حتى الآن، كلما أعادت أرييلا قراءة الرسالة لم تستطع إلا أن تهزّ رأسها دهشة.
‘حقًا…..هل يظن أن أحدًا لا يعرف أنه لودفيك؟’
لقد كتب اسمه بنفسه في أول السطر، ومع ذلك سلّمها الرسالة بيده وكأنه سرّ خطير.
لكن السطور التالية كانت أفضل قليلًا.
[اعذريني إن كان خطي رديئًا أو عباراتي غير مرتبة، فقد بذلتُ جهدًا في كتابتها حقاً.
لطالما فكرتُ أنه عندما أتعلم الكتابة جيدًا، سأكتب رسالةً لكِ.
إليكِ أنتِ التي علمتِني القراءة والكتابة بنفسكِ.]
إلى هنا كانت الأمور تسير طبيعية…..لكن الجملة التالية كانت كحصانٍ جامح أفلت من عقاله.
[في الآونة الأخيرة، كلما أنظر إليكِ، أفكر…..هل هناك طريقةٌ أموت بها قبلكِ؟]
“….…”
رغم أنها قرأت تلك الرسالة عشرات المرات، عادت أرييلا لتقرأها ببطء، كلمةً كلمة، كأنها تريد أن تشعر بكل نبضٍ فيها.
[حين التقينا أول مرة في عالم البشر، كنتُ أريد فقط أن أشتري بعض الوقت.
كنت غارقًا في قتال الأورك، وأردتُ من يتولى شؤون الإقليم بدلاً منّي، ولهذا عقدتُ معكِ العقد.
إن أردتِ أن تصفيني بالأناني فافعلي، لأنني كنتُ حينها حقًا يائسًا.
لكن الآن، وأنا أكتب هذه الرسالة، لم أعد أقاتل الأورك، بل أفكر في كيف يمكنني أن أجعلهم يعيشون حياةً أفضل في إقليمي.
لا أعرف ما الكلمة التي تصف هذا التغير، لكن أنتِ يا أرييلا، التي قرأتِ من الكتب أكثر مما أحلم به، لا بد أنكِ تعرفين.]
قلّبت أرييلا الصفحة.
[في كل مرة أتجول فيها في الإقليم، أرى وجوهًا لم تكن موجودةً من قبل.
أرى أطفالًا من أعراقٍ مختلفة يركضون ويلعبون معًا،
فأفكر تلقائيًا…..هؤلاء الصغار لن يُترَكوا وحيدين كما تُركتُ أنا من قبل.
وهذا أمرٌ لم يكن ليحدث أبدًا في الماضي.
لقد أنشأنا إقليمًا جديدًا لا يعرف الوحدة أو التمييز. وكل ذلك، حدث لأنكِ جئتِ إليّ.]
بعد أن عبّر عن امتنانه نحوها، أعاد لودفيك طرح السؤال نفسه مرة أخرى،
[أرييلا، هل هناك طريقةٌ يمكنني بها أن أموت قبلكِ؟
ولكي أكون واضحًا، لا أعني أنني أريد الموت الآن، ولا أعني أيضًا أنني أرى أن موتي قبلكِ سيكون نافعًا للإقليم، لكنني ببساطة لم أجد طريقةً أعبّر بها عما أريد قوله إلا بهذه الكلمات.
حين أقف أمامكِ، تختلط كلماتي بمشاعري حتى يكاد صدري يغلي.
صحيحٌ أن عقدنا يسمح لنا أن نشعر بعواطف بعضنا البعض، لكن رغم ذلك، أردتُ أن أكتب لكِ شيئًا بخطي.
أردت أن أستخدم الحكمة التي علمتِني إياها.
ولو سألتِني ما فائدة الكتابة بما نشعر به ونحن قد كشفنا بالفعل كل شيء بيننا، فأظنكِ ستقولين:
بعكس الكلمات والمشاعر التي تتبدد في الهواء، تبقى الكتابة والسجلات خالدةً في مكانها إلى الأبد.
وأنا…..أريد أن أترك أثرًا كهذا.
أرييلا، أريد أن أخلّد ما أفكر فيه نحوكِ، وما أشعر به تجاهكِ، أن أتركه في شكلٍ يبقى طويلًا بعدنا.
وأتمنى أن تكوني أنتِ من يحتفظ به.]
