“إنها في غرفة القراءة الخاصة بها، لم تخرج منها منذ الصباح.”
هل يمكن أنها غارقةٌ وحدها في أفكارٍ لا تجد لها جوابًا، كما حدث في المرة السابقة؟
لقد حدث أمرٌ مشابهٌ من قبل. كان ذلك بعد أن استمعت إلى اعتراف العبد الزومبي، لوكوم.
تذكر لودفيك جيدًا كيف فاضت منه تلك الليلة مشاعر خانقة من حزن عميق وغضب عارمٍ أتت من أرييلا.
‘لا، هذه المرة مختلفة……’
يبدو أن مزيجًا من مشاعر متباينة يملأها الآن. كأنها متحمسة، وكأن في داخلها شجن، وكأنها في الوقت نفسه تشتهي شيئًا بشدة.
تابع لودفيك طريقه إلى الأمام. حتى وصل في نهاية الممر، أمام مكتبها مباشرة.
“……؟”
كان هناك ضوءٌ ذهبي يتسرب من الفجوة الصغيرة بين باب مغلق بإحكام. وحين فتح الباب—
“أرييلا!”
صرخ لودفيك بصوتٍ أشبه بالنداء المذعور.
***
كظمت أرييلا صرخةً كادت تنفلت منها.
كانت القشعريرة التي تسري في جسدها لا تتوقف. فالمنظر الذي أرتها إياه باياكيا كان من الماضي السحيق.
أمام عينيها، كان أول ملوك الشياطين يقود شعبه ليعمّر الأرض ويؤسس فيها الحياة. ثم تكررت مثل تلك الأحداث في مواضع شتى، فازداد عدد شموس عالم الشياطين.
تاريخٌ قديم اندثر من الذاكرة.
لقد أدركت أصل ملوك الشياطين وسر نظام الشموس.
تحدّثت باياكيا بصوتٍ خافت،
“وهكذا، توازنت في عالم الشياطين طاقة شجرة العالم المستقرة مع طاقة الشمس المتدفقة.”
كان الشياطين، بقيادة ملكهم، يزرعون ويشيّدون البيوت المتينة ويطوّرون حضارتهم.
فردّت أرييلا بانفعالٍ ودهشة،
“لم أتخيل قط أن الشموس نفسها صُنعت بالسحر!”
ذلك النظام العظيم الذي يربط بين الملك وشعبه والشمس. كانت تظن أنه قانونٌ كوني وُجد منذ فجر الخليقة مثل قوانين الطبيعة.
لكن الحقيقة كانت مختلفة.
“إنه سحرٌ عظيم حقًّا، لقد غيّر قوانين العالم نفسها، وكأنه أنقذ بأسره جنس الشياطين.”
“صحيح، لقد كان أمرًا جللًا.”
أومأت باياكيا برأسها. غير أن نظرتها ما لبثت أن غامت.
“لكن منذ البداية، كان في هذا النظام حدّ واضح لا يمكن تجاوزه.”
وبينما تتحدث، تبدلت المشاهد من حولهما.
ظهر ملكٌ شيطاني قديم جالس على عرش مهيب، يرمق ما تحته بعينين جشعتين. كانت أرضه مزدهرة، لكن على وجوه شعبه سكنت ظلالٌ من الكآبة.
تبدّل المشهد مجددًا، فإذا بساحة حربٍ رهيبة، ملوك الشياطين يهاجم بعضهم بعضًا.
وكان المنتصر يسوق المهزومين من رعيّتهم عبيدًا ويضمهم قسرًا إلى أراضيه.
“إن نطاق ملك الشيطان يتوسع تبعًا لعدد سكانه، وبعض الملوك استغلوا هذه الثغرة أسوأ استغلال.”
“……إذًا حتى في العصور القديمة، وُجد من الملوك من فعل ما فعله ديلارك.”
“نعم، سواء كان حظًا أم سوء طالع، فإن شياطين اليوم نسوا، مع تدهور حضارتهم، خطايا أسلافهم.”
كان آيبيسيا و لودفيك وغيرهم من ملوك العصر الحاضر مذهولين من فكرة ديلارك الشريرة والجديدة، لكن في الحقيقة، كانت تلك الجرائم قد حدثت منذ زمنٍ بعيد.
“لقد دفع هذا القانون ملوك الشياطين إلى سباق لا ينتهي لزيادة السكان، فكانت الغزوات والحروب قدرًا محتومًا لعالمهم. ومن هنا نشأت ثقافةٌ تمجّد القوة وحدها.”
تحوّل الشعب من رعية تُحكم إلى مجرد موارد تُستهلك لتغذية الشموس.
وحين بدت على وجه أرييلا ملامح الأسى، تلاشى المشهد من حولها وعادت إلى الفضاء الأبيض النقي.
نظرت باياكيا إليها مليًا،
“وهناك خللٌ آخر……وهو أن القوة والمسؤولية متركزتان في شخص الملك وحده.”
أومأت أرييلا موافقة.
نعم، إن نظام الحكم في عالم الشياطين أكثر تطرفًا حتى من نظام البشر.
“فإن كان الملك صالحًا، ازدهرت الأرض، وإن كان طاغية، تحولت في لحظةٍ إلى جحيم. إن حياة عددٍ لا يُحصى من الشياطين مرهونةٌ بمزاج شخص واحد، وهذا نظامٌ بالغ الخطورة.”
