120
كان سيزار.
لقد خرج سيزار لاستقبالي.
فجأةً غمرتني المشاعر، وكادت دموعي تنهمر دون أن أدري.
“سي، سيزار…”
كنت أظن أنه سيركض نحوي ويعانقني في أي لحظة.
لكن سيزار، واقفًا باستقامة شديدة، لم يرمقني إلا بنظرة واحدة، ثم أعطى أمرًا للخادم الواقف بجانبه.
“فترة التأمل الطويلة لا بد وأنها أثّرت على صحة الأميرة، فلتساعدوها على التخلص من عناء السفر.”
“نعم، سموّ الأمير.”
أخذ الخدم يتحركون بسرعة وهم يحملون الأمتعة القليلة التي كانت في العربة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك.
فقد تقدّمت نحوي وصيفات يسألن عن حالي ويأخذن عني المعطف والقبعة.
لم أكن قد تلقيت مثل هذا الترحيب في القصر الإمبراطوري من قبل، لذا لم أكن أستوعب ما يحدث، حينها مدّ سيزار يده نحوي.
أمسكْت بها لاشعوريًا.
وفجأة، قبّل ظهر كفي.
قبلة على اليد؟
“لقد عانيتِ كثيرًا خلال الفترة الماضية، أميرتي.”
“آه…؟”
لم أكن أفهم ما يحدث أمامي. ماذا ناداني به سيزار الآن؟
“سي… سيزار؟”
في تلك اللحظة، شعرت بدوار كاد أن يُظلم معه بصري.
هناك خطأ ما.
شيء ما ليس في مكانه.
أو ربما، ليس هناك خطأ.
ربما، فقط ربما، أنا أحلم؟ فقمت بعضّ داخل فمي بخفة.
الألم كان حقيقيًا.
إذاً، ليس حلمًا.
“ما الخطب؟”
حين وقفت في مكاني دون حراك، سألني سيزار مجددًا.
صوته كان رزينًا، مهذبًا، لا عيب فيه، مغايرًا تمامًا لسيزار الذي كنت أعرفه.
“ذا… ذلك…”
وقفت جامدة وأنا أتابع هذا المشهد، حتى شعرت أن الدوخة ستسقطني.
من هذا؟ أين ذهب سيزار الذي أعرفه؟ رجل غريب يبتسم لي.
هل هذا حقًا سيزار؟
ولما وقفت مدة طويلة دون أن أتحرك، بدأت أسمع همسات من حولي.
ففزعت وأجبت سريعًا:
“ط، طاب لقاؤنا بعد طول غياب…”
لكن صوتي راح يخفت شيئًا فشيئًا، حتى صار في النهاية مجرد همهمة بالكاد تُسمع.
حتى الجملة التي تمرنت على قولها مرارًا في العربة، أنني سعيدة بلقائه مجددًا، لم أتمكن من قولها كاملة.
رافقني سيزار حتى غرفتي الخاصة.
عادةً، كان يُصر على الدخول معي.
لكن هذه المرة، أوصلني حتى الباب فحسب، وابتسم ابتسامة خفيفة.
لقد كان تجسيدًا كاملاً للسيد النبيل.
“ش، شكرًا لك…”
لم أستطع أن أسأله: ألا تدخل؟ فحتى إن كنا زوجين، فإن الأميرة لا تشارك زوجها غرفة النوم، وهذا هو الصواب في الحقيقة.
رغم ذلك، كان هناك ما يدعو للريبة، فبقيت أتأمل وجه سيزار.
لكنه لم يبدِ شيئًا سوى ابتسامةٍ أقرب إلى الكمال.
حينها، شعرت وكأن قلبي هبط إلى قاع معدتي.
كانت دلفينا منشغلة بترتيب أمتعتي، وحان وقت أن أكون وحدي تمامًا.
“سأدخل الآن…”
قلتها بصوت مضطرب، ثم انحنيت له شاكرة، ودخلت غرفتي بسرعة.
شعرت كأن صقيعًا تسلل إلى صدري، حتى العظام.
كان قلبي منقبضًا، لكنه ينبض بجنون.
اضطررت إلى التنفس بعمق مرارًا.
لكن هذا الشعور المزعج لم يفارقني، وكنت أشعر بوخز في حلقي.
غرفتي، بعد شهرين من الغياب، كانت مألوفة وغريبة في آنٍ معًا.
لا، في الحقيقة، ما كان غريبًا أكثر هو سيزار.
من كان ذلك الشخص الذي رأيته لتوي؟ آخر مرة رأيت فيها سيزار، كان ينهار في قاعة الحفل.
وبالرغم من أن ذلك كان مقلقًا أيضًا، إلا أن ما حدث الآن لم يكن شيئًا توقعته قط.
كان الأمر غريبًا.
هل يمكن أن يكون سيزار الحقيقي قد اختُطف، وظهر بدلاً منه مزيف؟ أم أن سحرًا أسودًا من الإمبراطورة، أو لعنة التنين المجنون، حولته إلى..
.
“… لا، لا يمكن أن يكون قد جعله بهذه الحال السليمة!”
صحيح.
من رأيته قبل قليل لم يكن أحدًا سوى سيزار نفسه.
هذا أمر مؤكد.
ومع ذلك، لم أشعر بأن ما يحدث حقيقي.
وضعت يدي على جبهتي، وهززت رأسي ببطء.
