غابة الجان كانت تعجّ بالحياة. أرض الثراء التي تمتدّ عليها أنوار شجرة العالم الهادئة.
كانت فيلي تزور هذا المكان بانتظام، ومع ذلك كان التغيّر فيه يدهشها في كل مرة.
‘منطقة الإنت تغيّرت كثيرًا حقًا.’
فبدل السكون الراكد الذي كان يخيّم على هذا المكان في الماضي، راحت حيويّةٌ صحية تتدفّق في كل أرجائه.
“آه…..لقد جئتِ إذاً.”
حرّك أحد الإنت أغصانه حين لمح فيلي. وبما أنها كانت قد أرسلت إشعارًا مسبقًا بقدومها، لم يُبدِ أيّ توتر أو نية لطردها.
ابتسمت فيلي ابتسامةً متوترة،
“مرحبًا، كيف حالكم؟”
كانت فيلي، بصفتها مبعوثةً من مملكة لودفيك ملك الشياطين، تتردّد عادةً على قرى الجان، لكنّ وجهتها اليوم كانت إلى زعيم الإنت في هذه الغابة.
وأثناء سيرها خلف دليلها، لم تستطع أن تُهدّئ ارتجاف أجنحتها من التوتر.
غير أن ملامحها تغيّرت فجأة حين رأت شيئًا أمامها.
“آه!”
انفلتت منها شهقة إعجاب دون قصد.
“يا إلهي…..ما أجملهم!”
كانت شتلات الإنتات الصغيرة قد غرست جذورها في كل مكان.
تلك الأشجار الصغيرة التي لم تكد تخرج براعمها بعد، كانت تنظر إلى فيلي بفضول طفولي لا تخفيه.
وبعض الشتلات مالت برؤوسها الصغيرة وهي تتابعها بعينين لامعتين، وأخرى تشابكت أغصانها معًا تهزّها بخفة كأنها تتضاحك.
اقتربت فيلي بخطواتٍ حذرة، فمدّت إحدى الشتلات الجريئة جذورها قليلًا نحو قدميها، ثم أطلقت من بين أوراقها الغضة غصنًا رقيقًا ليلمس بخفة أطراف أصابعها، وكأنها تلقي التحية على صديقة جديدة بخجل.
فارتسمت على شفتي فيلي ابتسامةٌ دافئة.
“لقد نمت الشتلات كثيرًا!”
أومأ الدليل بأغصانه تأييدًا، وكان في صوته حين أجاب نغمة فخر وسعادة.
“صحيح، لقد هاجر نصف إخوتنا إلى الأراضي الجديدة، وهذا ما أتاح لنا الزرع من جديد.”
فبفضل هجرة نصف الإنت البالغين إلى أراضي لودفيك، تمكّن الباقون من غرس بذورٍ جديدة. والآن كانت الشتلات تنمو مزدهرةً تحت ظلال شجرة العالم.
“أهلاً بقدومكِ.”
بعد قليل، دوّى صوتٌ عميق وهو زعيم الإنت يرحب بها.
كان جذعه يحمل آثار السنين الثقيلة، كأن الزمن حفر عليه قصص القرون.
فتحدثت فيلي بانحناءةٍ خفيفة،
“لقد جئتُ لأنقل إليكم خطة السيدة أرييلا الجديدة.”
أنصت الزعيم بأذنه الخشبية المتعرجة، وكان ما سمعه كفيلًا بزعزعة سكينته التي دامت دهورًا.
“…..تنوون زراعة شجرة عالمٍ جديدة؟”
اهتزّ جسده الضخم ارتجافًا طفيفًا، وبدأت همهمات القلق تنتشر بين الإنت من حوله.
لقد تحققت أحلامهم العظيمة فعلًا—إيمانهم بأن التنين الذهبي سيقودهم إلى أرضٍ جديدة صار واقعًا، وبذلك تمكّنوا من إنجاز أمل انتظروا قرونًا لتحقيقه: استمرار نسلهم.
لكن ذلك لم يكن نهاية كل المشكلات. فالحدّ الأكبر لم يتغيّر—شجرة العالم لم تعد تنمو.
ومع ذلك، ها هي تلك الجنية الصغيرة تتحدث عن أملٍ بدا مستحيلًا لزمن طويل.
“هل هذا…..حقًا ممكن؟”
إن صار هذا حقيقة، فسيكون بإمكان الإنت الانتقال إلى مناطق لا تمتد إليها بركة التنين الذهبي.
