمة!”
“نعم، سيزار جاء في الوقت المناسب، فلم يحدث شيء”.
سمعت أن ديلفينا استطاعت الهرب من بيرتوتشيو أيضًا بمساعدة فيتوريو الذي صادف مروره في تلك المنطقة.
قالت إنها كانت قلقة من أن ذلك الوحش قد أقدم على فعل شيء شنيع.
قيل إن الفضل في وصول سيزار في الوقت المناسب إليّ كان يرجع لديلفينا.
لكن سيزار قال إنه شعر بخطر يداهمني حتى قبل أن توصله ديلفينا بالخبر.
“لابد أنكِ مرعوبة. سأجهز لكِ حساءً خفيفًا لغرفتك”.
كنا قد خططنا لتناول العشاء معًا، لكنني لم أكن قادرة على بلع أي طعام، لذا اكتفيت بالإيماء.
بقي سيزار بجانبي حتى دخلت إلى السرير.
ثم عادت ديلفينا ومعها الحساء الذي طحنتهُ بعناية.
“دعيني أطعِمكِ”.
“ل- لا داعي…”
صحيح أنني كنت مرعوبة، لكنني لم أكن مصابة أو ضعيفة لدرجة أنني لا أستطيع إطعام نفسي.
لكن سيزار أصر قائلًا:
“أريد أن أفعل أي شيء من أجلك”.
كانت نظراته حزينة للغاية لدرجة أنني لم أستطع الرفض، ففتحت فمي.
وضع الحساء في فمي بعناية، لا ساخنًا ولا باردًا، كأم تُطعم صغيرها.
بصراحة، لم أميز طعمه.
كنت أحدق في عينيه الحمراوين فقط.
نظراته المشتعلة جعلت جسدي يرتجف حتى الأعماق.
أمسكت بحواف الغطاء بإحكام كي أهرب من تلك النظرات.
تظاهرت بالتحديق خارج النافذة، أو النظر إلى الزخارف في السقف.
ولم يتحدث سيزار، بل انتظرني بصمت.
تحدثنا عن ما حدث في دار الإغاثة، وتبادلنا بعض المزاح، وقرأنا الكتب معًا.
وهكذا مر الوقت حتى تأخر الليل.
“حان وقت النوم. لقد تأخر الوقت”.
قال ذلك بهدوء ثم نهض، لكنني مددت يدي تلقائيًا وأمسكت بكمه.
“سيزار…”
لم أفهم لماذا فعلت ذلك.
تحرك جسدي قبل أن يفكر عقلي.
أوقفت خطواته الهادئة بمسك خفيف.
لم أقبض عليه بقوة، لكن ذلك كان كافيًا ليجعله يتوقف.
استدار إلي ببطء.
وفي هذه الليلة، بدت عيناه الحمراوان بلون أعمق وأكثر جمالًا.
منذ عودتنا من دار الإغاثة، لم نستيقظ معًا في الصباح إلا في اليوم الأول.
فمن غير المعتاد أن ينام الزوجان الملكيان في غرفة واحدة إلا في ليلة الجمع.
كان هذا طبيعيًا، لكنني لم أشعر بالارتياح حيال الأمر.
رغم أنني كنت قلقة من تغيره، تمنيت في قرارة نفسي ألا يبتعد عني كما في السابق.
والآن، لم أعد أستطيع كتمان مشاعري.
ربما بسبب ما مررت به نهارًا.
لست متأكدة إن كان هذا ما أريده حقًا.
لكنني لم أرِد أن يرحل.
شعور بالخوف الغامض دفعني للإمساك به.
قلت بصوت مرتجف:
“أنا خائفة من أن أبقى وحدي…”
لم أكن أفهم حتى ما أقوله،
لكنه كان صادقًا تمامًا.
كنت أشعر بالحزن لأنني سأبتعد عنه.
تمنيت أن نقضي هذه الليلة الطويلة سويًا،
كما كنا نفعل منذ زواجنا، نشارك بعضنا الدفء في السرير نفسه.
لذلك، لم أستطع أن أترك طرف ثوبه.
التعليقات لهذا الفصل " 135"