مصّاص الدماء بيفار عضّ على أسنانه غيظًا. فأرييلا ردّت عليه بمنطقٍ واضح، ولم تترك له مجالًا للاعتراض.
فالتفت إلى كبير الخدم الواقف بجانبها وسأله بنبرة حادة.
“هل ما قالته صحيح؟ هل هي حقًا من تولّت أمر الترميم؟”
أجاب الكوبولد ذو النظارات الأحادية بصوتٍ هادئ:
“نعم، هذا صحيح.”
أما أرييلا، فلم تكن تنظر إلى بيفار على الإطلاق بعد الآن.
وكأنها أنهت حديثها معه تمامًا. و كانت تتجاهله بوضوح تام.
ثم التفتت نحو العمال،
“حسنًا! فلنعد إلى العمل-”
“انتظري، قلت لكِ أن تتوقفي!”
عندها أظهرت أرييلا وجهًا يفيض بالضيق والانزعاج.
“يا له من شخصٍ لزج ومزعج فعلًا.”
ثم أطلقت صوتًا مزعجًا من فمها، مما زاد من غضب بيفار، فراح يتحجج بحجّة جديدة.
“حسنًا! لنفترض جدلًا أن هؤلاء الكوبولد كانوا بلا عمل حتى الآن، لكن هذا لا يعني أن هذه الأعمال مبررة!”
رغم أن الترميم وفّر لأهل الإقليم عملًا وطعامًا، إلا أن بيفار أصرّ على أنها كانت خطوةً خاطئة.
“في الوقت الذي لا نملك فيه ما يكفي من المحاصيل لجمع الضرائب، لماذا تُهدر الميزانية على مكتبةٍ تافهة؟!”
ثم علا صوته أكثر.
“هل تظنين أنه يحق لكِ إنفاق الميزانية هكذا، من دون إذن ملك الشياطين، ولا حتى موافقتي، وأنا المسؤول عن خزينة القصر؟!”
آه…..كم هو رخيصٌ وممل.
نظرة أرييلا التي كانت باردةً أصلًا، و ازدادت برودًا وحدة.
الآن أصبح بيفار يثير قضية أجور العمال، متسائلًا لماذا صُرفت أموال القصر الشيطاني دون إذن.
ثم أشار إلى مواد البناء التي كان العمال ينقلونها.
“هل تعتقدين أن أجور العمال ومواد البناء مجانية؟! كل ذلك بحاجةٍ الى المال! إنه مال قلعة ملك الشياطين! من تظنين نفسكِ لتتصرفي بميزانية الإقليم كما تشائين؟!”
“أنا لم أستخدم ميزانية الإقليم أصلًا.”
“ماذا؟!”
تجمّد بيفار مجددًا وكأن الكلمات اختنقت في حلقه. وساد صمتٌ قصير بين الاثنين.
ثم أكملت أرييلا بصوت حازم،
“أجور هؤلاء العمال، والمواد المستخدمة في البناء…..كلها دُفعت من جيبي الخاص.”
وتدخل غرويب الذي كان واقفًا بهدوء،
“وهذا أيضًا صحيح. كما قالت المتعاقدة، لم يُستخدم من أموال تشغيل الإقليم ولو سِل واحد. حتى نفقات طعام العمال، السيدة أرييلا تكفلت بها بالكامل.”
لقد استخدمت المهر الذي أخذته معها عند الهروب من القصر، وخاصةً القطع الذهبية التي تحتفظ بقيمتها في عالم الشياطين.
وبعد أن دعم غرويب كلامها، لم يستطع بيفار قول شيء. و اكتفى بتحريك شفتيه عدة مرات بصمت.
وكان سبب ذعره واضحًا. فمنظوره للحياة لا يسمح بمثل هذا التصرف.
أن ينفق أحد ماله الخاص من أجل رعاية سكان الإقليم؟
كان هذا بالنسبة له شيئًا من عالمٍ آخر، فكرةٌ لا يمكنه حتى تصوّرها.
“هـ…..هذا غير معقول!”
وهكذا لم يبقَ لدى بيفار ما يعترض عليه. ومع ذلك، ولأنه لا يستطيع كتم غيظه، بدأ يتفوه بكلمات ساخرة وهو يلوِي شفتيه،
“همف! يبدو أن لديكِ من المال ما يكفي لتبذيرِه في أشياء لا فائدة منها!”
لكن أرييلا ردّت بهدوء،
“أموالي محدودة. ولهذا فكرت مليًّا، وبتمعّن عميق قبل أن أنفق منها شيئًا.”
فالجوهر في الإدارة هو كيفية توزيع الموارد المحدودة بأعلى كفاءة ممكنة.
“وبعد التفكير، وصلتُ إلى قناعة بأن هذا المشروع ضروري. وبما أنني وصلت إلى هذا الاستنتاج…..نفذتُه.”