فأيّ مكان تضرب فيه جذور شجرة عالم جديدة يمكن أن يصبح موطنًا لهم.
شرحت فيلي الخطة بهدوء، كما أوصتها أرييلا تمامًا، ومع مرور الوقت تبدّل الاضطراب الذي عمّ الغابة إلى دهشة، ثم إلى رجاء يضيء كالضياء بين الأوراق.
وحين انتهت من حديثها، لزم الزعيم صمتًا طويلًا، و بدت على ملامحه علامات تفكير عميق.
“…….”
وأخيرًا، اتخذ قراره، فانتزع جذوره من الأرض ببطء، وتحرك بجسده الثقيل.
غغغغغغغ…..
اتجه إلى أعمق مكانٍ في الغابة، حيث تبدأ جذور شجرة العالم—الملاذ المقدس. قلب الغابة النابض.
كانت تلك الشجرة العظيمة ترتفع إلى السماء كبرج من النور لا كجذع شجرة. و من لحائها كان ينساب ضوءٌ لطيف مقدس، ليس بضوء الشمس بل بنوره الخاص، يبدد الظلال من حوله.
ومن أطراف أغصانها المتشعبة كانت تتناثر ذرات السحر كأنها غبار ذهبٍ يلمع في الهواء.
أما جذورها السميكة فكانت تتلوى تحت الأرض، تبثّ الحياة في كل أنحاء الغابة.
لم يكن يبدو على السطح أيّ خلل. لكن—
‘سيدتنا الشجرة قد شاخت بالفعل.’
تمامًا كما يتخاطب الإنت بلغتهم النباتية الفريدة، كان الزعيم قادرًا على استشعار مشاعر تلك الشجرة الجليلة.
لقد كانت تفيض حنينًا إلى ماضيها الكامل، وفي الوقت نفسه، كان فيها حزنٌ عميق على المستقبل الذي يقترب منها بخطى بطيئة وثقيلة.
فماذا لو ذبلت أشجار العالم الخمس جميعها؟
في المدى القريب ستختفي غابة الجان، وسيُهجّر منها كل من عاش في ظلالها.
أما على المدى البعيد، فحتى توازن الحياة في عالم الشياطين سيتعرض للانهيار، إذ إن نباتاته وحيواناته تطورت على ضوء الشمس وتناغم شجرة العالم معًا عبر العصور.
غغغغغغغ…..
بعد برهة، عاد الزعيم وهو يحمل بين أغصانه شيئًا يحتضنه بعناية بالغة.
“انقليه من فضلكِ.”
كانت في يده بذرة، لا تزال رطبةً من أثر التربة، لكنها بدت كأنها فقدت روحها.
“إنها بذرة شجرة العالم.”
أومأت فيلي برأسها.
‘كما توقعت.’
لقد احتفظوا بها طوال هذا الوقت.
“يبدو أن الإنت حاولوا بالفعل إنباتها من قبل.”
“صحيح.”
هزّ الزعيم أغصانه الثقيلة موافقًا.
“حين توقفت شجرة العالم عن إنجاب نسلٍ جديد، حاولنا بكل وسيلة أن نجد حلاً.”
كان الجان لا يبالون كثيرًا بمثل هذه الأمور، أما في غابات الجنوب، فلم يكن بين الكائنات التي تقدّس شجرة العالم من يملك القدرة على التنقل سوى الإنت.
لذلك جابوا جنوب عالم الشياطين بأسره، باحثين عن أرضٍ قد تستجيب فيها البذرة وتستيقظ من سباتها.
“لكن مهما زرعناها، لم تنهض البذرة من نومها. كأنها كانت تنتظر شرطًا آخر لم يتحقق بعد.”
كانت شجرة العالم، منذ زمن بعيد، تبثّ إحساسًا غامضًا بالحنين إلى شيءٍ مفقود لا يعود.
ظنّ الإنت أن ذلك قد يكون مرتبطًا بالتنين الذهبي، فبعد ظهور باي، زرعوا بذرة في أرضٍ نالت بركته.
لكن حتى هناك، لم تُنبت. ومع توالي الفشل، خاف الإنت أن تتلف البذرة الثمينة، فآثروا الاحتفاظ بها بعناية، أملًا في مستقبلٍ قد يأتي فيه من يستطيع إيقاظها من جديد.