حين أصبحت باياكيا حديثة العهد بلقب ملكة الشياطين، كان مستوى حضارة عالم الشياطين في حالةٍ يرثى لها.
رأت أرييلا من خلال الرؤيا أن حضارتهم آنذاك كانت متأخرةً حتى عن مستوى عالم البشر في تلك الحقبة.
ففي ذلك الوقت لم يكن في عالم الشياطين أي نظامٍ إداري منظم، وكان لقب “ملك الشياطين” مجرد اسم فخم لا يليق به سوى وصف “شيخ قبيلة” أو “زعيم عشيرة” أكثر من كونه حاكم دولة.
وفي وسط تلك الفوضى، كان شعب باياكيا محظوظًا إلى حد ما.
فبدل أن تنشغل بالحروب ونهب الشعوب وتوسيع أراضيها، اختارت أن تجعل مملكتها قوية بطريقةٍ مختلفة.
“لم يكن الأمر سهلًا، وأعظم العقبات كانت الجهل المطلق.”
ابتسمت باياكيا بمرارة.
“على سبيل المثال، عندما صرت ملكة، لم يكن في عالم الشياطين نظام كتابةٍ موحد أصلًا.”
“حقًّا؟ إلى هذا الحد؟”
“كان الشياطين يومها يتواصلون بالرسم. أشبه بالرموز الهيروغليفية، لكنها كانت تختلف قليلًا من شخصٍ لآخر.”
تأملت أرييلا في مدى قِدم هذه الكينونة التي تقف أمامها الآن. وأدركت من جديد كم يطول عمر ملوك الشياطين.
لا بد أن باياكيا قد حكمت لأزمانٍ تعادل تعاقب عشرات الملوك في عالم البشر، إلى أن بلغت تلك الحضارة البدائية أوج ازدهارها وتفتحت أزهارها.
فجأة! انبسطت أمام أرييلا رؤيا جديدة.
ظهرت فيها باياكيا في شبابها. كانت ملامحها شبيهة بصورة التفكير التي تحدثت معها حتى الآن، لكن عينيها كانتا تشتعلان بعزيمة حارقة.
كانت واقفةً أمام دائرة سحرية وهي تردد تعويذةً لم يجرؤ أحدٌ على تجربتها من قبل.
“لم يكن هدفي أن أصبح ملكةً قوية فحسب، بل كنت أطمح إلى إمكانياتٍ جديدة وإلى الابتكار.”
امتزج صوتها بالحماس.
“كنت أريد أن أبعث في عالم الشياطين، الذي لم يعرف سوى القتال ونهب الشعوب، روح نموٍ مختلفة، طاقةٌ من نوع جديد.”
وحين أضاءت الدائرة السحرية، انشقّ الفضاء فجأة، وظهر شخصٌ أمامها.
“آه!”
شهقت أرييلا بدهشة. فقد كان القادم بلا قرنٍ على جبينه.
“إنسان!”
“صحيح.”
كان الإنسان المستدعى يرتدي لباسًا فاخرًا، لكنه من طراز عتيق يصعب تحديد زمنه.
ومع أن الرعب كان يكسو وجهه، إلا أن باياكيا لم تهدده، بل مدت إليه يدها.
“كان عالم البشر آنذاك أكثر تطورًا من عالم الشياطين. ربما بسبب قصر أعمارهم، كانت رغبتهم في الابتكار تفوق رغبتنا بكثير. إن إبداع الإنسان ونظامه في الحكم هما الحكمة التي كان عالم الشياطين في أمسّ الحاجة إليها.”
كانت كلماتها تنبض بيقينٍ تجاوز حدود الزمن.
وتبدّل المشهد، فظهرت باياكيا والرجل يعملان معًا على ابتكار نظام كتابةٍ جديد.
كانا يدمجان بين الرموز التصويرية القديمة في عالم الشياطين وبين الحروف الصوتية المستخدمة في عالم البشر.
ارتجف جسد أرييلا بالانفعال.
‘إنها النسخة الأولى من حروف عالم الشياطين التي نستخدمها اليوم!’
شعرت وكأنها وجدت جوابًا لسؤال ظلّ يؤرقها طويلًا.
نظام معقّد من 143 حرفًا ساكنًا و72 حرفًا متحركًا، بالإضافة إلى 1240 رمزًا دلاليًا و45 رمزًا صوتيًا.
وكان بعض تلك الحروف يشبه إلى حدٍ غريب رموزًا قديمة استخدمها البشر منذ أزمان بعيدة.
كانت تظنها مصادفةً أو تطورًا متشابهًا، لكن الحقيقة كانت أنها تأثرت بعالم البشر منذ البداية.
تابعت باياكيا حديثها،
“لقد منحت ذلك الإنسان سلطةً تقارب سلطتي. كانت تلك أول محاولةٍ لإدخال مفهوم التوازن والرقابة إلى حكم عالم الشياطين.”
فالملك الشيطاني يبث قوته العظمى، والمتعاقد البشري يهديه بحكمته إلى الطريق القويم.
“نجح الأمر. حين امتزجت قوة الشياطين بحكمة البشر، ازدهرت مملكتي بسرعةٍ مذهلة. بل ربما، في أواخر تلك الحقبة، تجاوزنا البشر أنفسهم للحظاتٍ وجيزة.”
التعليقات لهذا الفصل " 171"