وفي اللحظة التي لامست فيها البذرة التراب، ساد سكونٌ عميق بدا كأن كل أصوات العالم قد انطفأت دفعةً واحدة.
‘الخطوة الأولى هي إنبات شجرة العالم الجديدة.’
كان الهدف إنقاذ هيلينا، لكن في المعنى الأوسع، كانت تلك الخطوة الأولى في سبيل إنقاذ النظام البيئي للعالم السفلي من الانهيار القادم.
تمتم الجنود المراقبون في حيرةٍ وقلق.
“هل يمكن لتلك البذرة أن تنمو حقًا في هذه الأرض الميتة……؟”
كان الشك بادياً على وجوههم. فأرض مملكة الملكة هيلينا بدت وكأنها فقدت كل أثرٍ للحياة، فكيف ستنبت فيها بذرة شجرةٍ لم تُزهر منذ ألف عام؟
لم يكن الجنود يدركون ماهية خطة أرييلا. فتحدّثت لباي بهدوء،
“هل تتذكر التعويذة التي علمتكَ إياها؟”
“بالطبع!”
“سأبدأ بتحريك الطاقة السحرية أولًا، فتابعني جيدًا.”
كانت أرييلا قد امتصت كتاب السحر بالكامل قبل أن تفهمه تمامًا، ثم أدركت لاحقًا أن بين صفحاته تعاويذ لا يمكن لأي إنسان، بل ولا حتى لأي شيطانٍ من مؤلفيه، أن يستخدمها.
كانت تلك التعاويذ سحرًا خاصًا لا تمارسه إلا التنانين الذهبية — التعويذة التي تُوقظ بذور شجرة العالم.
و تذكّرت كلمات باياكيا،
“حين كانت التنانين الذهبية تستعد للرحيل عن العالم السفلي، تعلمتُ منهم هذه التعويذة… تحسبًا لأي طارئ.”
ولم تكن باياكيا قادرةً على استخدامها حتى بعد أن تعلمتها، لكن هدفها كان أن تبقى المعرفة حية، تنتقل إلى الأجيال التالية.
‘وأن تصل تلك المعرفة إليّ أنا، التي لم تكمل حتى قراءة الكتاب……إنه أشبه بالمعجزة.’
تعلمت أرييلا التعويذة من بقايا الوعي التي تركتها مؤلفة الكتاب خلفها، وكما قالت باياكيا، لم تكن هي من يمارس السحر مباشرة، بل كانت مجرد ناقلةٍ له إلى الجيل التالي — إلى الفراخ الصغير الذي يقف الآن إلى جانبها.
وووونغ!
رفعت أرييلا يديها إلى السماء. و تدفقت من أطراف أصابعها خيوطٌ رقيقة من طاقةٍ ذهبية، ورسمت في الهواء نقوشًا معقدةً وسامية.
كانت تلك الخطوط الخافتة بمثابة المسار الذي ستسلكه التعويذة. فتبعها باي، مركزًا كل طاقته.
وووووونغ!
“أحسنتَ، واصل هكذا.”
كان باي يرسم فوق خطوطها بطاقته الخاصة، باعثًا سحر التنانين.
فهو يملك ذاكرة لا تنسى ما تراه عيناه، لكن تحويل ما يحفظه في عقله إلى فعلٍ حيّ أمامه كان تحديًا من مستوى آخر.
لذلك قادته أرييلا بخطواتٍ ثابتة ليسد الفجوات ويكمل الرسم.
تداخلت قواهما، وانسجمت خيوط السحر في الهواء لتشكل نسيجًا ذهبيًا متلألئًا، كأنه بساطٌ من الضوء.
“الآن……هنا!”
وجهت أرييلا الأوامر بصوتٍ واضح في المواضع التي لم تصلها طاقتها.
أغمض باي عينيه وأفرغ كل ما لديه من تركيز، حتى أنه لم يشعر بأن فمه فُتح دون وعي. ولو كانت التنانين مخلوقاتٍ تتعرق، لكان جسده الآن مبللًا من الرأس حتى الذيل.
وبعد لحظات، اضطربت الطاقة السحرية أمامه كدوامةٍ متفجرة.
“جيد!”
اندمجت الخيوط السحرية التي صاغها التنين ووجهتها أرييلا، وتكثفت في الهواء حتى غدت كتلةً من الضوء.
ثم انحدر ذلك النور وتغلغل في التراب، حيث دُفنت بذرة شجرة العالم.
فمسحت أرييلا العرق عن جبينها، في حين خارت قوى باي وسقط جالسًا على الأرض.
“واو……لم أفعل شيئًا كهذا من قبل!”
كانت مجرد تعويذةٍ واحدة، لكنه قالها بصوتٍ متعبٍ تمامًا.
