تمدّد تحت قدميها مشهد مدينةٍ كاملة. و لم تحتج أرييلا إلى كثير من التفكير لتتعرف عليها.
“إنها مملكتي……مملكة ملك الشياطين الخاصة بنا……”
لقد كانت أرض لودفيك الحالية.
حقولٌ شاسعة يغمرها بريقٌ ذهبي، وفي أرضٍ مباركة بنعمة باي، كان الكوبولد والشياطين يعملون معًا في حصاد المحاصيل.
وفي السوق المزدحم، كانت الأعراق المختلفة تختلط وتبيع وتشتري بنشاطٍ ومرح.
ثم أظهرت الرؤيا مشاهد الورش التي تعمل تحت قيادة سيسيل، حيث تُصنع أسلحة الحديد الأسود بلا توقف.
وفي ساحة التدريب أمامها، كان أولكن يشرف على تدريب الجنود من مختلف الأجناس، وهم يرتدون دروعًا جديدة لامعة.
تحدّثت باياكيا بنبرةٍ مفعمة بالصدق،
“بعد موتي، تدهورت هذه الأرض بدل أن تتطور، لكنك أنتِ من أعاد إليها الحياة. ما فعلتِه حتى الآن ليس أمرًا يسيرًا، لذلك ستستطيعين تجاوز ما يواجهكِ من صعوباتٍ الآن. لا تستهيني بقدرتكِ يا أرييلا.”
كانت كلماتها تشبه إلى حدٍ بعيد النصيحة التي لطالما رددتها أم أرييلا لها.
ثم مدت باياكيا أصابعها نحو الرؤيا. و بدأت تتحدث عن كيفية إنبات شجرة عالم جديدة، وكيفية تحويل عقد القوة، وعن طريقة جذب الشمس الملوثة.
“لكن هذا ليس أمرًا يمكنكِ إنجازه وحدكِ. ستحتاجين إلى الاثنين.”
“اثنين؟”
فجأة تشكّلت في الرؤيا صورتان مأخوذتان على ما يبدو من ذاكرة أرييلا.
ملك شياطينٍ أسود الشعر بوجهٍ متجهم، وتنينٌ صغير ذو حراشف ذهبية.
“لودفيك و باي؟”
“نعم.”
ثم شرحت باياكيا لأرييلا الطريقة بصوت هادئ وواثق.
واستمر بينهما الحوار طويلاً في العالم الروحي، وخلال ذلك تدفقت إلى ذهن أرييلا كأنهارٍ من الضوء شظايا منسية من التاريخ وقوانين غابرة.
وبينما تتوارد تلك المعارف، أخذت في عينيها السوداوين تلوح لمعةٌ ذهبية رويدًا رويدًا.
نسيت أرييلا ضيق الوقت، وتمنت لو أن هذه اللحظة تستمر إلى الأبد، فباياكيا كانت تسخو عليها بمعرفةٍ قديمة انقطعت منذ عصور.
لكن لتلك اللحظة الجميلة نهايةٌ محتومة.
“ما أردتُ إخباركِ به يبلغ حده هنا.”
“آه!”
خرج صوتها مزيجًا من الحسرة والخيبة. فابتسمت باياكيا برضا لطيف.
“ما نلتِه يكفيكِ لتشقّي طريقكِ من الآن. عودي يا أرييلا.”
“ا……انتظري لحظة! ما زالت لدي أسئلةٌ كثيرة……!”
“ستكتشفين البقية بنفسكِ. لا ينبغي أن أبقيكِ هنا أكثر من هذا، من أجلكِ……ومن أجل ذلك الشخص أيضًا.”
“ماذا؟ من تعنين بـ ذلك الشخص؟”
“ألا تسمعينه؟ الصوت الذي يناديكِ بلهفة؟”
في تلك اللحظة، سمعَت أرييلا صدى خافتًا فوقها.
في البداية بدا كضجيجٍ غامض يتردد في الفضاء الأبيض، لكن شيئًا فشيئًا أخذ يتشكل إلى كلماتٍ مفهومة.
– …ـييلا!
نظرت أرييلا حولها، فلم ترَ أحدًا غير نفسها و باياكيا. فابتسمت باياكيا ابتسامةً هادئة.
“إن بقيتِ هنا أكثر، سيتحلل كيانكِ إلى محض بيانات، كما حدث لي. لا يجب أن يحدث ذلك. لقد تدخل هو في اللحظة المناسبة.”
واقترب الصوت أكثر، يحمل في طياته استعجالًا وقلقًا ولهفةً لا توصف.
“صوتٌ مألوف، أليس كذلك؟”
ثم دوّى النداء هذه المرة كأنه يهزّ الفضاء كله. و كان واضحًا تمامًا.
– أرييلا!
***
“أرييلا!”
منذ أن استخدمت أرييلا على لودفيك قوة عطر التنين ورأى “الحلم الذي كان يتمناه أكثر من أي شيء”،
و لم يمر يومٌ إلا وفكر فيه مرارًا.
في تلك العوالم الوهمية، في الطريقة التي كانت بها أرييلا تنظر إليه هناك.
في البداية، لم يعرف كيف يصف ذلك الشعور……لكنه الآن، كان يعرف.
تلك النظرة في عينيها……كانت النظرة ذاتها التي كان لودفيك يوجهها لأرييلا في الواقع.
فصرخ مجددًا،
“أرييلا!”
وما إن فتح باب غرفة القراءة حتى انكشفت أمامه لوحةٌ لا يمكن أن تكون واقعية.