كان واضحًا أنه حاول تقليد أسلوبها في مواضع عدة، دليلًا على أنه قرأ كتاباتها مراتٍ ومرات ليتعلم منها.
[كنت أعلم منذ بداية العقد أن عمر الإنسان لا يقارن بعمر الشياطين.
لكن رغم علمي بذلك، لم أفكر به بعمقٍ قط، فأنا لم أكن ممن يعمّقون التفكير، وخصوصًا في ذلك الوقت.
أما الآن، فأجد نفسي أغرق في التفكير طويلًا، مرارًا وتكرارًا، أتساءل: حتى وإن تجاوز عقدي معكِ حدود عمر البشر، فإن حياة الإنسان لا يمكن أن تتخطى عمر ملك الشياطين نفسه.
هل هناك طريقةٌ أجعل بها جزءًا أكبر من عمري ينتقل إليكِ؟
وليس لأنكِ جعلتِ الإقليم يزدهر فحسب، بل لأنني أشعر بشيءٍ يتجاوز ذلك بكثير.
إنه أمرٌ غريبٌ فعلًا…..لكنكِ، يا أرييلا، لا حاجة لي أن أشرحه، فأنتِ بالفعل تعرفين ماهية هذا الشعور.
ربما لا حاجة لقول هذا، ومع ذلك أريد أن أكتبه هنا.
هل ثمة طريقةٌ يمكنني أن أموت بها قبلك؟
يا أرييلا، فأنتِ بالنسبة إليّ كيانٌ لا يمكن مقارنته بشيء.]
قلبت أرييلا إلى الصفحة الأخيرة من الرسالة.
[أعلم…..ما أتخيله هو أمرٌ بعيدٌ جدًا في المستقبل. ورغم أنني ممتنٌ لأن ذلك المستقبل لم يأتِ بعد، إلا أن هذا القلق لن يغادرني أبدًا.
بالطبع لا أنوي أن أعيش مثقلًا بهذا الخوف أو أن أضيع وقتي في الحزن، لكن كل يومٍ أقضيه معكِ، وكل ثانية، وكل لحظة، هي بالنسبة إليّ كنزٌ لا يقدّر بثمن.
أرييلا، لا يمكنكِ حتى أن تتخيلي كم يعني لي وجودكِ. فبفضلك، تعلمت أخيرًا ما تعنيه السعادة حقًا.
أتذكر أنني قلت ذات مرة: عشتُ حياتي وسط اللهب، وظننت أن مجرد نجاتي من النار هو أعظم حظ في حياتي.
لكنني أدرك الآن أنني كنت مخطئًا، فحظي الحقيقي بدأ بعد ذلك.]
وفي أسفل الصفحة، كُتبت الجملة الأخيرة بتلك الأحرف المرتجفة المألوفة، يليها توقيعه.
[أرييلا، أظن أن أعظم حظٍ في حياتي كان عقدي معكِ.
لودفيك.]
أنهت أرييلا قراءة الرسالة بصمت، وبقيت تحدّق في الورق لحظاتٍ طويلة دون أن تنبس بكلمة.
ثم طوتها بعناية، ووضعتها عند صدرها، وابتسمت بخفة.
“ها قد وصلتَ أخيرًا إلى هذه الفكرة، أليس كذلك؟”
لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن الأمر لم يكن خاطرًا عابرًا، بل إحساسًا تراكم ببطءٍ مع مرور الوقت حتى أثقل فكره دون أن يدري.
‘عمر ملك الشياطين…..وعمر المتعاقدة معه.’
تذكرت أرييلا تلك الرحلة إلى الشمال. حينها قال ملك الشمال، شفارتز، كلماتٍ لم تفهمها تمامًا في ذلك الوقت.
“الزمن لا يجري بالسرعة نفسها عند البشر والشياطين.”
“كل عقد له نهاية، ولن تكونا أنتما استثناءً من ذلك.”
“لكن لا تدعا فكرة النهاية تمنعكما من أن تبدآ الرحلة، أو تسرقا منكما لحظات البداية.”
حينها لم تفهم سبب تلك الكلمات المفاجئة، وظنتها سخريةً أو لغزًا. أما الآن، فقد أدركت معناها بوضوح.
فليست المعرفة وحدها ما يوسّع أفق المرء، بل أيضًا ما يشعر به في أعماقه.
“يبدو أن لودفيك، تمامًا مثل شفارتز، قد افترض سلفًا أنني سأموت قبله.”