“هل أرهقكَ الأمر كثيرًا؟”
“لا! أشعر بروعةٍ لا تصدق!”
ورغم الإرهاق، كان في نبرته إحساسٌ عميقٌ بالإنجاز والفخر.
ثم سأل لودفيك بصوتٍ حذرٍ جاد،
“هل نجحت التعويذة فعلًا؟”
“نعم، أتممناها بنجاح. والآن لم يبقَ سوى……”
الانتظار — أن تستجيب البذرة للسحر الذي اختُتم للتو.
ساد الصمت بين الجميع، ووجوههم مشدودةٌ نحو بقعة التراب التي وُضعت فيها البذرة.
فحتى وإن اكتملت التعويذة بنجاح، إن كانت البذرة نفسها فاسدةً أو خالية من الحياة، فكل ما فعلوه قد يذهب هباءً.
سرت في الأجواء موجةٌ من التوتر الصامت. كانوا جميعًا يحدقون في البقعة نفسها بأعينٍ تملؤها الرجاء، مترقبين معجزةً ما.
ومضى وقتٌ لا يُدرى كم امتد، حتى— تحرك شيءٌ ما!
“آه!”
شهقت أرييلا بصوتٍ مرتفع، وفي اللحظة نفسها، نهض باي من حيث كان جالسًا منهكًا، وبدأ ذيله بالدوران في الهواء بحماسٍ لا يوصف.
حدثت المعجزة أخيرًا أمام أنظار الجميع. تحركت ذرات التراب فوق البذرة قليلًا، ثم شقّت الأرضَ نبتةٌ صغيرة، بيضاءُ مائلةٌ إلى الأخضر الفاتح، رافعةً رأسها نحو الضوء.
“لقد أنبتت!”
نسي الجنود حتى أن يتنفسوا، مأخوذين بالمشهد أمامهم.
فشجرة العالم، التي توقفت عن التكاثر منذ ألف عام، ها هي الآن تكسر صمت القرون، لتعيد عجلة التاريخ إلى الدوران من جديد.
‘لم ينتهِ الأمر بعد.’
تحدّثت أرييلا بهدوءٍ حازم،
“المرحلة التالية، أتركها لكَ.”
بسرعةٍ فرد باي جناحيه.
لم تكن الخطوة الثانية معقدةً كالتي سبقتها، فكل ما عليه فعله كان إطلاق سحر اللغة التنينية — أن ينطق إرادته بصوتٍ صادقٍ وواضح.
وهكذا فعل.
“أيها الزمن……تسارع!”
انطلقت من جسده طاقةٌ مختلفة تمامًا عن ذي قبل، طاقةٌ ذات عزمٍ أقوى ونبضٍ أعمق.
لتحقيق نموٍّ كامل لشجرة العالم، كانت الحاجة إلى مئات السنين من الانتظار، لكن الوقت الآن لم يكن في صالحهم. لذا اختاروا أن يتلاعبوا به.
ووووونغ!
لقد سبق لباي أن استخدم سحر تسريع الزمن من قبل، ولم يقتصر الأمر حينها على تقصير المسافات الزمنية فحسب، بل أسرع زمن جسده ذاته ليطلق نَفَسًا تنينيًا لم يكن يجب أن يكون قادرًا عليه بعد، وذلك أثناء معركته مع ديلارك — مشهدٌ لم تغب تفاصيله عن ذاكرة أرييلا.
بل ووفقًا للتقارير الأخيرة، فقد استخدم القدرة نفسها على بذور نبات هانيدروب، فجعلها تنضج وتثمر في وقتٍ قياسي.
‘تلك القوة نفسها……لشجرة العالم!’
لكن حسابات أرييلا كانت صارمة: حتى لو استعمل باي كل قوته، فلن يكون ذلك كافيًا.
فالمدة الزمنية التي على الشجرة أن تتجاوزها أطول من أن تُختصر بتلك البساطة.
‘لا يمكنها النمو بلا غذاء، فالتسارع وحده لا يصنع الحياة.’
نظرت إلى لودفيك بعينين متفهمتين.
“أعتمد عليكَ.”
فأومأ لودفيك بهدوء، ثم حرّك طاقته. وانبعثت من جسده نسائم دافئة كأنها تنفّسُ الربيع نفسه.
شعر الجنود المحيطون بتناقضٍ غريب — دفءٌ يبعث على النعاس، وفي الوقت ذاته طاقةٌ حية تسري في أوصالهم.
“أنظروا……هناك!”
صاح أحدهم مشيرًا بإصبعه بدهشة. فقد كانت أشعة من نارٍ ذهبية قد انطلقت من جسد لودفيك، لتحيط بالنبتة الناشئة.
فوااااه!
