“أتعلمين يا أرييلا، لماذا تخلّى قومي عن بيضتي وتركها هناك؟”
في تلك اللحظة، شعرت أرييلا بانقباضٍ في صدرها، فلم تستطع أن تنبس ببنت شفة.
فمن ظروف العثور على بيضته، كان واضحًا أنها كانت بعيدةً عن حماية قومها.
والنتيجة؟ لقد واجه الصغير ما لم يكن ينبغي لحاضنةٍ أن تمرّ به.
وفي النهاية، عادت كلّ خيوط الحكاية إلى سؤالٍ واحد: لماذا تُركت البيضة أصلًا؟
تُركت. اختيار باي لهذه الكلمة كان أمرًا طبيعيًا إلى حدّ ما.
“باي، التنانين تعتبر صغارها أعزّ من أرواحها، بل يهب القوم بأكملهم لحمايتها.”
حتى اختلاف لون الحراشف لم يكن ليفرق بينهم.
“أتذكر كاليثير؟ كان من العشيرة الحمراء، ومع ذلك طار إليكَ دون تردّد، وانتقم لك من قافلة فيدوِك، ووجّه تحذيرًا للعالم السفلي بأسره.”
“ولهذا لا أستطيع أن أفهم.”
تمتم باي بصوتٍ خافت وبملامح حزينة لم يعتد أن يُظهرها.
“العمّ الأحمر فعل ذلك لأجلي، فلماذا إذن ترك أبناء عشيرتي، الذين يملكون الحراشف ذاتها، بيضتي هناك؟”
“ربما تركوا عشيرتكَ بيضتها وحيدة……لأنه لم يكن أمامهم خيارٌ آخر.”
“خيارٌ آخر؟”
“نعم، ربما كان الأمر مرتبطًا بخطرٍ داهم أجبر العشيرة بأكملها على مغادرة العالم السفلي، ومع ذلك كان لا بدّ من أن تُترك أنتَ هناك لسببٍ في غاية الأهمية.”
ظلّ وجه باي غارقًا في الحيرة. أيّ خطرٍ ذاك الذي قد يهدد عشيرة التنانين الذهبية، تلك الكائنات الحكيمة الجبّارة؟
حتى أرييلا، آنذاك، لم تكن تملك جوابًا. و كلّ ما استطاعت فعله هو أن تضمّ رأسه الصغير إلى صدرها وتربّت على حراشف عنقه السفلى لتواسيه.
ومضى زمنٌ طويل بعد ذلك. إلى أن حان اليوم الذي وقفت فيه وجهًا لوجه أمام باياكيا.
حينها فقط، وجدت أرييلا جواب السؤال القديم.
***
حتى بعد أن طُردت الشياطين من الغابة، و صنعوا الشمس بالسحر، وأقاموا مفهوم الملوك، وتطوروا إلى مجتمعٍ زراعي، ظلّت التنانين الذهبية تقيم في غابة شجرة العالم.
لكن العلاقة بين الشياطين والتنانين الذهبية بدأت تتغير شيئًا فشيئًا.
فمع مرور الزمن، لم يعد الشياطين ذلك الجنس البدائي كما كانوا، ولم يعودوا خاضعين خضوعًا أعمى لتنانين الذهب.
وفي نهاية المطاف، اعترفت التنانين الذهبية بالشياطين كشركاء في السكن داخل العالم السفلي.
بل إن باياكيا نفسها شجعت على غرس عددٍ من أشجار العالم الجديدة في أراضيها الخاصة.
وخلال تلك الفترة، بدأت التنانين الذهبية بمراجعة قراراتها الماضية، وارتفعت أصواتٌ تشكك في صواب ما فعلوه سابقًا.
أكان حقًا صائبًا أن يُنفوا الشياطين إلى أرضٍ قاحلة لمجرد أنهم تعاملوا مع النار؟ تساؤلاتٌ أخلاقية ثقيلة كانت تُثقل كواهلهم.
و حتى تلك اللحظة، بدا كلّ شيءٍ على ما يرام. إلى أن تضاعف عدد الشياطين بشكلٍ هائل، وتكاثرت الشموس في السماء إلى حدٍ لم يُتخيل.
“باي، جوهر التنانين الذهبية هو التآلف والانسجام.”
“الانسجام والتآلف؟”
“نعم، أنتَ الدليل على ذلك. فأنتم من أنبت براعم شجرة العالم، وأنشأ نظامًا بيئيًا تعيش فيه أجناسٌ متعددة بانسجام.”
