كان غيرو يتحدث كما اعتاد، متقطعًا ومتلعثمًا،
“أنا….رحيل….أمكِ….دواء.…!”
فشهقت سيسيل بدهشة كبيرة.
“إذاً حين تركتَ البيت رغم معارضة أمي وسافرتَ للتجارة، كان ذلك في الحقيقة بحثًا عن دواءٍ لعلاجها؟”
هز رأسه بقوة، مؤكدًا.
بين الأب وابنته كان التواصل يجري بسلاسة طبيعية. لكن الآخرين من حولهما تبادلوا نظرات حائرة.
فغيرو لم يُكمل جملةً كاملة حتى الآن.
‘هل هذه قراءة أفكار؟’
‘كيف تفهمه بهذا الشكل؟’
صحيحٌ أنه كان يعتاد التعبير ببضع كلمات فحسب، لكن ما يحدث الآن مختلف؛ فالجُمل مبتورة والمعلومات ناقصة.
ومع ذلك، سيسيل كانت تلتقط المعنى من مجرد بضع مقاطع، كأنها عرّافة تقرأ ما في قلبه.
“معارضة….لأنها….على أي حال.…!”
“أمي عارضت لأنّها اعتقدت أنها ستموت على أية حال، أليس كذلك؟ لذا توسّلت أن تبقى العائلة معًا حتى آخر لحظة!”
“احتمال….ضئيل….لكنني….رحلت.…!”
“لكنّك، يا أبي، لم تستطع الاستسلام. أردتَ إنقاذها بأي ثمن، فتعلّقت حتى بالاحتمال الأضعف، وغادرت والدموع في عينيكَ!”
ثم هز رأسه مجددًا.
“إذاً، وماذا عن الرسالة؟”
“أعشاب….وادٍ….وحوش….كارثة.…!”
“أثناء بحثكَ عن الأعشاب، وقعتَ في كارثة داخل وادٍ عميق، أليس كذلك؟ ثم طاردتكَ الوحوش، فاستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتعودوا سالمين؟”
“رسائل….القافلة.…!”
“وفي هذه الأثناء، الرسائل التي بعثتها أمي لم تصل إليكَ، بل تراكمت في مقر القافلة التجارية!”
“ومن ثم….ندم….بقربكِ..…!”
“وبعد أن عجزت عن إنقاذ أمي، حملكَ الندم على ترك حياة الترحال بعد جنازتها! ولهذا فضّلت العمل الإداري في مقر القافلة بدلًا من التنقل خارجًا، صحيح؟”
ثم هز رأسه مؤكدًا مرة أخرى.
“لتبقى بجانب ابنتكَ، العائلة الوحيدة المتبقية لكَ…..ولهذا انتقلت إلى قسم المالية!”
مسحت سيسيل دموعها وهي تبتسم.
“الآن زال كل سوء الفهم!”
“سيـ…..سيل!”
والحقيقة أن شخصيتها كانت سببًا في كل ذلك؛ فهي إذا علقت على فكرة واحدة ضاقت رؤيتها، فتمسكت بالشك حتى عجزت عن رؤية أي احتمال آخر.
‘لو أنها استمعت منذ البداية لوفرت على نفسها كل هذا. فهو لا يحتاج سوى بضع كلمات، وهي تفهمه فورًا. لم يكن ليستغرق وقتًا طويلًا.’
وسط الدموع والانفعال، تعانق الأب والابنة بقوة.
قيل أن رابطة الدم لا تنقطع إلا بالموت، لكن هناك روابط تستمر حتى بعد الموت.
“…….”
“…….”
أما الآخرون، الذين لم يستطيعوا مجاراة سرعة حوارهما، فلم يفعلوا سوى التحديق بدهشة.
***
بعد بضعة أيام…..
تعافى غيرو تمامًا وعاد إلى عمله.
كانت هناك مخاوف من أن ذلك ربما كان مبكرًا جدًا، لكن إرادته كانت قوية، وريتشيموند كان واثقًا أيضًا من أن حالته في أفضل وضع.
وحين أبدت أرييلا قلقها من الصدمة النفسية، شرح ريتشيموند،
“أتظنين أن عقل ميت حيٍّ تغلّب على صدمة موت نفسه، وهي أعتى الصدمات، سيتداعى لمثل هذا القدر البسيط؟”
سيسيل أيضًا أخذت بضعة أيام من الراحة ثم عادت لتنغمس في عملها.