ثم سلّم الزعيم تلك الأمانة الثقيلة إلى كفّي فيلي الصغيرتين.
“رجائي…..أن تجد هذه البذرة حياةً جديدة تنبض فيها من جديد.”
***
في أراضي ديلّارك القديمة، التي صار اسمها الآن “مملكة هيلينا”.
هوووووش!
هبت ريحٌ قاحلة تحمل غبار الأرض الميتة.
رغم طلوع الشمس، بدت الأرض مظلمةً كأن الليل لم يرحل بعد. و وقفت أرييلا هناك، وإلى جانبها لودفيك وباي.
“الوضع أسوأ مما توقعت.”
قالت ذلك وهي تعقد حاجبيها. فالشمس التي كانت تنشر الحياة باتت باهتة، يغلفها وهجٌ بنفسجي مشؤوم.
تحتها، كانت الأرض التي كانت يومًا أخصب بقاع الجنوب تموت بسرعةٍ مذهلة.
أدركت أرييلا مجددًا أنه إن استمر الزمن على هذا الحال، فلن تبقى في هذا المكان سوى الوحوش.
“السيدة أرييلا؟”
سأل أحد الجنود، فأومأت برأسها. ثم فُتح باب العربة عندها، ونقل الجنود بحذر هيلينا التي كانت فاقدة الوعي.
ضغط لودفيك شفتيه وهو يراقب المشهد.
“كما توقعت…..الأمر ليس طبيعيًا.”
وكان محقًا في قوله. فروح هيلينا كانت قد اتصلت بالفعل بشمس هذه الأرض، تلك حقيقةٌ لا شك فيها.
وعندما يُتوَّج ملكٌ جديد، تنزل من السماء شعلةٌ من نور الشمس لتتخذ هيئة تاجٍ فوق رأسه، تاركةً أثرًا من السحر يعلن ميلاد سيدٍ جديد.
ذلك هو الطقس الذي يشهد الجميع من خلاله ولادة ملك الشياطين الجديد.
صحيحٌ أن تتويجها تم أثناء وجودها في أراضي لودفيك،
لكن بمجرد عودتها إلى مملكتها كان ينبغي لتلك العلامة أن تظهر الآن.
غير أن…..
“الشمس لا تمنحها ضوءها.”
“صحيح.”
رفع لودفيك بصره إلى السماء بعينين متصلبتين.
“كما قلتِ…..تلك الشمس لم يعد فيها ما يُنقَذ.”
كان على الأرض أمامهم دائرةٌ سحرية أُعدّت سلفًا، فوضع الجنود هيلينا برفقٍ في مركزها.
أخذت أرييلا نفسًا عميقًا لتستجمع تركيزها. و في حضنها كان هناك مفتاحان لإنجاز هذه المهمة: جوهر الشمس، وبذرة شجرة العالم التي سلّمها الإنت.
الآن اكتمل كل شيء.
‘يجب أن أنجح.’
تلألأ في عينيها بريق التصميم والإيمان.
‘وهذان الاثنان…..سيفعلان نصيبهما أيضًا.’
كان يقينها في رفيقيها، لودفيك وباي، لا يتزعزع.
فمدّت يدها وربّتت على رأس باي،
“تعرف ما الذي سنفعله اليوم، أليس كذلك؟”
“أكيد! لم أنسَ ولا كلمة!”
أجابها باي مغرغرًا بفرحٍ ظاهر.
منذ أن انتهت الحرب، انشغلت أرييلا كثيرًا فلم يعد لهما وقتٌ يقضيانه معًا، لكن تحضير هذا العمل جعله يقضي معها أيامًا طويلة، فامتلأ قلبه سعادة.
وفوق ذلك كله، كان قد علم منها حقيقة مدهشة، إذ قصّت عليه أرييلا التاريخ القديم الذي سمعته من باياكيا بنفسها.
“باي، التنانين الذهبية في الماضي لم يتركوا بيضتكَ هناك إهمالًا.”
“حقًا؟”
“بل العكس تمامًا. لقد كنتَ أنت المختار، من بين كل التنانين الذهبية.”
_____________________
شجرة العالم ادري باي بيزرعها بس ليه لازم لودفيك؟ يحرقها؟
المهم اشتقت لرخص الفصل الي راح😔 ليه ماكملوه او على الاقل يستحون من بعض انا راضيه
التعليقات لهذا الفصل " 173"