“بعد مرور ما يقارب الألف عام، فقدت الأجيال التي اختلط دمها البشري بدم التنانين معظم خصائصها. لكنكِ، أرييلا…..كنتِ الاستثناء، فقد أيقظتِ القوة الكامنة في دمكِ من جديد.”
كانت أرييلا حالةً نادرة استطاعت أن تنمّي بنفسها ما كان نائمًا في أعماق دمها.
ولهذا، تنبّأت باياكيا بأنها ستتجاوز قريبًا حدود البشر، وأن قدرتها ستنمو إلى مستوياتٍ لا يمكن قياسها، بل وربما يتغير معها عمرها نفسه.
وربما، إن طوّرت قواها بما فيه الكفاية، ستصبح مساويةً لتنين نقيّ الدم.
‘كيف ورثتُ هذا الدم أصلًا؟’
احتمال أن تكون سلالة مملكة أُوينوس، موطنها الأصلي، قد ورثت دماء التنانين كان شبه معدوم، إذ إن معظم ملوكها تزوّجوا من نبلاء وملوك معروفين من دول أخرى.
لذلك فكّرت…..
‘لابد أن هذا الدم جاء من جهة أمي.’
من والدتها، تلك المرأة التي وُلدت من عامة الناس.
ورغم أن دم التنين فيهم كان قد أصبح ضعيفًا جدًا، فإن سوء الحظ أحيانًا يجعل هذا الدم لا يتوازن مع الدم البشري، فينقلب إلى طاقة جامحة تدمّر الجسد.
وتساءلت أرييلا إن كان مرض أمها الذي أنهى حياتها في صباها لم يكن في الحقيقة إلا نتيجةً لذلك الانفجار السحري.
فحين تتذكر أعراضها اليوم، تدرك كم تشبه ما يحدث حين تفور الطاقة السحرية داخل الجسد دون ضبط.
لكنها آنذاك لم تكن قد تعلمت بعد فنون السحر، ولم يكن بوسعها أن تدرك ما كان يحدث.
‘إذاً أمي…..كانت مثلِي؟’
عندما اكتشفت هذه الحقيقة لأول مرة، لم يكن الشعور الأول الذي غمرها هو الفخر أو الحماس لكشف السر، بل موجةٌ عميقة من الفقد والندم على أمها الراحلة.
‘لو أن أمي حظيت بالفرصة ذاتها التي أُعطيت لي…..’
في مسار حياتها الذي جمع بين الصدفة والمصير، لو أنها استخدمت ما كان نائمًا في دمها من قدرة، لربما لم ترحل بتلك السرعة.
إن كان موتها فعلًا نتيجة انفجار السحر في جسدها، لكان في استطاعتها أن تتعلم السيطرة عليه، كما فعلت أرييلا.
فقد نجت هي بفضل كتب السحر التي درستها منذ صغرها، ولو أن أمها وجدت تلك الكتب قبلها، لتغيّر كل شيء.
كانت الفكرة مؤلمة، تُغمر بالحسرة، لكنها في الوقت نفسه أيقظت في قلبها تصميمًا جديدًا.
شعرت أن عليها أن تعيش ما تبقى من حياتها بكل ما أوتيت من قوة، وفاءً لأمٍّ لم تسنح لها الفرصة ذاتها.
كما فعلت دائمًا، أن تمضي في طريقها دون أن تترك وراءها أي ظل من الندم حين تنظر إلى الماضي بعد زمنٍ طويل.
“….…”
رفعت رأسها وقد حُسم أمرها في داخلها، واتجهت نحو الباب الذي خرج منه لودفيك قبل لحظات.
***
كان الليل قد أرخى سدوله، إذ طال الاجتماع إلى وقتٍ متأخر.
و كان لودفيك يسير في الممر الحجري خارج القاعة، متجهًا إلى الحديقة الجديدة في الطابق الأول.
منذ قدوم أرييلا تغيّر مظهر القلعة كثيرًا، لكن لا مكان شهد تحولًا دراميًا مثل تلك الحديقة.
فقد كانت في الأصل مساحةً مهجورة حول نافورة محطّمة تتكاثر فيها الأعشاب البرية.