قالت أرييلا ذلك بصوتٍ خافت يحمل نغمةً عجيبة، بين الحنان والابتسام.
“لكن ربما حان الوقت لأخبره….أن الأمر قد لا يكون كذلك.”
***
كان هناك شيءٌ لم تخبر به أرييلا لودفيك بعد.
الجزء الأخير من حديثها مع باياكيا في عالم الصور الذهنية.
“من هنا فصاعدًا، لم أعد أتحدث عما رأيته بعيني، لأن ما حدث بعد موتي ليس شيئًا شهدته بنفسي. لكنني قرأتكِ الآن، وعرفت ما جرى لاحقًا في عالمي البشر والشياطين. وبناءً على كل ذلك، ظهرت لي فرضية.”
تمامًا كما توقّع كيميلت، فإن التنانين الذهبية التي غادرت عالم الشياطين هاجرت إلى عالم البشر. فلم يكن ثمة عالمٌ آخر يمكن الوصول إليه.
لكن ذلك العالم كان يملك عيبًا قاتلًا.
“كما اختبرتِ بنفسكِ، فالعالم البشري يكاد يخلو من الطاقة السحرية في هوائه. وقد أدركت التنانين الذهبية هذه الحقيقة قبل هجرتها.”
وفي بيئةٍ بلا سحر، لم يكن بمقدورها الحفاظ على أجسادها العملاقة أو قواها الجبارة.
كان يمكنها أن تشفى تحت شمس العالم البشري من السحر المشوّه الذي عانته، لكنها لم تستطع أن تعيش فيه حياةً نشطة.
“قبل أن يرحلوا، بحثوا في العديد من الاحتمالات. أما القرار الذي اتخذوه في النهاية فكان على الأرجح..…”
أن يناموا جميعًا نومًا طويلًا، حتى يولد من بينهم كائنٌ جديد، قوي بما يكفي لتجاوز الفوضى التي مزّقت عالم الشياطين ذات يوم، وحتى يأتي اليوم الذي يعودون فيه جميعًا إلى موطنهم.
وهكذا قررت معظم التنانين الذهبية أن تدخل في سباتٍ جماعي.
اختاروا العالم البشري لأنه، على الأقل، قادرٌ على شفاءهم ولو ببطء. وغرقوا في نومٍ امتدّ لألف عام وأكثر، لتقليل استهلاك طاقتهم السحرية.
“لكن لم يناموا جميعًا.”
فحتى في ذلك الوضع، قررت قلةٌ منهم البقاء يقظة، ليحموا رفاقهم النائمين ويراقبوا العالم البشري.
ويُعتقد أن بعض هؤلاء “الحراس المستيقظين” تدخلوا أحيانًا في تاريخ البشر.
وقد ذكرت باياكيا مثالًا شهيرًا، بعد أن قرأت ذكريات أرييلا.
ذلك البطل، تشايغَن، الذي وقف في وجه الملك الأعظم هايدلبيرغ حين غزا العالم البشري.
“أتقصدين أن البطل تشايغَن كان تنينًا ذهبيًا؟”
“لستُ متأكدة، لكن الأرجح أنه نال دعمهم.”
خلال تلك الحقبة، وقع بعض الحراس في حب البشر، وتزوجوا منهم، وأنجبوا نسلًا.
ومع مرور الأجيال واختلاط الدماء البشرية، ضعفت الروابط السحرية فيهم، ولم تعد أجسادهم قادرةً على احتواء جوهر التنين.
وهكذا تلاشت ذكرياتهم كأبناء للتنانين، وأصبح إرثهم محبوسًا في أعماق الدم، لا يُستثار إلا نادرًا.
خفضت أرييلا نظرها إلى يديها المفتوحتين.
“ربما معظمهم عاش ومات دون أن يعلم أنه يحمل دم التنين….ودون أن تُمنَح له الفرصة ليُظهر تلك القوة أبدًا. لكن أنتِ…..أيّتها الطفلة، أيقظتِ تلك القوة بإرادتكِ الحرة.”
“ماذا؟ أتقصدين…..أنني أيضًا؟”
“نعم.”
ولا يزال صوت باياكيا يتردّد في ذهنها كما لو كانت تسمعه الآن، ذلك الصوت العميق الذي دوّى في عالم الصور الذهنية،
التعليقات لهذا الفصل " 177"