في منتصف الغرفة، كانت أرييلا واقفة، وجسدها محاطٌ بضوء ذهبي لامع يكاد يعمي البصر.
‘ذلك الضوء……إنه ذات السحر الذي أظهرته في المرة السابقة!’
لكن المشكلة لم تكن في كونها تطلق طاقتها السحرية. المشكلة كانت في جسدها نفسه.
كانت ملامحها تتلاشى شيئًا فشيئًا، شفافةٌ كأنها تذوب في النور، وكأنها واقفةٌ على الحد الفاصل بين الوهم والحقيقة.
حين رأى لودفيك ذلك، اجتاحه شعورٌ نسيه منذ زمن طويل—الخوف.
شعر أن أرييلا ستختفي من هذا العالم في أي لحظة.
‘لا……لا يمكن!’
تحرك بغريزته، وسحب سيفه من خصره. أراد أن يشقّ ذلك الضوء الغريب بسيفه ويعيد أرييلا إلى هذا العالم.
لكن—
توقف!
لم يستطع أن يلوّح بالسيف.
في الماضي، كان ليضرب دون تفكيرٍ أو تردد. لكن الزمن الذي قضاه بجانب أرييلا كان كافيًا ليقيّده.
‘ماذا لو تسببتُ في إيذائها بيدي؟’
كانت ثمرة التدريب الطويل والتعليم الذي منحته إياه. ذلك الوعي بخطر الاحتمالات كبح اندفاعه الجامح، فارتجفت يده التي تشد على السيف.
وفي تلك اللحظة القصيرة من التردد—
فواااه!
تلاشى الضوء الذهبي الذي كان يلفّ أرييلا، وانساب كالماء داخل جسدها ثم اختفى.
فترنحت أرييلا، وقد بهت بريقها. وانفتح فمها بضعف.
“……آه.”
رغم أن الزمن في العالم الواقعي لم يتحرك إلا قليلًا، إلا أن في عالمها العقلي كانت دهورٌ من الحوار قد مرّت.
كانت قد تبادلت مع باياكيا أحاديث لا تُحصى، حتى شعرت أن رأسها سينفجر من فيض المعلومات التي انسكبت فيه.
‘جسدي……ثقيل.’
شعرت بالإرهاق ليس في ذهنها فقط، بل في كل خليةٍ من جسدها. كانت آثار الغرق الطويل في عالم الوعي والمعلومات.
شعرت كأنها استيقظت من سبات عميق. وكان المفتاح الذي أعادها إلى الوعي—هو صوت لودفيك.
“أرييلا!”
ألقى لودفيك السيف أرضًا واندفع نحوها. و أمسك بها قبل أن تنهار، وضمّها إلى صدره بقوة.
حين شعر بدفء جسدها وثقلها الحقيقي على ذراعيه، تنفس للمرة الأولى بارتياح.
لكنه لم يتركها. بل شدّ ذراعيه أكثر، كأنها قد تتحطم إن أفلتها.
“لودفيك؟”
نادته أرييلا بدهشة.
كان عناقه قويًا إلى حدّ أن أنفاسها اختنقت في صدرها. و نبض قلبه كان ينبض بعنف، يضرب جلدها وكأنه قلبها هي.
لم تختبر مثل هذا الموقف من قبل، حتى أن عقلها تجمّد للحظة.
“كنتُ.….”
همس صوته عند أذنها مرتجفًا. و لم يكن هذا الصوت صوت لودفيك الواثق، ولا ذاك اللامبالي المعتاد.
كانت تلك أول مرة تسمعه هكذا.
“ظننتُ أنكِ ستختفين……إلى الأبد.”
وظلّ يحتضنها طويلًا دون أن يفلتها.
كان يمكنها الآن أن تدفعه برفقٍ وتقول إنها بخير، لكنها لم تفعل. ربما لأن جسدها لم يستعد قوته بعد، وكان جسده يسندها كدعامة.
لكن كان هناك سببٌ أعمق من ذلك بكثير.
من بين ذراعي لودفيك، ومن كتفيه، ومن صدره، كانت تتدفق إليها مشاعر لا توصف— الارتياح الموجع لشخصٍ كاد يفقد أعز ما يملك.
رغبةٌ يائسة في ألا يترك ما استعادَه ثانيةً، وخوفٌ عميقٌ وطاهر يتجاوز كل ذلك.
حتى وسط ارتباكها، وجدت أرييلا نفسها تفكر.
‘إذن، ما الذي يشعر به لودفيك مني الآن؟’
ما اللون الذي تتخذه مشاعري داخله؟ ما النغمة التي يسمعها من قلبي؟
“…….”
ربما كان لودفيك في تلك اللحظة يشعر بمشاعرها أكثر مما تشعر هي نفسها بها.
لقد أمضت حياتها تطرح الأسئلة—عن أسرار هذا العالم، وعن التاريخ الغامض، وعن ذاتها، وعن لودفيك نفسه. لكن السؤال الذي خطر ببالها الآن—لم تنطق به.
بدلًا من ذلك، فتحت أصابعها المضمومة، ومدّت يديها لتضعهما برفقٍ على كتفيه، اللذين التصقا بها.
كان هذا وحده كافيًا الآن.
___________________________
اااااااااااااااااااااا!! اخيرا مومنت رايع يفجر المشاعر باقي الاعتراف ياولد 😘
ارييلا اشوا ضمته بعد هي ولا كان بصرخ ابي ضمه ثانيه
وهو خايف عليها ياناس يجنننن تكفى قل انك تحبها وهي ماعليها مسألة وقت وتستوعب 😘
التعليقات لهذا الفصل " 172"