أما الآن، فقد غدت كغابةٍ صغيرة تنبض بالحياة، تتداخل فيها الأزهار والأشجار المشذبة بعناية.
وكانت الأحجار المضيئة على الجدران تبعث وهجًا ناعمًا يشبه ضوء الشمس، بينما تنساب المياه الصافية من النافورة التي أعيد ترميمها، تصدح برنينٍ عذب في أرجاء المكان.
“……؟”
التفت لودفيك فجأة. و هناك، خلفه مباشرة، وقفت أرييلا بصمت، وقد ظهرت دون أن تُصدر أدنى صوت.
توقفت في مكانها، تحدّق فيه بهدوء.
“أرييلا؟”
في عالم الصور الذهنية، كانت أرييلا قد أدركت حقيقةً بسيطة للغاية—
أنه لو لم تكن باياكيا موجودة، لما التقت بلودفيك يومًا.
وكان ذلك الإدراك وحده كافيًا ليملأ قلبها بشعورٍ غريب من الفقد.
ففي الماضي، حين استدعت لودفيك عبر كتاب باياكيا السحري، كان ذلك من أجل البقاء، لا أكثر. قرارٌ واقعي بحت لتجنّب مصيرٍ مظلم في قبضة الإمبراطورية.
اختيارٌ منطقي لتجنّب أسوأ الاحتمالات.
لكن العجيب هو ما شعرت به حين تخيّلت نفسها في عالمٍ لم يظهر فيه لودفيك أبدًا—ذلك الشعور لم يكن حزنًا فحسب، بل فراغًا مؤلمًا يتجاوز الوصف.
“لودفيك.”
ذلك الفراغ، ذلك الخواء الذي لم تعرفه من قبل.
لقد أصبحت مملكة لودفيك بالنسبة إليها وطنها الثاني، وارتبطت فيها بأشخاصٍ كثر أصبحوا أعزاء على قلبها.
لكن حين تخيّلت أن تفقد كل ذلك، لم يكن مؤلمًا بقدر تخيّلها فقدان شخصٍ واحد فقط— لودفيك.
كان غيابه وحده كفيلاً بأن يترك ثقبًا عميقًا وباردًا في روحها.
“لنذهب معًا.”
قالت ذلك بصوتٍ مفعمٍ بالعاطفة وهي تتذكر اليوم الذي ضمّها فيه لودفيك إلى صدره، حين اجتاحها طوفان مشاعره العارمة التي لم تستطع آنذاك إلا أن تغمرها بصمت.
وحتى المشاعر التي مالت بها أرييلا نحو لودفيك في ذلك الحين، أدركت الآن أنها كانت المشاعر ذاتها تمامًا.
كانت تؤمن بأن كليهما انعكاسٌ لمرآة الآخر.
قاقتربت بخطواتها ومدّت يدها نحوه. و تردد لودفيك لحظةً قصيرة، ثم رفع ذراعه ببطء.
من غير تردد، شبكت أرييلا أصابعها بين أصابعه بإحكام.
“……!”
فارتجف كتف لودفيك بخفة. و تظاهرت أرييلا بالهدوء وأخذت تمشي وهي تنظر للأمام.
لم يستطع لودفيك قول شيء. و كل ما فعله أنه تابع خطاها مطأطئ الرأس ووجهه متوردٌ احمرارًا.
“هناك أمرٌ عليكَ أن تعرفه.”
“هاه؟”
قالت أرييلا ذلك بنبرةٍ هادئة وهي تسير ببطء.
حدثته عن السبب الذي جعل التنانين الذهبية تضطر إلى الهجرة نحو عالم البشر، وعن القلة التي بقيت منهم كحراس، وعن نسلهم، وعن دماء التنين التي ما زالت تجري واضحةً في عروقها، وأخيرًا، عن أن استيقاظ هذا الدم جعل عمرها لم يعد ضمن حدود البشر.
المشاعر التي انتقلت عبر أيديهم المتشابكة كانت تضطرب بصدمةٍ وارتباك.
وحين أنهت حديثها، سألها بصوتٍ مذهول،
“حقًّا؟!”
سرعان ما ارتسمت على وجهه ملامح دهشةٍ ممزوجةٍ بإعجابٍ غامر ثم بسعادةٍ عارمة.
