112
**********
“هل هي تلك الفتاة؟”
“نعم، هناك، تلك الشقراء.”
“تافه! ماذا تفعل آنسة راقية المظهر كهذه في مكان مثل هذا؟”
في مطبخ دار الإحسان، تجمعت رؤوس صغيرة متعددة متلاصقة.
كانوا أطفالًا صغارًا، وكلٌّ منهم يتسلل بنظرات فضولية نحو المطبخ.
“أنتم هناك! لا تتجمعوا!”
لكن سرعان ما تفرّقوا بفوضى بعد توبيخ مديرة الدار، الراهبة المسؤولة.
ومع انفجار ضحكاتهم الصاخبة، عمّت البهجة أجواء دار الإحسان الكئيبة.
فحيثما وُجد الأطفال، لا بد أن يلين الجو.
نظرتُ إلى حيث كان الأطفال مجتمعين وابتسمتُ خلسة، ثم عدت لأحرّك العصيدة في القدر كي لا تلتصق بأسفله.
خلال وقت الطعام، نقوم بتوزيع العصيدة على نزلاء الدار.
وبما أن الموارد شحيحة، فإن جمع كل المكونات المتاحة في قدر واحد هو أفضل وسيلة لإعداد وجبة مشبعة.
لحسن الحظ، يوجد لدينا فرن حجري، ما يتيح لنا مشاركة خبزٍ أسود وخشن طازج معهم.
هناك أماكن أسوأ حتى من هذا، لا تملك ذلك.
“بعد أن نطعم كل الموجودين هنا، يجب أن نوزع الطعام على المرضى أيضًا.”
ناولتُ فيتّوريو القدر.
فأخذه وخرج به ليوزع الطعام على من تجمّعوا في الخارج.
كانت دار الإحسان مقسّمة إلى عدّة مناطق؛ في الخارج يقطن الأشخاص الأصحّاء نسبيًا، أما في الداخل فيقيم المرضى أو كبار السن الضعفاء.
“هيا، اقتربوا الآن.”
ضربتُ القدر بالمغرفة معلنةً وقت الطعام.
كان الجميع يمدّون أوعيتهم الخشبية في آنٍ واحد، مما جعلني أفقد تركيزي.
لكن، وبفضل دِلفينا التي رتبت الصفوف بشكل منظم، أتممنا التوزيع دون مشاكل تُذكر.
“فلنتناول طعامنا نحن أيضًا، إذًا.”
عاد كل من دِلفينا وفيتّوريو بعد إنهاء عملهما، فناولتهما أطباق العصيدة التي كنت قد خصصتها لهما سلفًا، لكن فيتّوريو هزّ رأسه رافضًا بشدة.
“لا يُسمح لي بالأكل أثناء المهمة.”
رفض حتى الجلوس إلى نفس الطاولة معي، وخرج يتفقد المنطقة بنظرات يقظة.
“لا يوجد من يمكنه إيذائي هنا على أي حال.”
رغم أنني شعرت أنه متشدّد أكثر من اللازم، إلا أنني لم أكره ذلك.
“لكن ما الذي يأكله فيتّوريو أصلاً؟”
كان من الغريب أن رجلاً بالغًا قوي البنية لم يُرَ يأكل أبدًا.
“سألته ذات مرة، وقال إنه يحمل دائمًا مؤنًا جافة للطوارئ.”
إن ما يتناوله من بقايا الطعام أو مؤن الطوارئ مذاقه فظيع للغاية.
“لا يمكن التعود على مثل هذه التصرفات منه.”
تمتمت دِلفينا متذمرة من قلة اجتماعية فيتّوريو وجموده.
“لكنه أفضل من لا شيء، وجوده معنا أهون من أن نكون وحدنا تمامًا…”
“نعم، هذا صحيح…”
كانت الحياة هنا قاسية: طعام جاف، نوم غير مريح، وبيئة غريبة لا يمكن وصفها بالراحة.
ومع ذلك، لم يشتكِ أي من الاثنين حتى الآن.
مضى على وجودي في هذا المكان بضعة أسابيع.
نظرت حولي في قاعة الطعام.
الجميع كان يأكل بلا حيوية.
لم أرَ سوى أطفال وكبار سن يلتهمون الطعام بنهمٍ شديد.
“ألا تلاحظين أن لا وجود للشباب هنا؟”
أومأت دِلفينا برأسها قائلة:
“صحيح. حين أتينا أول مرة، كان هناك عدد قليل من الشباب، أليس كذلك؟”
“هل غادروا الدار منذ ذلك الحين؟ حتى لو لم يكن الشتاء، عدد الناس قليل جداً.”
في الواقع، كان من النادر رؤية أحد في منتصف العمر هنا.
إما أطفال صغار أو شيوخ مسنين.
حتى لو كان هذا المكان مأوى للضعفاء، لم يكن من المنطقي أن يغيب البالغون تمامًا.
“الجميع ذهب للعمل.”
قال ذلك أحد الشيوخ بصوت منخفض.
“عذرًا؟”
تفاجأت وسألته مجددًا، فأعاد القول:
“الجميع ذهب للعمل.”
في البداية، لم يكن الناس هنا يعيروننا اهتمامًا، لكن يبدو أنهم بدأوا يعتادون علينا، حتى صاروا يلقون التحية.
واليوم، بادر هذا الرجل بالكلام.
“ذهبوا للعمل؟”
“نعم. شباب هذه الأيام يبحثون عن عمل سهل فقط. لقد رحلوا جميعًا.”
هل كانت الدار تُوفّر وظائف؟ لكن شعورًا غريبًا بدأ ينتابني.
فتابعت الحديث معه.