ثم رمت بكلمة لاذعة تحمل في طياتها الكثير من المعاني.
“تُرى، كم من الوقت تقضيه أنتَ في مثل هذا التفكير؟”
نظرت للحظات إلى العمال الذين بدا عليهم الشحوب وتلف الفرو من نقص التغذية، ثم عادت لتنظر مباشرةً إلى بيفار.
نظرتها كانت ممتلئةً باللوم والتوبيخ.
ورغم أنها لم تنطق بشيء، إلا أن صدى صوتها بدا وكأنه يتردد في أذنيه، “ألم يكن من المفترض أن لا يحدث هذا أصلًا…..لو أنك قمتَ بعملكَ كما يجب؟”
لقد ضربت بيفار في أضعف نقطة لديه.
هو ألقى السخرية…..لكنها ردّت عليه بضربة أقسى.
ارتفع الغضب داخله، لكنه لم يعُد يملك حجةً واحدة لإيقافها.
“آه، وبالمناسبة، لقد حصلتُ على الإذن مسبقًا. رفعتُ تقريرًا كما يجب…..إلى ملك الشياطين.”
رغم أنها بدأت التنفيذ ثم أبلغت بعده، إلا أنها لم تكذب.
ثم قالت كلماتها بنبرة ذات مغزى عميق.
“انتبه لنفسك…..أعتقد أنني بدأت أفهم ما الذي كنتَ تخطط له.”
فرمقها بيفار بنظرة حاقدة وشرسة.
وجهه الذي كان شاحبًا ازداد تشوهًا واحمرارًا، ثم اكتسى بالزرقة من شدة الغيظ.
وفي النهاية، أزاح عباءته بعصبية، وضرب الأرض بقدميه غاضبًا وهو يغادر المكان بخطى ثقيلة.
***
بفضل عدد العمال الذين تجاوزوا التوقعات، والمزيج اللاصق الخاص من صنع أرييلا، انتهى ترميم المكتبة بسرعة.
مع غروب الشمس، غادر العمال نحو منازلهم وهم يحملون رزم الحبوب، ووجوههم تشع فرحًا.
وأرييلا، وهي تراقبهم، شعرت بمزيج متضارب من السعادة والأسى.
‘ما زال الطريق طويلًا…..ما فعلناه لا يتجاوز كونه حلاً مؤقتًا. إن أردنا أن نُحدث تغييرًا حقيقيًا في حياتهم…..فعلينا اقتلاع هذا الإقليم من جذوره.’
بهذا العزم، جلست أرييلا في المكتبة التي انتهى العمل فيها للتو. ثم بدأت تراجع الدفاتر المالية وكأن الإجابات التي تبحث عنها مخبأةٌ داخلها.
كانت تواجه صعوبةً في البداية، فالمحاسبة في عالم الشياطين تختلف عن مثيلتها في عالم البشر…..
‘آه، أعتقد أنني بدأت أفهم.’
بعد قراءات متكررة، بدأت المعلومات تستقر في ذهنها تدريجيًا. و رغم أن أحدًا لم يُرشدها أو يُعلّمها، تمكنت من فهم النظرية بالكامل بمفردها.
ولو رأى بيفار هذا، لكان قد أصيب بالذهول.
وبعد أن أتقنت صيغ المحاسبة وأنظمتها، بدأت أرييلا تدقق المحتوى بتأنٍ.
لكن بما أن عليها مراجعة سجلات تعود لعشرات السنين، فكان حجمها هائلًا.
وفجأة…..
‘ما هذا؟’
بينما كانت تتصفح بنود الدفاتر المالية ببطء وتركيز، شعرت فجأةً بشيء غريب.
‘هناك أمرٌ غير طبيعي…..’
لم تستطع تحديد السبب بدقة، لكن حدسها أطلق إنذارًا واضحًا.
ما هو؟
ذلك الشعور الغامض، وكأن شيئًا ما يحكّ عقلها من الداخل، جعلها تغوص في تركيز أعمق…..
لكن فجأة—
طَرق، طَرق-
دوى صوت طرقٍ على الباب، لتدرك حينها فقط كم من الوقت قد مرّ وهي منغمسةٌ في الأرقام.
و كانت الطارقة هي الجنية.
“سيدة أرييلا، هل لي بالدخول للحظة؟”
ما الأمر؟
فُتح الباب، وظهرت الجنية وهي تطير حاملةً صينية كبيرة محمّلة بشيء ما.
“كنتِ تعملين حتى وقت متأخر، فأُعددتُ لكِ كوبًا من الشاي.”
كانت عينا أرييلا تؤلمانها من شدة التركيز في الأرقام، ورؤيتها أصبحت ضبابية.
وعندما أبعدت الملفات والملاحظات المبعثرة عن الطاولة، بدأت الجنية بتحضير الشاي. وبعد لحظات، انتشر في الغرفة عبيرٌ ناعم ومنعش وخفيف كنسمة صيف.