“أرأيتِ؟ ألم أقل من قبل أن فيكِ دم تنين؟!”
تألقت عيناه بلون الياقوت، وامتدت تلك البهجة على كامل وجهه حتى ابتسم ابتسامةً مشرقة.
“إذًا أنتِ ستظلين..…”
رفعت أرييلا رأسها قليلًا بابتسامةٍ ماكرة.
“من يدري؟ ربما أعيش أطول منكَ يا لودفيك؟”
وبذلك تكون الأمنية التي تمنى تحقيقها في رسالته قد تحققت.
“أو ربما، بما أن حياتنا أصبحت متصلةً بعقدٍ واحد، فقد تعيش أنتَ بفضلي أطول من أي مخلوق من قومكَ.”
كان العقد بينهما يقضي بأن موت أحدهما يعني موت الآخر، فإن مات الشيطان مات الإنسان، وإن مات الإنسان قبل أجله مات الشيطان معه.
لكن ماذا لو أصبح عمر الإنسان أطول من عمر الشيطان نفسه؟
هز لودفيك رأسه بحماس، مؤكدًا موافقته الكاملة على كلامها.
بينما انتشرت حولهما أصوات خفيفة لمياه النافورة، وسكب القمر فضّته على وجهيهما.
في تلك اللحظة خطرت لأرييلا آخر جملةٍ من الرسالة.
ربما لقاؤها به كان أعظم حظ في حياتها، والآن، بفضل ذلك الحظ، حان دورها لبناء سعادتها الخاصة.
ومضيا بعد ذلك طويلًا، بخطى متناسقة نحو الاتجاه ذاته.
***
سجن قلعة لودفيك في أعماق الأرض.
هواءٌ رطب وبارد يزحف على الجدران الحجرية التي لا يصلها شعاع شمس.
و في أعمق زنزانة هناك كانت كارين مسجونة.
“حمقى.”
همست في الظلام بابتسامةٍ ساخرة.
كان واضحًا لها السبب الذي جعلهما يُبقيانها على قيد الحياة. إنهما يحتاجان إلى معلوماتها حول السحر القديم الذي لوّث الشمس وقيد الأرواح باللعنة.
“فأنا الوحيدة التي أعرف أسراره.”
وكما توقعت أرييلا، لم تفشِ كارين كل شيء. فهي تدرك أن تلك المعرفة هي الثمن الوحيد لحياتها.
إن أفشتها كلها، فلن يبقى ما يحمي رقبتها من السيف.
“سيأتون قريبًا.”
كانت واثقةً أن أرييلا ستصل إلى حدودها حتمًا، فالسحر القديم ليس بالأمر الذي يمكن فهمه بسهولة.
“…….”
غير أن مرور الأيام بدأ يُضعف هذا اليقين المتغطرس.
“لماذا….لم يأتِ أحدٌ بعد؟”
بدأت نيران القلق والرعب تزحف ببطء في ذهنها. فقد مرّ قرابة شهر كامل، ولم يزرها أحد.
و لم تعد تذكر كم مرةً تناولت حساءً باهتًا ألقاه السجان من بعيد.
لكن…..لماذا؟ هل يُعقل أنهم فهموا السحر من دونها؟
“هذا مستحيل! كيف لإنسانةٍ تافهة أن تفعل ذلك؟!”
في تلك اللحظة—كويييك!
انفتح باب السجن الحديدي الثقيل الذي ظل مغلقًا دهورًا.
أخيرًا!
و ارتسمت ابتسامةٌ ملتوية على شفتي كارين.
“……?!”
لكن ملامحها سرعان ما تجمّدت. فالقادم لم يكن أرييلا، ولا لودفيك.
بل كائنٌ ذو بشرةٍ مشوبة بالزرقة، وعينين خاليتين من الحياة.
“زومبي؟!”
_______________________
R.I.P كارين
والحين جتنا الثانيه ارييلا يعني رايحه تمسكين يده وشايفته يستحي ولا اعترفتي؟ يبي لكم غرويب يبداو بدالكم 😭
بس ياناس هي فاهمته وهو مستانس عشان ذا المسكه وعنه طاير فرح عشانها بتعيش معه🫂
التعليقات لهذا الفصل " 178"