الفصل الأول
“أين زوجتي؟”
عاد سيزار، ولي عهد الإمبراطورية وأميرها الأول، من حملة دامت عامين ضد قبائل الشياطين، طاردهم حتى ما وراء الحدود.
وما إن وطئت قدماه أرض العاصمة حتى كان أول ما سأل عنه هو حال زوجته.
كانت وجوه الخدم متوترة لا تخفي اضطرابها، حتى قبل أن يدرك سيزار السبب، بادره كبير الخدم قائلاً:
“صاحبة السمو، زوجتك، تمر بوعكة صحية وتخضع لفترة نقاهة.”
“زوجتي؟ ما بها؟ ما الذي أصابها؟”
طوال الحرب، لم ينقطع بينهما التراسل ولم تذكر قط شيئًا عن اعتلال صحتها.
أن يأتيه هذا الخبر فجأة أشعل في صدره نار القلق.
“لقد أعربت عن رغبتها في حضور حفل الليلة، فإن شرفتنا بحضورك، ربما تتسنى لك رؤيتها.”
لكن سيزار لم يرد. خادم شاب تردد قليلاً، ثم مد يده نحو درعه يحاول التلميح.
كاد يهمّ بالتحرك فورًا…
في قلب تلك الحرب الطويلة، كان أمله الوحيد ومصدر قوته هو الإيمان بأن إيرينيا، زوجته ورفيقة روحه، تنتظره.
وحين شعر كبير الخدم بتوتره، تدارك الأمر بلطف:
“سيدي، إن ذهبت إليها بهذه الهيئة، قد تروعها رؤيتك.”
توقف سيزار لحظة. كان قلبه يتلهف لرؤيتها، ليطبع قبلة على شفتيها، ليطمئن بأنها بخير.
“قليلٌ من الصبر… فقط لحظات تفصلني عن لقائك…”
لكن الخدم أصروا برفق،
“رائحة دماء الشياطين لا تزال عالقة بملابسك. قد تخيف صاحبة السمو.”
“هي؟”
ابتسم سيزار ساخرًا، إيرينيا لم تكن ممن تخيفهم مثل هذه الأمور. ومع ذلك، أومأ برأسه موافقًا.
نعم، كانت تبدو قوية، لكنها كانت ضعيفة على نحوٍ لا يُرى أحيانًا. خاف دومًا أن ينكسر شيء بداخلها لو أمسك يدها بقوة.
كان شاحب الوجه، نحيل الخدين، إرهاق الرحلة الطويلة بغير نوم أو طعام بادٍ عليه. خشي أن تعاتبه إن رأته بهذا الحال.
فاستجاب لنصح الخدم، وتطهّر وبدّل ثيابه.
عامان… عامان مضيا وهو يعدّ الأيام لرؤيتها. فاض قلبه بالحنين، وكأن عاصفة تخبط صدره من الداخل.
قاعة الاحتفالات في القصر كانت تضجّ بالحياة. النصر ظل يُحتفل به لأيام. أضواء المصابيح أضاءت المكان كنهار ساطع.
أصوات الكؤوس تتصادم، الضحكات تعلو، والهواء اختنق بعطر ثقيل.
أعلن أحد الخدم:
“ليتقدم وريث التاج الشرعي لتاج الصليب الحديدي المقدس، سيزار، سيد التنين الساطع، حامي إمبراطورية آسيتريا!”
ساد صمتٌ مفاجئ، لكن همسات خافتة لم تتوقف:
“إنه هو.”
“وسيم إلى هذا الحد؟ وكان ملعونًا؟”
“قيل إنه روّض دماء التنين بالكامل!”
كان يسمعهم جميعًا، يمتلك من القوة ما يفوق البشر. لكنه لم يكترث. كل ما أراده هو أن يرى شريكة حياته، رفيقته…
بشعرها الذهبي المتماوج كأعشاب القصب في الريح، وعينيها بلون براعم الربيع.
إيرينيا. رين. قلبه، ونصفه الآخر.
حينها أعلن الخادم:
“صاحبة السمو زوجة ولي العهد تدخل القاعة! قفوا احترامًا!”
قفز قلبه في صدره، وارتسمت ابتسامة لا إرادية على وجهه، التفت متلهفًا…
لكن هناك خطبٌ ما.
كانت المرأة القادمة ترتدي فستانًا أحمر براقًا، تقترب منه بابتسامة رسمية.
“تهانينا على انتصارك سمو الأمير.”
لم تكن إيرينيا. بل كانت جيوفينيتا، أختها غير الشقيقة…
**
كانت العاصمة تعيش فرحًا صاخبًا، وملامح الناس تفيض بهجة.
من الشرفات نُثرت القصاصات الورقية الملونة، تهبط كثلوجٍ ناعمة في كل زاوية.
في هذا اليوم المبهج، حيث تلتقي البشائر بالبشائر… كنتُ وحدي، أضم قلبي المتألم، وأبكي.
“ذلك اللعين…”
مسحتُ دموعي بظهر يدي، ثم نظرتُ نحو برج الأجراس.
من بعيد، ارتفع الغبار — فرسان الفوج اقتربوا من البوابة.
كنت أعلم أن القائد هو سيزار.
ولي عهد الإمبراطورية، وزوجي… أو لعلّ الأصح الآن أن أقول: زوجي السابق. عاد بعد عامين من الحرب.
كتيبة “القمر الأسود” التي يقودها، انتصرت في كل معركة، بلا هزيمة، حتى حققت النصر العظيم.