لكن شيئًا ما بدأ يختلّ في منظومة السحر التي تملأ أجواء العالم السفلي.
فالشموس التي صنعتها الشياطين من صراعهم وغضبهم للبقاء بثّت ذبذباتٍ خشنة وغير متوازنة في أنحاء العالم السفلي كله.
هذا الاضطراب الهائل لم يؤثر كثيرًا في بقية التنانين. فتنانين النار والأرض والجليد، التي تمتلك خصائص أحادية، لم تشعر إلا بضجيجٍ سحريٍّ محتمل.
“لكن بالنسبة للتنانين الذهبية، التي تمثل الكمال في التآلف والانسجام، كان لذلك أثرٌ بالغ.”
أطلق التنانين الذهبية على هذه الظاهرة اسم “اللاتناغم السحري” أو ماجيكا أسيمفونيا (Magica Asymphonia).
وقد جلب هذا اللاتناغم لهم ألمًا مزمنًا ووهنًا دائمًا، وأفسد توازن قواهم السحرية حتى أخذوا يذبلون شيئًا فشيئًا.
وفي النهاية، وجدت التنانين الذهبية نفسها أمام مفترق طرق.
“في الواقع، كان هناك سبيلٌ واحد فقط لحل مشكلة ‘ماجيكا أسيمفونيا’، طريقٌ يقضي على أصل المشكلة من جذورها.”
“وكيف ذلك؟”
“بتدمير جميع الشموس التي أطلقها الشياطين في سماء العالم السفلي، وإعادتهم إلى حالهم البدائي حتى لا يعيدوا الكرّة أبدًا.”
“ماذا؟!”
لكن فكرُ التنانين الذهبية كان قد تطور بقدر تطور حضارة الشياطين وفلسفتهم.
ولكي يُدمّروا تلك الشموس غير المتناغمة، لم يكن من الممكن تجنّب حربٍ شاملة ضد الشياطين. ولم يخطر ببال التنانين الذهبية يومًا أنهم سيخسرون تلك الحرب.
غير أن النتيجة المتوقعة؟ كانت فناء الشياطين التام، لا مجرد ارتدادهم إلى مرحلةٍ بدائية.
“بعد مداولاتٍ طويلة، قررت التنانين الذهبية أن تختار الطريق ‘الصحيح’ بدل الطريق ‘الفعّال والمضمون’.”
“أيعني ذلك……أنهم قرروا الرحيل؟”
“نعم.”
بدلًا من أن يُطهّروا العالم السفلي ويعيدوا بناءه بما يلائمهم، وبدلًا من إشعال حربٍ دامية تنضح بالدماء، اختارت التنانين الذهبية طريق الفراق المؤلم، وغادرت موطنها بملء إرادتها.
“لكن لماذا تركوني؟”
حين اتُّخذ القرار بمغادرة العالم السفلي، دارت بين عشيرة التنانين الذهبية نقاشاتٌ حادة.
إذ ظهرت آراءٌ تقول أن الفرار وحده لا يكفي. و أولئك الذين يمكن وصفهم اليوم بالمستقبليين قالوا، “لا يكفي أن نهرب، بل يجب أن نتدرّب على التكيّف!”
“العالم السفلي تغيّر، والعصر القديم الذي أحببناه قد انتهى.”
“في هذا العالم المليء بالشموس، ينبغي لنا ألا نهرب متشبثين بالماضي، بل أن نفتح الطريق أمام ذريّتنا لتتأقلم مع المستقبل الجديد!”
كانت فكرتهم أن بقاء جنس التنانين الذهبية لن يتحقق إلا إذا تطوروا هم أنفسهم وتأقلموا مع بيئتهم.
وعلى إثر ذلك، اتخذت التنانين الذهبية أكثر قراراتها ألمًا في التاريخ. أن تترك عمدًا بيضةً واحدة — أغلى من أرواحها — في العالم السفلي.
وبموجب “عهد الشمس الذهبية”، تولّت باياكيا شخصيًا مسؤولية حمايتها.
وحين كان الانتقال إلى عالم البشر يتطلب وقتًا طويلًا، جرى تنفيذ هذا القرار قبل زمنٍ بعيد، حتى قبل اختفاء آخر تنينٍ ذهبي بألف عام.
“تلك البيضة كانت أنت، يا باي.”