لكنها لم تكن نارًا مدمرة تحرق البراعم الغضة، بل لهبًا لطيفًا يفيض بحرارةٍ محسوبة، تمامًا بالقدر الذي تحتاجه الحياة لتنهض.
أومأت أرييلا برأسها برضا.
‘إنها قوة الشمس البدائية التي توقظ النبات من سباته!’
كان لودفيك يحاكي بنيرانه جوهر الشمس نفسها — حرارة الدفء، تلك التي تبعث الحياة في أقسى الصحارى.
الدفء الذي يدفع البذور إلى الانبعاث، والنور الذي يوقظ الأرض العطشى.
سكبت أشعته طاقةً نابضة بالحياة على نبتة شجرة العالم. بينما تجهم وجه لودفيك قليلًا.
‘صعب……هذا أصعب بكثيرٍ مما ظننت.’
فإخراج حرارةٍ لطيفة تحضن الحياة كان أصعب بأضعافٍ من إشعال نارٍ تحرق كل ما حولها، وأكثر استنزافًا لقوته السحرية بما لا يُقاس.
‘هل هو غير كافٍ……؟’
تسلّل القلق إلى قلب لودفيك، وكان يخشى أن تنفذ طاقته السحرية قبل أن يكتمل العمل.
لكن في تلك اللحظة—
سسسس!
شعر بموجةٍ دافئة تحيط بجسده، كأن أحدهم يحتضنه بهالة من النور.
و لم يكن بحاجةٍ ليسأل من أين جاءت، فقد كانت أرييلا.
فوااااه!
كما حدث في معركتهم السابقة ضد ديلارك، انفجرت من جسدها طاقةٌ سحرية ذهبية متلألئة، اجتاحت المكان كفيضٍ مقدّس.
وقد التفّ ذلك النور حول لودفيك وباي معًا، ليجمعهما في دوامةٍ من الإشراق المهيب.
“……!”
“……؟”
كان ما حدث بعدها أمرًا عجيبًا بحق.
فالسحر الشيطاني الذي يجري في عروق لودفيك، والسحر التنيني الذي ينبض في جسد باي — تلك الطاقتان المتناقضتان في أصلِهما — بدأتا في داخل النور الذهبي لأرييلا بالتمازج بانسجامٍ مدهش، تتناغمان كأنهما كانتا منذ الأزل جزءًا من لحنٍ واحد.
وفي تلك اللحظة، شعر الاثنان معًا بأن القيود التي كانت تثقل جسديهما قد زالت. و صار تحريك السحر أسهل، انسيابيًا، وكأن الهواء نفسه صار يساندهما.
وانعكست تلك الموجة الجديدة على شتلة شجرة العالم.
“هاه؟!”
“يا للروعة……!”
صرخ الحاضرون بدهشة، إذ شاهدوا على الجذع الأخضر الرقيق قشرةً صلبة تنبت وتتكثّف كقشور التنين.
ففي غضون لحظاتٍ قليلة، تحولت النبتة الصغيرة إلى ساقٍ متصلّب، لحاؤه الخشبي يغلّفها بإحكام. ثم—
كواااررررر!
“آااه!”
اهتزّت الأرض بعنفٍ تحت أقدامهم، وسقط الجنود جالسين على التراب. ومن أعماق الأرض دوّى صوتٌ رهيب، كأنه نبض قلب العالم نفسه.
غرووووم!
تلك الشتلة التي لم تكن أكبر من إصبع إنسان بدأت بالنمو بسرعةٍ مذهلة. و ارتفع الجذع صاعدًا نحو السماء بزئيرٍ صامت، وتفرعت منه أغصانٌ ضخمة كأنها عظامٌ عملاقة، امتدت لتغطي الأفق كله.
تحولت في طرفة عين إلى شجرةٍ عظيمة الشكل، واقفةٍ بشموخٍ يكاد يلامس السحاب.
“أهذه هي……شجرةُ العالم؟”
تمتم أحد الجنود بصوتٍ مبحوحٍ من الذهول.
كانت الشجرة الضخمة تبثّ نورها الخاص. من لحائها تسيل أنوارٌ بيضاء ناعمة، ومن بين أوراقها الكثيفة تساقطت ذراتٌ من السحر الذهبي، كغبار النجوم المنسكب من السماء.
لقد كان مشهدًا يتجاوز حدود الوصف، جمالًا لا يعبّر عنه سوى الصمت المرهف الممزوج بالرهبة — تجلّي معجزةٍ ولدت من تآلف النار والذهب والحياة.
__________________________
صح طيب من ام ارييلا؟ وهي تقول قصة التنانين احسب بيجي طاري امها بس الحين صدق وش السالفه؟
و لودفيك عربجي متعود يفجر ويحرق ماتعود على ذا الهدوء 😭
التعليقات لهذا الفصل " 175"