و يُقال إن التركيز في صناعة الأدوات السحرية، وهو ما تحبه أكثر، يساعدها على الاستقرار النفسي والجسدي في مثل هذه الأوقات.
ولكي تطمئن على حالها وتشاركها في العمل، زارتها أرييلا في المعمل.
“أهلًا وسهلًا!”
جلست المرأتان جنبًا إلى جنب منهمكتين في العمل.
لكن العمل دائمًا يحتاج إلى بعض الأحاديث الجانبية. فتحدثت أرييلا بعفوية،
“مع ذلك، يبدو أن العائلة فعلًا مختلفة.”
“ماذا تقصدين؟”
“انتشر في قصر ملك الشياطين أنني أجيد فهم كلام غيرو. لكنني لست بمستوى سيسيل أبدًا، فأنتِ تكادين تقرئين أفكاره!”
فالذين لم يعتادوا على غيرو يجدون من الصعب فهم كلامه، إذ كثيرًا ما يتوقف في منتصف الجملة ويكرر نفس المقطع.
وبالنظر إلى ذلك، فإن قدرة سيسيل على الفهم تكاد تكون قدرةً خارقة.
“أرييلا، أنتِ مذهلة. فأنتِ لستِ حتى من عائلته.”
ضحكت أرييلا وهي تسترجع حياتها في البلاط.
“أتعرفين أولئك الذين تسبق قلوبهم ألسنتهم بألف ميل؟ حتى مع العائلة لا يصل الأمر لذلك. لكن أنتِ حقًا مدهشة.”
فهزّت سيسيل كتفيها وهي تردّ،
“ليس أمرًا كبيرًا. أنا فقط اعتدت على طريقة والدي في الكلام. كنا نعمل معًا في المتجر أيضًا. والآن حتى لو قال كلمةً واحدة أفهم تقريبًا ما يقصده..…”
“هم؟ انتظري لحظة.”
لاحظت أرييلا شيئًا غريبًا.
“لكن بعد موت غيرو لم تعملا معًا، أليس كذلك؟”
“طبعًا. كنتُ أقصد قبل وفاته.”
وكان كلام سيسيل صحيحًا. فبعد أن صار غيرو زومبي، لم يكد يجتمع مع ابنته لفترة طويلة.
فكيف اعتادت إذاً؟
خطر ببال أرييلا احتمالٌ آخر لامع.
“أتقصدين أن طريقة كلامه كانت هكذا حتى قبل أن يموت؟ وأنك اعتدتِ عليها لأنها كانت كذلك أصلًا؟”
“نعم، والدي كان يتلعثم كثيرًا منذ زمن بعيد، حتى وهو على قيد الحياة.”
لم تستطع أرييلا أن تتابع كلامها. فقد كانت تعتقد أن أسلوب حديث غيرو الغريب مجرد أثر جانبي لعودته كزومبي.
وكذلك يظن معظم الناس.
“لكن الطلاقة في الخطاب من أهم صفات التاجر، أليس كذلك؟”
“هذا يعني أن نقاط قوته الأخرى كانت كافية لتغطية هذا الضعف، أليس كذلك؟ حتى أن التلاميذ الجدد كانوا يقصدونه راجين أن يؤسس لهم قافلةً تجارية.”
“…….”
وانتشرت الشائعات عن غيرو بسرعة.
لقد كانت صدمةً منعشة اجتاحت أراضي مملكة الشياطين.
***
“تشاد المتأخر دائمًا.”
“آه! يا سيدي التنين الذهبي، أنتَ هنا.”
كان الخادم تشاد ينظف قاعة الولائم في قلعة لودفيك ملك الشياطين.
و الضيف الذي جاء يبحث عن الفتى المنهمك في الكنس لم يكن سوى التنين الصغير.
ثم ألقى التنين الذهبي نظرةً على المكان،
“إيه؟ الأشياء التي كانت هنا أُزيلت كلها؟ مرشحات كنوزي الثمينة!”
وعلى الرغم من دروس أرييلا القاسية، إلا أنه كان على ما يبدو ينوي نقلها إلى “عشه” متى ما سنحت الفرصة، فبلع ريقه بحسرة.
آخر مرة فحص فيها القاعة كانت مستودعًا. ومثل غرفة الاستقبال، فقدت هذه القاعة وظيفتها الأصلية لعشرات السنين.
