الفصل 123
كان الرجل أمامه يرسم ابتسامة غامضة.
ابتسامة تشبه ضحكة ملاك رؤوف، وفي ذات الوقت كأنها إغواء شيطان خبيث.
حتى عينيه الحمراوين المتقدتين، كل ما فيه كان يبث رهبة حادة تكفي لسحق من أمامه.
تمالك رئيس الخدم نفسه بالكاد وفتح فاه متحدثاً:
“م-ما الذي…؟”
لكنه لم يستطع إتمام عبارته.
فالحال الذي هم فيه كان أبعد من أن يصدق، بل وحتى راوده وهم أن هذا الأمير الأول قد ينقض عليه في أي لحظة ويمزق عنقه بأسنانه.
وكان حال الفرسان المتجمدين خلفه لا يختلف كثيرًا.
بل هم، بخبراتهم القتالية المكتسبة من معارك لا تُحصى ومطاردة الوحوش، كانوا أكثر حساسية لهذا الضغط الهائل الذي يكاد يسحق الجسد.
وكأن صخرة ثقيلة تجثم عليهم، لم يستطيعوا الحراك.
لقد عرفوا ما هو هذا الإحساس.
إنه يشبه ذلك الشعور حين يواجه المرء وحشًا هائلًا، أو لقاء قائد مخضرم خاض مئات المعارك.
ومن ثم، انهارت أرجلهم وانخفضت رؤوسهم تلقائيًا.
ففي معركة بين قوي وضعيف، من الطبيعي أن ينحني الضعيف ويطأطئ رأسه.
“فـ-فماذا… تقصد؟”
تمكن رئيس الخدم بالكاد من النطق، عندها ارتسمت على شفتي الأمير الأول ابتسامة بريئة.
ابتسامة ساحرة بما يكفي لتسلب لبّ من يراها، وقد حُفرت في ذهن رئيس الخدم.
قال:
“نظّفوا الغرفة، وأعدّوا ماء الاستحمام.”
“ن-نعم!”
ردّ رئيس الخدم على الفور، دون أن يدرك تمامًا معنى هذا الأمر.
حتى اللحظة التي انسحبوا فيها من الغرفة وهم يتراجعون، ظلوا في حالة من الذهول، غير مصدقين لما جرى للتو وكأنهم كانوا في حلم.
لكن عندما أُغلِق باب الغرفة الخشبي الثقيل وخفّت الهيبة المنبعثة من الأمير الأول قليلًا، بدأ الجميع يستعيد وعيه تدريجيًا.
تبادلوا النظرات فيما بينهم وكأنهم يتواصلون بصمت.
لم يكن ما رأوه هلوسة، لكنه بدا أشبه بحلم في وضح النهار.
***************
دخل عدد من الخدم بحذر وأعلموه بأن ماء الحمام وتحضيراته قد أُنجزت.
نظر سيزار إلى الماء الساخن المملوء في الحوض بابتسامة رضا، لكنه ما لبث أن أمرهم بصرامة أن يغادروا.
وقد بدا أن الخدم قد صُدموا من هذا التحول المفاجئ في سلوكه.
لكن، كحال رئيس الخدم، أسرعوا في اتخاذ القرار.
وهو الخضوع التام لسيدهم.
فهم لم يحتقروه في السابق إلا لأنه لم يُشعرهم يومًا بهيبة الأسر المالكة.
كان يتصرف كوحش متوحش يرفض الأوامر لا كأمير.
أما الآن، فهو يوجه إليهم الأوامر برأس مرفوع ونظرة واثقة.
رغم أنه لم يتحدث كثيرًا، فقد كانوا يشعرون بخوف أكبر منه مقارنة بأيامه السابقة حين كان يظهر أظافره وأنيابه
هذا التغير المفاجئ بدا غريبًا، لكنه أيضًا بدا مألوفًا؛ فالسادة غالبًا ما يكونون غامضي الطباع.
لذا، انحنوا له تلقائيًا.
فقد كان ذلك أسهل تصرف بالنسبة لهم، حتى لو كان هذا الشخص الذي أمامهم بالأمس أقل شأنًا منهم.
لم يكن أمامهم سوى الامتثال.
خلع سيزار ملابسه الممزقة ونظر إلى نفسه في المرآة الكبيرة.
بدا في غاية النحول، وعيناه قاسيتان من شدة ما مر به خلال الأسابيع الماضية دون طعام أو استحمام.
أتعلم؟ أنا أحب النظافة.
هكذا قالت “رين”.
استرجع كلماتها وتعاليمها ببطء.
لم تكن لتُحب أن تراه بهذا المظهر.
التقط صابونة من الصينية وشم رائحتها.
كان عبير اللافندر القوي يلامس أنفه.
في الحقيقة، لم يكن سيزار يميز ما إذا كانت هذه الرائحة طيبة أم لا.
فقط أدركها كرائحة مركزة لنباتات مسحوقة.
لكنه حين يشمها، تتدفق إلى ذهنه ذكريات مع “رين”.