الإمبراطور غويدو، غمرته الفرحة، فوعد سيزار بمنحه تاج “الصليب الحديدي المقدس”. إعلانٌ صريح بأنه الوريث القادم.
وجعلت العاصمة من هذا اليوم عيدًا وطنيًا، أسبوعًا كاملاً من الاحتفالات تكريمًا لعودة الأبطال.
خرج الجميع لرؤية وجه الأمير المنتصر، ذلك الذي كان يومًا ملعونًا ومنبوذًا، والآن يُشاد بجماله وقوته.
كان سيزار، بدرعه الأبيض وعباءته الأرجوانية، يلمع كإله حرب من أساطير القدماء.
وما إن نزع خوذته حتى دوّت الهتافات:
“يحيا الأمير سيزار!”
“عاش الأمير!”
شعره الليلي يتمايل في الهواء، قسمات وجهه الوسيمة، بشرته كالثلج النقي، وعيناه قرمزيتان كنبتة عنب الثعلب.
لم يكن يبدو قائدًا منتصرًا، بل شاعرًا جوالًا يعزف على عود.
رؤيته بهذا الجمال، بعد طول غياب… جعلت الدموع تنهمر مجددًا.
وبكيت. لم أستطع التوقف. كل ما كنت أستطيع فعله هو النظر إليه من الأعلى… من هذا البرج البعيد.
لحسن الحظ، صيحات الناس غطت نحيبي.
فجأة، التفت سيزار للخلف.
“…!”
ارتبكت، وانحنيت لا إراديًا. ربما محض صدفة، لكن بدا وكأنه ينظر ناحيتي.
من المستحيل أن يراني من هذه المسافة.
ذلك الذي، حتى حين كان بقربي، لم يشعر يومًا بألمي.
أقبل نحوي أحد الخدم:
“حان وقت الرحيل يا سيدتي.”
“أعلم…”
جمعتُ شتات ملامحي، وبدأت بخطى ثقيلة مغادرة المكان.
كان الخروج من العاصمة سهلاً بشكل غريب. أقلّتني عربة أعدها القصر، واتجهنا إلى أطراف المدينة.
كانت حوائجي بسيطة، لا تتعدى صرة صغيرة.
وبرفقتي حراسٌ صوريون، وجودهم أقرب للرقابة منه للحماية.
نعم، كنتُ زوجة ولي العهد، يومًا ما… لكن حتى في رحيلي، بدا الأمر باهتًا ومُذلًا.
كأنهم يخبرونني صراحة:
“أنتِ بلا قيمة.”
توقعت هذا. هكذا كانت حياتي دومًا. بلا سند، بلا شيء.
تذكرتُ صورته الأخيرة، كم هو جميل الآن… لم يعد ذاك الوحش المشوّه.
خلع قبحه، وأصبح من أجمل الرجال.
صفاته الحقيقية ظهرت لاحقًا: دمثٌ، رقيق، وذو عقل راجح.
وحين اجتمعت عبقريته بقوة التنين التي ورثها، صار لا يُضاهى.
لكن الإمبراطور فضّل دومًا الابن الثاني، ابن الإمبراطورة كورنيليا التي يحبها.
لذا لم يثق أبدًا في سيزار، حتى بعدما تغير.
في الحقيقة، أرسل سيزار إلى الحرب ليتخلص منه.
كان يرى في موته مصلحة، وفي نجاته مكسبًا مؤقتًا.
الجميع ظن أنه سيهلك… حتى أنا.
لذا، تمسّكت به.
«سيزار، إن ذهبت ستموت… أرجوك، لا تذهب.»
كان دائمًا يُصغي إليّ، يطيع كلماتي دون جدال. ظننتُ أنه إن توسلتُ إليه، سيتراجع. لكنه تغيّر، كما تغير مظهره… حتى قلبه تبدّل. دفعني ببرود حين أمسكتُ بكمّ ثوبه بشدة، أرجوه أن يبقى.
«سأعود، أعدك بذلك.»
قالها بتعبير حاسم، يحمل من العزم بقدر ما يحمل من الفراق. تركني أبكي وحدي، دون أن يحاول حتى تهدئتي، وانطلق في ذلك الطريق الوعر، إلى المجهول.
رغم علمي بأن مشاعري أنانية، تمنّيتُ لو يُصاب بأذى، أي أذى… تمنّيتُ لو يعود إليّ وقد تهشّم جسده، وقد بات معاقًا مثلي. أردته أن يندم، أن يحتضنني ويصرخ نادمًا: “ليتني استمعت لكِ.” أردته أن يبكي… أن يتحسر.
«كان بإمكانك أن تحيا ناقصًا فحسب…»
همست بها، بصوت يقطر ألمًا وسخطًا. لو أنه بقي كما كان، ناقصًا بفعل تلك اللعنة، ألن يكون ذلك أفضل؟ لربما لما وصلت الأمور إلى هذا الحد… لربما ما كان ليترك قلبي ويذهب إلى امرأة أخرى، تلك المرأة التي هي — للأسف — أختي غير الشقيقة.
من خلف نافذة العربة، بدأ المطر يتساقط بهدوء. لم يكن هناك غيم منذ قليل، لكن السماء سرعان ما اسودّت، كأنها تواسي قلبي. دموعي لم تتوقف، حتى ابتلت مقدمة ثوبي تمامًا.
«…وغد.»
لقد تخلّى عني.
التعليقات لهذا الفصل " 1"
مفروض انه يسمعها صح؟ 🥹