“وما نوع العمل السهل هذا؟”
أجاب وهو يمضغ عصيدته ببطء:
“أنا كبير في السن فلم أُقبل. قالوا إنه لخدمة أحد النبلاء…”
“خدمة نبيل؟”
“نعم، هذا ما قالوه.”
وأيدته امرأة مسنّة بجواره قائلة:
“قالوا إنهم بحاجة إلى خدم في قصر أحد الكونتات، فانطلق الشباب جميعًا إلى هناك.”
“قصر كونت؟”
“نعم… ذاك الذي اشتهر بالتجارة…”
عند سماع تلك الكلمات، ساورني شعور سيء.
“كونت مشهور بالتجارة”—رغم وجود كثيرين تنطبق عليهم تلك الصفة، تذكرت على الفور بيتًا واحدًا:
“كاستيلو…؟”
نطقت الاسم دون وعي، فهزّ الشيوخ رؤوسهم مؤكدين.
“نعم، كاستيلو أو تولوريس أو شيء من هذا القبيل.”
“آه، فهمت…”
“لكن شباب هذه الأيام يسعون خلف السهولة، لا يصلحون لشيء…”
بدا أن الشيوخ يعانون من ضعف الإدراك، فقد ظلوا يكررون الكلام ذاته.
نظرتُ إلى دِلفينا بقلق، فقالت بوجه متجهم:
“لا يعقل أن يبحث بيت نبيل، وتحديدًا بيت كونت، عن خدم من دار إحسان…”
“أليس كذلك؟”
بالفعل، نادرًا ما يُوظَّف الخدم في بيوت النبلاء بهذه البساطة.
فعادةً، يُؤتى بهم عبر توصيات ومن خدم سابقين لدى عائلات نبيلة أخرى.
أمّا جمع الخدم من بين المتسولين والمشردين، فهو أمر لا يُصدق.
وأمر آخر أثار شكوكي: بيت “كاستيلو”.
ذلك البيت مرتبط ارتباطًا وثيقًا بوالدتي بالتبني، دوقة فلوريس، سيليستينا.
وبحسب ما أذكر، كان رب بيت كاستيلو الحالي هو ابن خالها.
“دار الإحسان وكاستيلو… ما الرابط بينهما؟”
مؤخرًا، لمع نجم كاستيلو بسبب استثماراته الناجحة في مناجم العالم الجديد.
كان الكونت كاستيلو، وريث مهنة الشحن البحري، مغامرًا ومستكشفًا شهيرًا، وقد نال وسامًا من الإمبراطورة.
نجاحه في استثماراته لم يكن مفاجئًا.
لكنني أتذكر جيدًا أنه بدد ثروته بسبب ديونه القمارية، وكان كثيرًا ما يستدين من سيليستينا.
“كاستيلو…”
رغم شهرة الكونت، فقد سرت شائعات بأن دوقة فلوريس هي من تموّل عملياته.
ثم هناك قصة اختفاء الشباب.
شعرت أنني سمعت بذلك في مكانٍ ما من قبل.
“في أرض ريشار، غابة شجر البتولا الفضي، قيل إن شبابًا اختفوا أيضًا.”
رغم أنه لا يمكنني الجزم بوجود رابط مباشر، انتابني مجددًا ذلك الإحساس القوي—والسيئ جدًا.
وقد أثبتت لي خبرتي أن مثل هذا الشعور نادرًا ما يُخطئ.
“يجب أن أتحرى أكثر.”
ومنذ ذلك الحين، بدأت بجمع المعلومات تدريجيًا.
ولحسن الحظ، كان الناس متعاونين معنا.
“نعم، قبل أشهر كان هناك الكثير من الأخوات والإخوة الكبار، لكنهم جميعًا اختفوا.”
كنت أستدرج الأطفال والشيوخ بلطف أثناء توزيع الطعام وأسألهم.
“قالوا إنهم ذهبوا للعمل. سمعنا أن قصر الكونت الصيفي بحاجة إلى عمال.”
بعضهم أعطاني إجابات معقولة نوعًا ما.
“لقد خُطِفوا جميعًا. قال أخي إنه سيرسل رسالة عندما يصل، لكن مضت شهور ولم نسمع منه.”
كان هناك من يذرف الدموع قائلاً إن أحد أفراد أسرته قد اختفى.
من مجمل هذه الشهادات، تبين أن هناك من يأتي بدعوى توفير عمل، ويأخذ الناس معه من هذا المكان.
“اختفاءات…”
في الوقت الحالي، لم تكن سوى خيوط مبعثرة.
لكن شيئًا ما لم يكن على ما يرام.
وما أزعجني أكثر هو أن هذا المكان دار إحسان.
معظم من فيه لا أهل لهم.
وإن اختفى أحد، فلن يلاحظ أحد.
وإن لاحظ، فمن السهل إسكات الأمر لأنهم من الفئات المهمشة.
يصعب تصديق أن الأمر مجرد صدفة.
“لماذا يجمع كونت كاستيلو مثل هؤلاء الناس؟ وما هدفه؟”
على أي حال، كانت المعلومات التي يمكنني جمعها من هنا محدودة.
لذا كان عليّ مقابلة ريشار.
في الواقع، منذ أن جئت إلى دار الإحسان، لم أتمكن من التواصل مع القصر الإمبراطوري.
لم تكن هناك وسيلة، كما أن التواصل العلني خلال فترة العقوبة كان سيُستغل ضدي.
لكنني كنت أملك “فرخًا سحريًا” يمكنه إيصال الرسائل إلى ريشار.
وفي منتصف الليل، حيث لا يوجد أحد، استدعيتُ
“آب”.
“آب.”
فما لبث أن ظهر في الهواء متوهجًا بلون ذهبي.
لكن كان هناك شيء مختلف تمامًا في مظهره عن المعتاد.
“أوه؟”
التعليقات لهذا الفصل " 112"