فقد قالت إنها تحب هذه الرائحة، وكان عبيرها دومًا يعبق بها.
لذا، لم يكن لديه شك في أنها “رائحة جيدة”.
بدأ باتباع التعليمات التي علمته إياها.
الاستحمام، بحسب ما أخبرته، هو تطهير للروح من الدنس.
بالطبع، لم يكن يعرف ما هو الدنس، ولا ما هو الطُهر.
لكن كان لديه مقياس واحد: “رين”. كانت هي مقياسه الوحيد للخير والشر.
وبينما يغسل جسده كما علمته، بدأ يفكر في ما هو قادم.
لقد نجح في إيقاظ “أبراكساس” بالكامل، ونجح في إنقاذ “رين” بمساعدة حاكم قديم.
لكن هذا لم يكن كافيًا.
أولئك الذين يستهدفون “رين” ما زالوا أحياء ويتحركون.
جلس في الحوض، ينظر إلى سطح الماء قبل أن يغمر نفسه فيه بهدوء.
صحيح أنه قد سيطر على الخدم بقوة، لكنه يعلم أن هذا مجرد بداية.
خطوة ضئيلة لا تُذكر، ولا تكفي.
في الواقع، كانت حالته خلال الفترة الماضية مؤسفة للغاية.
لقد عومل كحيوان، مكبّل بالسلاسل لأسابيع.
رغم أن هذا لم يكن غريبًا عليه، فقد اعتاد على المعاملة السيئة طوال حياته.
لكن “رين” ستعود قريبًا، ولا يمكن أن يكون بهذا الحال حينها.
خرج من الماء ببطء، هز رأسه بعنف ليزيل الماء، فتساقطت قطرات من جسده الشاحب.
عبث بشعره بنفاد صبر.
قال لنفسه:
“لا يمكن أن أظل هكذا.”
لطالما عاش في ظل “رين”، يتلقى حمايتها.
لكن ذلك الزمن ولى.
كان عليه أن يودّع ماضيه الأحمق.
أدرك هذا بعد أن فقدها.
الآن، حان دوره ليحميها.
أغمض عينيه وتذكر ماضيه.
كان الموت رفيقه الدائم.
كل المآسي بدأت من والدته الإمبراطورة السابقة، “أدلايد إيزابريا”.امتلك سيزار ذاكرة مذهلة، فكل ما تعلمه في طفولته ظل حيًا في ذهنه.
لكن، وحدها ذكريات والدته كانت مغلفة بضباب خفيف.
منذ أن حلت عليه اللعنة، كانت والدته تبكي يوميًا، وتصرخ، وتعاني، وتلعنه.
حتى أنها أنكرت كل شيء يتعلق به.
“هذا ليس ابني!”
قالت ذلك.
ومع ذلك، كانت تزوره أحيانًا.
يتذكر خطواتها وهي سكرى تترنح إلى غرفته ليلًا، لمسة يدها على رأسه وهو يتظاهر بالنوم، وعطرها الثقيل.
كما يتذكر رائحة الموت التي لا يُخفيها العطر.
ربما كانت ذكرياته الغامضة بسبب فقدانه لعقله بفعل اللعنة.
فهو لا يذكر نهاية والدته، تلك النهاية البائسة حين لم تعد تتحمل جنونها فانتحرت.
ملأت مرضعته “ميرسيدس” مكان والدته.
اعتنت به كثيرًا، لكنها بدأت تتغير حين وقعت عليه اللعنة.
وكانت تلك المأساة الثانية.
حينها كان قد غرق بالكامل في ظلمات اللعنة، لا يعرف أين هو، منكمشًا من الألم.
ثم جاءت مأساة أخرى.
أربع خطيبات قُتلن.
لم يدرك موتهن جيدًا.
كان يستيقظ صباحًا ليكتشف أن من رآها أمس قد ماتت.
وحتى إن علم، فلم يكن قادرًا على منع القتل.
لم يعرف كيف أو لماذا، فقط استسلم لكل شيء.
كان جاهلًا.
لا يعرف معنى الموت، ولا ما يعنيه، ولا مدى بؤسه وألمه.
حتى اليوم، حين يتذكر ذلك العجز، تشتعل نيران الغضب واليأس في صدره.
قبض على يده بشدة حتى سال الدم من راحة كفه، لكنه لم يهتم.
ربما، لو امتلك قوة أكبر لمقاومة اللعنة، لو لم يستسلم، لكان أنقذ أولئك النسوة.
لكن ما مضى لا يعود.
الأرواح التي رحلت لا يمكن إعادتها.
ومن أخبره بهذه الحقيقة كانت “إيرينيا”.
إيرينيا، أغلى إنسان في حياته، والتي أعطته الأمل ليعود مجددًا كما هو.
قال بصوت حازم:
“لا يجوز أن تُصاب رين بأي مكروه.”
وهز رأسه بقوة، متفكرًا مجددًا في مصيره.
التعليقات لهذا الفصل " 123"