وكانت فرضيتهم كالآتي، ماذا لو بقيت بيضةٌ غير مفقوسة، في أنقى حالاتها، تحت ذبذبات شموس الشياطين……لآلاف السنين؟
حين تفقس، فإن الفرخ الذي بداخلها سيولد وهو يملك مقاومةً طبيعية لتلك البيئة، ليصبح أول تنينٍ ذهبيٍ قادرٍ على العيش في العصر الجديد.
“لقد رحلت التنانين الذهبية إلى عالم البشر، لكنها كانت تعلم أن ذلك العالم أيضًا ليس مثاليًا لسلالتها. فمستوى الطاقة السحرية في جوّه كان — على النقيض من العالم السفلي — نادرًا وشحيحًا للغاية.”
ذلك كان مأزق التنانين الذهبية. فالعالم البشري، حيث السحر ضئيل، لا يمكن أن يكون سوى ملجأ مؤقت، لا موطنًا أبديًا.
أما العالم السفلي — موطنهم الأصلي — فقد غدا أرضًا لا تُطاق بسبب فوضى شموس الشياطين.
وفي النهاية، لكي يتمكنوا من العودة إلى العالم السفلي والعيش فيه بانسجامٍ من جديد، كان لا بدّ من جيلٍ جديد، قادرٍ على التكيّف مع البيئة المتبدلة.
ذلك الجيل الجديد كان هو المفتاح الذي يربط بين القديم والجديد.
“باي، أنتَ الآن تعيش في العالم السفلي دون أن تشعر بأي ضيق، أليس كذلك؟”
“طبعًا! أنا بخيرٍ تمامًا!”
“إذاً، فقد نجح اختبارهم.”
***
الوقت الحاضر. مملكة الشياطين، تحت حكم الملكة هيلينا.
بينما كانت تستعيد في ذهنها ما دار بينهما من أحاديث، نظرت أرييلا نحو باي.
“غرووونغ، غرووونغ!”
كان باي في الآونة الأخيرة بمزاجٍ رائع، بعدما بدّد بفضل أرييلا تلك الغمامة التي كانت تظلل قلبه منذ زمنٍ بعيد.
فتلألأت في عيني أرييلا نظرة رضا ودفء.
“مقارنةً بيوم لقائنا الأول، لقد كبرتَ كثيرًا.”
“هاه! طبيعيٌ جدًا!”
نفخ صدره بفخرٍ واعتداد.
ومن خلفه، تمتم لودفيك بنبرةٍ متبرّمة،
“مع كمية ما يلتهمه يوميًا، لتعجبنا لو لم يكبر!”
“لا تقسُ عليه، إنه في مرحلة النمو.”
مدّت أرييلا يدها وربّتت على رأس باي.
فهذا الفراخ الصغير، سيغدو يومًا ما المفتاح الذي سيفتح الطريق لعودة بني جنسه الذين رحلوا إلى عالم البشر.
جسده، الذي تطور ليقاوم اضطراب السحر في هذا العالم، كان في حد ذاته الجواب الحيّ، والمخطط الذي سيرسم ملامح العصر الجديد.
وعندما يعود التنانين الذهبية في المستقبل البعيد، سيتعلمون من وجوده كيف يعيشون ويتأقلمون في عالمٍ تغيّر.
لكن أيّ شكلٍ سيتخذه ذلك التطور العظيم؟ وكم سيمضي من الزمن حتى يتحقق؟ حتى أرييلا لم تكن تعلم.
‘لكن المؤكد أنه سيحدث، لا محالة.’
وبينما كانت تلمّ شتات أفكارها، ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خفيفة. ثم تحدّثت الى باي،
“هيا، لنبدأ.”
وفيما الجميع يحبس أنفاسه مراقبًا المشهد، ابتعدت أرييلا قليلًا عن الدائرة السحرية.
تحت شمسٍ بنفسجية ملوّثة تبثّ في الأفق شعاعًا غريبًا، داعبت الرياح القاحلة شعرها الأحمر وهي تمضي.
ثم جثت بهدوء على الأرض الجافة المقفرة. وأخرجت من صدرها شيئًا صغيرًا بحذرٍ بالغ — بذرة شجرة العالم، التي بدت كأنها فقدت كل حياة، لا تختلف عن حصاةٍ باهتة لا روح فيها.
__________________________
يانه باي المستانس🤏🏻 تو ادري انه كان يوجعه انه لحاله والحين ياناس ابي اضمههههه اشوا ارييلا عنده
لودفيك طول الفصل مختفي وساكت مانطق الا عشان يطقطق😂 او انه غيران يوم ارييلا طول الوقت عينها على باي 😘
التعليقات لهذا الفصل " 174"