“تلك الخردة؟ كبير الخدم أمرنا بإخراج كل الأمتعة غير الضرورية.”
فكبير الخدم غرويب قرر إعادة هذه المساحة لتكون قاعة ولائم.
فبعد استقباله وفد ديلارك، توقّع أن تكثر مثل هذه المناسبات مستقبلًا. لذلك قرر تنظيفها وإبقائها جاهزةً للاستعمال في أي وقت.
ويُقال أن أرييلا أُعجبت كثيرًا ببُعد نظره.
“هل رأيتَ المخزن الجديد الذي بُني خارج القلعة؟ لقد عانيت كثيرًا في نقل كل شيء إليه.”
وبفضل مادة اللصق السلايمية، كان بناء المبنى الجديد سريعًا.
“حقًا؟ إذاً هي موجودةٌ هناك.”
حين تلألأت عينا التنين الصغير بلمعان، شعر تشاد بالقلق. فقد خشي أن يغضب كبير الخدم مرةً أخرى ويبدأ بمطاردة التنين.
“تشاد المتأخر دائمًا.”
“……نعم؟”
“لقد أحضرتُ لك وجبةً خفيفة لذيذة. القائد العظيم يعتني جيدًا بجنوده، هكذا قالت أرييلا.”
كان على ظهر التنين حزمةٌ بيضاء قد رُبطت له، و من الواضح أنه لم يربطها بنفسه.
“ما هي؟”
“أشياء حلوة.”
لقد كانت حلويات اغتنمها من المطبخ. فالطاهي رابو ومعاونوه ما زالوا يخبزون أكوامًا من أنواع المعجنات لإرسالها إلى غابة الجان.
وحين طلب منهم جزءًا منها بكل جرأة، لم يستطع لابو إلا الرضوخ.
“أتريد أن نتناول وجبة خفيفة؟”
ارتبك تشاد ورفض.
“ليس لدي وقتٌ لذلك الآن.”
“ولهذا السبب دائمًا لا تجد وقتًا، لأنكَ تتأخر كل يوم.”
“……هذا قاسٍ قليلًا.”
كانت كمية الغبار المتراكمة في القاعة طوال تلك الفترة هائلة.
“اليوم لدي عملٌ كثير حقًا. يجب أن أنهي كنس كل هذا.”
فردّ التنين الصغير باستهانة وكأن الأمر لا يستحق القلق،
“هه! مثل هذا الغبار؟ بضع رفرفاتٍ من جناحي وسينتهي الأمر!”
لكن تشاد لم يوافق. فعلى الأقل فيما يخص التنظيف، كان الفتى أكثر خبرةً من التنين، رغم أن خبرته لم تتجاوز بضعة أشهر.
“لو نفخت الرياح بهذه الطريقة سيتناثر الغبار في كل مكان. يبدو أنكَ لم تجرف الأرض من قبل يا سيدي التنين-”
فقاطعه التنين فوراً،
“انظر جيدًا كيف أفعلها!”
ثم فتح جناحيه على اتساعهما وارتفع في الهواء.
رفرف! رفرف!
لكنه بدلًا من الارتفاع أكثر أو تغيير اتجاهه، بقي محافظًا على ارتفاعه في مكانه.
وحين دفع الهواء إلى الأمام، وقع ما توقعه الفتى تمامًا، إذ اندلعت عاصفة من الغبار. فسارع تشاد إلى تغطية أنفه وفمه.
“كح! كح! أرأيتَ؟ لقد قلت لكَ هذا من قبل!”
وفي تلك اللحظة، صرخ التنين بصوتٍ آمر،
“تجمّعي!”
و للحظة، ظن تشاد أن الأمر موجَّهٌ إليه.
تجمّعي؟ لكننا نحن الاثنان فقط هنا. هل يقصد أن أقترب منه أكثر؟
سسسس……!
حينها، فُتح فم تشاد من الدهشة وهو ما يزال يغطيه بكفه.
فقد كان هناك أمرٌ عجيب يحدث أمامه.
فووووووش!
_________________________
التنين وتشاد كأنه فاصل عن الاحداث😭
المهم ماتوقعت غيرو كذا اصلاً صدق حسبته عشان صار زومبي مايعرف يتكلم😂
Dana
التعليقات