لكن شعرت وكأن قطعة من الرصاص جاثمة على صدري، فلم أتمكن من التنفس بشكل جيد.
شعرت وكأنني مسكونة بروح.
فقدت كل قوتي، وارتخت كتفاي تلقائيًا.
لم يكن أمامي إلا أن أمشي ببطء إلى السرير.
في تلك اللحظة، سمعت صوت الباب يُفتح بصوت خفيف.
التفتّ ببطء، فرأيت سيزار ملتصقًا عند المدخل، يحدق بي بصمت.
“آه، سيزار. ما الأمر؟”
“…”
لم يجبني. فقط صمت.
فأملت رأسي بصمت.
لكنه لم يجب.
بدا وكأنه يكتم شيئًا بشدة.
كانت شفتاه مضغوطة وترتجف، وعيناه تلمعان كأنهما تحتويان على كل نجوم السماء.
لكن نظرته كانت متجهة إليّ وحدي.
هذا، هذه النظرة اللامعة، ذكّرتني بسيزار الذي كنت أعرفه. لا، هذا هو نفسه سيزار الذي أعرفه.
لذا، دون أن أدري، فتحت ذراعي بصمت.
حينها، وكأنه كان ينتظر، اندفع سيزار باتجاهي وارتمى في حضني.
كانت حركته أشبه بحركة صقر ينقض على فرخ… سريعة وخاطفة، حتى أنني سقطت بجانبه على السرير من قوة الاندفاع.
“رين!”
“سيزار…”
ما إن سمعت صوته البهيج حتى عاد قلبي إلى مكانه.
بدأ الدم يتدفق في جسدي البارد.
التصق بي سيزار، جسده يرتجف، ولم يبدِ أي نية للابتعاد.
شعرت ببلل على كتفي، فنظرت إلى وجهه، فرأيت الدموع تتجمع في عينيه.
“رين، لقد، لقد اشتقت إليك كثيرًا…”
حين رأيت ذلك، لم أتمالك دموعي بدوري.
فمددت يدي لأمسح جبينه وغرّته.
“سيزار، هل كنت بخير طوال تلك الفترة؟”
كانت أصواتنا مختلطة بالدموع، فكانت مشوشة.
لكننا نظرنا لبعضنا البعض وضحكنا بين بكاء وآخر.
نحن الذين لم نفترق منذ لقائنا الأول، كانت تلك المدة القصيرة بالنسبة للعالم، طويلة جدًا علينا.
من خلال هذا البعد الطويل، أدركنا أمرًا مهمًا: أننا نحمل المشاعر ذاتها.
أنا، وسيزار أيضًا، تظاهرنا بالتماسك طيلة الشهرين، لكننا في الحقيقة كنا نشتاق لبعضنا كثيرًا.
حين راودني هذا الشعور، اجتاحتني موجة من الراحة.
لم يكن هذا الشعور لي وحدي.
القلق، الشك، الحزن، والوحدة التي كانت تلاحقني كأنفلونزا الشتاء، لم أكن أشعر بها وحدي.
تلك الحقيقة جعلت قلبي ينتفخ فرحًا.
كلمة “اشتقت إليك” التي قالها سيزار بدفء، أذابت كل الشكوك التي كانت بداخلي مثل الثلج تحت شمس الربيع.
“خـ…خلال غيابك… ههق… كنت أتدرّب…”
أخبرني سيزار، وسط شهقاته، أنه تدرب مع ريشار مرارًا وتكرارًا ليبدو ناضجًا.
تخيلت المشهد، ولم أتمالك الابتسام.
ما زلت أتذكر كيف كان سيزار يخاف من الحشود في الحفلات.
كيف تمكّن من تجاوز ذلك؟ لا بد أن الأمر كان صعبًا.
“نعم، لقد كنتَ حقًا ناضجًا.”
حقًا، سيزار الذي رأيته الآن كان ناضجًا لدرجة أنني كدت لا أتعرف عليه.
لقد كان أمرًا رائعًا.
أردت أن أمدحه من أعماق قلبي، وشعرت بفخر لا يوصف.
لذا عانقته بقوة.
حينها، وكأنه تذكّر كل أحزانه، بدأ بالبكاء بصوت مرتفع.
كان بكاؤه يذيب قلبي.
“أحسنت. فعلتَ جيدًا، سيزار.”
بدأت أُربّت على ظهره وأمدحه بلا توقف.
ولم أنسَ أن أقبّل وجنتيه بعد طول غياب.
مرة على اليسرى، وأخرى على اليمنى.
عندها فقط، توقف سيزار عن البكاء.
“هل… هل كنت جيدًا فعلًا؟”
نظر إليّ بعينين ممتلئتين بالدموع، فشعرت بوخز في صدري.
“نعم، لقد كنت رائعًا حقًا.”
كنت صادقة تمامًا.
لهذا، شددت من احتضانه.
فابتسم سيزار لي وهو ينظر إليّ بعينين لامعتين.
لا أعلم لماذا، لكنني شعرت أنني أعرف ما سيفعله لاحقًا، فضحكت بعد طول غياب.
“إذاً، هل تطلب قبلة الآن؟”
وهكذا، سبقت سيزار و أفسدت عليه اللحظة قبل أن يتمكن من قول أي شيء.
التعليقات لهذا الفصل " 120"