“واو، ما هذه الرائحة؟!”
سألت بدهشة حقيقية.
رغم أنها أميرة سابقة، وذوّاقة جربت أفخر أنواع الشاي من شتى بقاع العالم البشري، إلا أن الرائحة المنبعثة من إبريق الجنية الآن كانت غريبة، و ساحرة، ومليئة بالغموض والجاذبية.
“جميلة، صحيح؟ هذا عشبٌ لا ينبت إلا في غابة الجنيات.”
آه، إنه شاي أعشاب إذًا.
“غابة الجنيات…..أليس صحيحًا أن جميع جنيات العالم السفلي يعشن هناك معًا؟”
“نعم، صحيح.”
وفجأة، خفتت ملامح فيلي قليلاً.
‘ما بها؟’
وقبل أن تسأل عن السبب، بادرت الجنية بمدّ فنجان الشاي إليها.
“لقد أصبح جاهزًا. تذوقيه من فضلكِ.”
وما إن ارتشفت منه رشفةً واحدة، حتى اتسعت عينا أرييلا بدهشة.
“واو!”
كان العطر المنعش يدور في فمها بلطف، ثم ينفجر عبر أنفها في موجة عطرية ساحرة.
لم تكن الرائحة والطعم وحدهما ما يميّز هذا الشاي. فقد عادت رؤية أرييلا، التي كانت ضبابيةً بسبب التعب، لتصفو من جديد، كما شعرت بعقلها ينتعش ويتنقّى.
وبينما كانت تتذوقه برويّة، أبدت إعجابها الشديد’
‘هذا…..لو طُرح في العالم البشري، سيباع كالماء! لا، حتى في عالم الشياطين، لا بد أن يكون له طلبٌ هائل!’
فسألت إن كان هذا العشب يُباع لأجناس أخرى، أو إن كان بالإمكان زراعته داخل أراضي مملكة الشياطين.
“لا، هذا العشب لا ينمو في أي مكان سوى غابة الجنيات.”
وأوضحت فيلي أنه لا يتم بيعه حاليًا للخارج أيضًا. فقط الجنيات هنّ من يمتلكن حق استخدامه.
فنقرت أرييلا لسانها،
“الشروط صعبةٌ جدًا إذًا.”
“في الحقيقة، قرأتُ في الكتب أن هناك محاولات عديدة لزراعته خارج غابة الجنيات.”
يبدو أن بعض ملوك الشياطين قد وقعوا في سحر هذا الشاي بعد تذوقه، فأمروا أتباعهم بزراعته في أراضٍ أخرى.
‘لا عجب…..فالرائحة وحدها ساحرةٌ بدرجة لا تقاوم.’
لكن، رغم تكرار المحاولات على مدى عقود، فشلت جميعها دون استثناء. وكل مرة، لم يكن الحصاد سوى الخسائر الطائلة.
استأجروا من يستطيع اختراق حواجز الغابة، واختاروا أراضي مناسبة للزراعة، لكن كل ذلك ذهب سدى.
وأثناء احتساء رشفة من الشاي، تحدثت فيلي،
“عندما أقرأ عن هذه المحاولات، أدرك كم هو مهم أن نُدوّن التاريخ. فالناس بطبيعتهم يكررون الأخطاء ذاتها إذا لم يتعلموا من الماضي.”
وأضافت أن أولئك الملوك، لو رجعوا إلى السجلات القديمة، لوفّروا على أنفسهم الوقت والخسائر.
وقد وافقت أرييلا على كلامها جزئيًا، وأومأت برأسها مرددة،
“صحيح…..الناس يكررون الأخطاء ذاتها دائمًا..…”
وفجأة، في تلك اللحظة—
‘نفس الخطأ؟’
ومض شيءٌ في ذهنها فجأة.
ذلك الشعور المريب الذي راودها وهي تتصفح الدفاتر قبل قليل…..الآن فقط، اتّضح لها تمامًا ما كان يزعجها.
‘نعم…..نفس الخطأ يتكرر مرارًا، بلا شك.’
مهما كانت القدرة على التعلم ضعيفة، فعندما تقع مشكلةٌ كبيرة، يبحث الجميع عن حل تلقائيًا.
لكن…..أن تتكرر المشكلة نفسها بانتظام، وبنفس النمط؟
وأن تكون الأرقام المرتبطة بها مشبوهةً أيضًا؟
‘هذا لا يمكن أن تكون صدفة…..لا، لا بد أنه فعلٌ متعمّد من أحدهم.’
شعورها الداخلي كان جليًا وواضحًا…..هناك من يتلاعب بالأمور من وراء الستار.
___________________
ايه و واضح من الي يتلاعب
فيلي شكلها مطروده من غابة الجنيات؟🥲
مايفهمون
المهم تعرفون ناهده؟ حقت قنشن؟ فيلي كل ماتكلمت حسيتها تشبه لها😭
Dana
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"